الدولة اولا والسلطة ثانيا احزاب مصر ما بعد الثورة

 

الدولة أولاً والسلطة ثانياً

أحزاب مصر ما بعد الثورة

د. نزار بدران

عندما خرجت الملايين من أبناء وبنات الأمة متظاهرين، لإخراجها من سُباتها العميق الذي دام لعدة قرون، تلقفت هذا الحراك أيدي الأحزاب المتواجدة أصلاً بالساحة العربية؛ إسلامية وليبرالية أو يسارية، ووجدت نفسها بعد سنين عجاف طويلة في موقع السلطة. حدث ذلك في مصر في العام 2011، وكذلك في ليبيا واليمن. ولكن النتيجة الظاهرة والملموسة حتى الآن، أن هذه الأحزاب بكل اتجاهاتها الفكرية، لم تستطع أن تحمل أحلام الناس، ولم تحقق شعاراتهم في الحرية والكرامة، والتخلص من الفساد والظلم والتهميش.

لماذا هذا الفشل، ومن هو المسؤول عنه؟، هل هو فشل الملايين الثائرة المتظاهرة سلمياً، والتي أسقطت حكومات ورؤساء، رسخوا أركانهم بأرض الفساد لعشرات السنين، وضربوا عميقاً جذورهم في دولتهم العميقة، أم فشل الأحزاب التي استلمت الراية منهم، ولم تكن قادرة على دفع سفينة الحرية باتجاه ريح الثورة، لتصل إلى بر الأمان؟.

هناك من يتهم المتظاهرين باستباقهم الأحداث، وكان عليهم الانتظار حتى يخرج من صفوف الأمة رجالاً عظاماً، ليلهموا الحراك الثوري، قد نتمنى ذلك؛ ولكن لا نستطيع أن نفسر به أي حركة ثورية أو إنتفاضة بالعالم؛ كانتفاضة “تيانان مين” في الصين في العام 1989، أو الثورات الملونة في أوروبا الشرقية الشيوعية بنهاية القرن الماضي.

حركة الناس تخضع لقوانين لا تلتزم الخطط التي يضعها المفكرون بالعالم؛ وانهيار الاتحاد السوفيتي الذي لم يتوقعه أحد، أو عديد من أحداث العالم يُثبت عدم جدية طرح انتظار “الإمام المُنقذ” للجماهير المُعذبة، والثورة الفرنسية نفسها والتي كان لها مفكروها  العظام، لم تكن لتوجد أصلاً لو لم تتغير المُعطيات الموضوعية على الأرض، وخصوصاً بدءا من الثورة الصناعية بأوروبا، انطلاقاً من بريطانيا؛ ولم يكن للمفكرين أي دور في تفجير الثورة وقيادتها، وإنما فقط بمحاولة إضاءة شعلة انطلاقتها، وإلا لما رأينا الإرتدادات العنيفة وقتها وفي زمنها.

الفرق بين الثورات الناجحة، والمُجهضة أو المُتعثرة كما هي أحوالنا، هو من سيستلم الراية التي رفعتها الجماهير بشكل تلقائي؟، في الحالة الفرنسية استطاعت هذه القيادات الشابة أن تصل بعد عناء، وبعد فترة طويلة من زمن الردة (عودة الملكية 34 عاماً بعد الثورة) إلى أن تصل بالنهاية لإقامة دولة الحرية والديمقراطية والعدالة التي يطمح لها الفرنسيون. وفي أوروبا الشرقية هناك تحول ناجح كبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية، وآخر أقل نجاحاً كروسيا الاتحادية أو أوكرانيا.

المثل المصري حري بالدراسة والتحليل؛ فمصر هي أكبر دولة عربية وشعارات شبابها الثورية كانت بغاية الوضوح (حرية، كرامة، عدالة إجتماعية) وملايين البشر خرجت للشوارع، وأسقطت نظاماً عتياً. ومع ذلك فهناك فشل في مصر، وعودة للنظام السابق، وبشكل أكثر قسوة، ومذابح رابعة العدوية وغيرها يُظهر ذلك.

