سياسات الدول وتضامن الشعوب

سياسات الدول وتضامن الشعوب

نزار بدران

عندما تتظاهر الشعوب بأعداد غفيره أو ما نسميه في بلادنا بالمليونيات، فإنها ترفع دائماً شعارات ثورية تدافع فيها عن قيم ومبادئ تعتبرها أساسية؛ فمليونيات ساحة التحرير بالقاهرة إبان الربيع العربي نادت بالحرية والعدالة الاجتماعية، ومرورا  باليمن سمعنا نفس الشعارات ونفس المطالب وكذلك في سوريا حين بدأت الثورة وصولاً للحراك البحراني عندما كان زخمه قوياً. نجد ذات المطالب في تظاهرات أوكرانيا وبوركينا فاسو اللواتي أطاحتا بالنظام القائم خلال العام الماضي ; حرية، كرامة ، ديمقراطية  عدالة اجتماعية و إسقاط الفساد.

الثورات المضادة وقوى النظام القائم تتصدى دائماً لهذه التحركات محاولة إخمادها في مهدها، والقضاء عليها حتى لو أدى ذلك إلى خراب البلاد والعباد. رأينا ذلك في ساحة  تيانينمن سنة 1989 في بكين أو رابعة العدوية في القاهرة أو مذابح سوريا الحالية.

عندما تحرك المواطنون الفرنسيون بالملايين بعد اعتداءات شارلي إيبدو ومناطق أخرى في باريس ، رفعوا أيضاً نفس الشعارات ؛ ولكن في ظل النظام الديمقراطي القائم  ، مطالبهم كانت تأكيد الحرية والديمقراطية وقيم الجمهورية التي رسّخوها مند أكثر من قرنين خاصة العلمانية وحرية التعبير.

وكما في ميدان التحرير لم نسمع في ميدان الجمهورية في باريس شعارات غير ذلك. لم يطالب أحد في تلك المظاهرة المليونية بالقصاص من العرب أو المسلمين، بل رفعوا شعارات المحبة والإخاء والتضامن بين كافة مكونات المجتمع الفرنسي ، لم يتفوه أحد بكلمة واحدة ضد العرب والمسلمين، بل طالبوا باحترام حقوقهم وخصوصياتهم.

أعرف ذلك تماماً فقد عشت ذلك اليوم كله وكنت جزءاً منه. وأي شعارات مسيئة خارج هذا الإطار تكاد لا تعد على أصابع اليد الواحدة من بين مليوني متظاهر.

إذاً  تدافع الشعوب دوماً عن مبادئ وقيم، بينما في المقابل تقوم السلطات في الدول الديمقراطية بالدفاع عن مصالح بلدانها وشعوبها قبل الاعتبارات الأخلاقية ، فالعلاقات الدولية كما نعرف مبنية على مبدأ التنافس وفي بعض الأحيان التناقض وعلى ومبدأ السيادة الذي يؤكده عملياً غياب قانون دولي مُلزم حقاً، لا تقبل هذه الدول التنازل عن جزء من سيادتها والاهتمام  بمصالح الآخرين إلا في إطار التجمعات الجهوية :  كالاتحاد الأوروبي الذي حد من سيادة أعضائه في ميادين مختلفة  ….فهو من الناحية الاقتصادية  وضع عملة موحده ورفع الرقابة على الحدود الداخلية للاتحاد وحرية التنقل والاستثمار والعمل. نلاحظ إذا أن مفهوم تفضيل المبدأ على المصلحة الضيقة للدول بحاجة إلى الحد من مفهوم السيادة والالتزام بقوانين مُلزمة للجميع بما فيها محكمة وهيئات مراقبة تفرض حين اللزوم العقوبات والغرامات.

في غياب هذه التجمعات الجهويّة لا يوجد اعتبار حقيقي في العلاقات بين الدول للمبادئ والقيم المُعلنه، هذه قواعد في السياسة من الصعب تغييرها دون إعادة النظر في القانون الدولي لتحويله إلى قانون مُلزم منتقصاً بذلك من سيادات الدول.

هذا التناقض بين مطالب الجماهير المتظاهرة بالملايين في ميدان الجمهورية بباريس وباقي فرنسا المُطالبة برفع والدفاع عن قيم الجمهورية الفرنسية من حرية وعلمانية تتناقض في ظاهرها مع سياسات الدولة الفرنسية المبنية على مبدأ المصالح كباقي دول العالم.

ولكن لو نظرنا قليلاً في العلاقة الجدلية بين شعوب هذه الدول الديمقراطية وحكوماتها وأحزابها فإننا نرى أن الأولوية في التأثير هي للرأي العام. أي لو استمر الفرنسيون بزخمهم الحالي في رفع شعارات الحرية والأخوة والتضامن والتي هي شعارات ثورتهم قبل قرنين فإن السلطات ستضطر لأخذ ذلك في الحسبان حين تمارس سياساتها الداخلية والخارجية.

انتقاداتنا للموقف الفرنسي إذا يجب أن يتوقف طويلا  حول هذه النقطة، وبرأيي أنه يجدر بمفكرينا وكتابنا وقادة الرأي العام أن يوضحوا أهمية العمل في الداخل الفرنسي والأوروبي للتأثير على الرأي العام لصالح المبادئ والقيم المشتركة بيننا وبينهم أي أولوية الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية في العلاقات بين الشعوب وغيابها في العلاقات بين الدول.

إنه من الخطأ باعتقادي، أن ننتقد الملايين التي رفعت شعار ” أنا شارلي ” ورفع شعارات مضادة  ” أنا لست شارلي ” مثلا، لأن هذا سيزيد من عزلتنا نحن الأقلية في فرنسا ويضع مستقبلنا ومستقبل أبنائنا في هذه البلاد في خطر. إن مبدأ الوقوف مع