السبب برأيي هو في التناقض الكامن بين ثورية الجماهير الهادرة، وإصلاحية الأحزاب التائقة للسلطة، فالناس لم تقبل إلا إسقاط النظام، بينما “الأحزاب الإسلامية” وبعض الليبرالية والقومية كانت على استعداد للتعايش معه، ومواقف “الإخوان المسلمين” وتهافتهم على طاولة عمر سليمان، ما زالت عالقة في ذاكرة الناس.

المشكلة إذن تكمن في الفكر الإصلاحي الطاغي على هذه الأحزاب، والذي دفعها أصلاً إلى اعتماد سياسات إصلاحية، بمعنى إصلاح الموجود وليس تغييره، مما أدى إلى التفاهم مع “الطبقة العسكرية” والتي هي أصلاً أحد أعمدة النظام السابق، ولها مصالح اقتصادية هائلة لن يقبل جنرالات هذا الجيش أن يتخلوا عنها.

الفكر الإصلاحي هو الذي دفع “الحكام الإسلاميين” الجُدد لمصر، لقبول قرارات المحكمة الدستورية التابعة للنظام السابق بحل البرلمان المُنتخب من الشعب، أو الطعن في شرعية المرشحين للرئاسة، وفرض الأسماء التي تريدها المحكمة. الفكر الإصلاحي هو الذي دفع “الإخوان المسلمين” إلى القبول بتقاسم السلطة مع الجيش، وإعطاءه صلاحيات غير مُراقبة ديمقراطياً من مُمثلي الشعب. كل ذلك أدى في النهاية إلى عودة جنرالات الجيش للسلطة، وإعادة “الإخوان المسلمين” للسجون أو دفنهم بالقبور.

الخطأ ليس في “الإخوان المسلمين” كمناضلين، وقد أثبتوا على مدار عشرات السنين استعدادهم للتضحية من أجل أفكارهم، ولكن هو في هذه الأفكار التي في أحسن الأحوال يمكن وصفها بالإصلاحية؛ التفاهم مع السلطة ومشاركتها الحكم، كان أقصى ما يمكن أن يحلم به “الإخوان”، زمن مبارك والسادات وجمال عبد الناصر.

إن نظرنا للموضوع من منظار الحركات الليبرالية والقومية واليسارية، فالأمر قد يكون أسوأ، فهؤلاء كانوا يتهمون “الإخوان المسلمين” بعدم الديمقراطية واستحواذهم على السلطة بالكامل، ونسوا أن الشعب المصري هو الذي خولهم ذلك على مدار خمسة انتخابات عامة مُتتابعة، لم ينجح بها هؤلاء المنتقدون ولا مرة واحدة. من الطبيعي في النظام الديمقراطي أن المُخول بالانتخابات على عكس ما يُعتقد، عليه واجب استلام السلطة وليس تقاسمها، فهي مسؤولية أنيطت به من قبل المُنتخبين.

هؤلاء الذين كنا نظنهم أمل الأمة بالحكم الديمقراطي، لم يجدوا أي حرج بالتحالف مع النظام السابق، مُمثلاً بجنرالات الجيش للإطاحة بنظام ديمقراطي مُنتخب من الشعب. ونجح السيد صباحي والسيد البرادعي الحائز على جائزة نوبل للسلام بإبعاد “الإخوان”، ولكنهم لم يستطيعوا كما كانوا يظنون استلام السلطة خارج إرادة الشعب وبالانتخابات. إن تسرعهم بالتحالف مع الفلول وأعداء الثورة يُظهر مدى هشاشة هذا الفكر، فظاهره ديمقراطي ولكن عمقه ديكتاتوري. فهو يهدف للوصول إلى السلطة بأي طريقة، ولا يحترم أبداً أصول التبادل السلمي للسلطة وقواعد العملية الديمقراطية، هو بشكل أو بآخر امتداد للفكر الناصري الذي يستمد شرعيته من طبقة الضباط المسيطرة على الجيش وليس من الشعب. ومثل الجزائر لم يُجد هؤلاء نفعاً، فمحاولة الجزائريين دخول الديمقراطية في نهاية الثمانينات وتنظيم انتخابات حرة، قبل بها حزب جبهة التحرير الحاكم، لم يمنعه من الانقلاب على العملية الديمقراطية لصالح بقاء الجيش بالسلطة، وإدخال البلاد في حرب أهلية استمرت أكثر من عقد، وأودت بحياة أكثر من ثلاثمائة ألف مواطن.

هرب البرادعي والإختفاء السياسي لصباحي، يدل أيضاً على ضعف هؤلاء، حتى في التفكير الصحيح لصالح حركاتهم السياسية، فأي دارس للتاريخ يدرك أن من يتحالف مع العسكر لن يترك له هؤلاء أي موضع قدم في السلطة، وجنرالات الجيش استعملوهم أيضاً كأدوات للوصول للحكم ثم أزاحوهم جانباً، فهم لا يريدون رقيباً؛ حتى من بين من يتحالفون معهم.

لذلك يتوجب على من يقرأ التاريخ من السياسيين، أن يعرف ذلك، فمثلاً الكاتب الفرنسي والمفكر الشهير “شاتو بريان” كان قد حذر الثوار من مغبة إعطاء السلطة للعسكر (وإلا راحوا بألف داهيه)، كان هذا في نهاية القرن الثامن عشر، ولم يستمع إليه الثوار، ووصل نابليون جنرال الجيش، وأدخل فرنسا في حروب لا تنتهي، وعادت الملكية بعد ذلك لمدة 34 عاماً.

الفكر الحقيقي للإنسان، هو ما يفعله، وليس ما يقوله، هذه قاعدة في الفلسفة، الفكر الديمقراطي هو بالأساس الممارسة الديمقراطية. التحالف مع قوى نظام سابق باغ، لا يمكن أن يوضع تحت شعار عدم التجربة وعدم المعرفة، فعبر التاريخ ودروسه متوفرة على الدوام، ويستطيع كل راغب الاستفادة منها، وإنما ذلك حقيقة هو انعكاس لفكر لا ديمقراطي، وإن تشدق بالعكس. فالدرس المصري أظهر بشكل واضح خطأ من كان يظن بإمكانية اليسار المصري والليبراليين والقوميين؛ على الأقل الجزء المُتحالف مع العسكر، وهم الأكثر ظهوراً، ببناء صرح دولة ديمقراطية حديثة، ورُب ضارة نافعة.

مأساة الشباب المصري الذي لم تتح له فرصة بناء أحزاب ثورية ذات قاعدة شعبية واسعة، أنهم وقعوا بين الإخوان المسلمين والأحزاب المُتحالفة مع العسكر، والذين لم يميزوا بين السلطة والدولة، فالتنازع على السلطة كان على حساب بناء دولة مصر الحديثة والتي على العكس، كان يجب أن تكون هدف كل عمل سياسي وبالتوافق، وأولوية كل الأحزاب المشاركة بالثورة.

الفترة الثورية الحقيقية تهدف دائماً إلى إنهاء النظام السابق بكل أعمدته، وإبعاد كل أطرافه وإخراجهم من اللعبة السياسية. وفي الحالة المصرية هم جنرالات الجيش والضباط المسيطرين على المخابرات والأمن وكبار قُضاة المحاكم العُليا المُعينين من مبارك وكبار رجال الأعمال الناهبين لعرق الجماهير. الهدنة مع هؤلاء وتقاسم السلطة كما فعل “الإخوان المسلمون” أو التحالف معهم، كما فعلت الأحزاب الأخرى المشاركة بإسقاط الديمقراطية، ما كان لكل هذا إلا أن يؤدي إلى ما آلت إليه الأوضاع في مصر الآن، من حيث انفراد الجيش الكامل بالسلطة.

المطلوب الآن عودة السلوك والممارسة الديمقراطية إلى أوساط الحركة الشعبية، والتعبئة من أجل إيجاد أحزاب ديمقراطية، تهدف أولاً وقبل كل شيء؛ إلى إعادة بناء دولة مصرية ديمقراطية تعددية، وبناء المؤسسات المستقلة القوية، ووضع أسس دولة المواطنة (للمزيد أنظر فيس بوك الدكتور نزار بدران) وليس على وضع برامج سياسية للحكم والسيطرة على السلطة، وكأن الديمقراطية قد رسخت والدولة الحديثة قد أُقيمت، وهو ما سيكون موضوعنا لمقال قادم.

 

طبيب عربي مقيم في فرنسا

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s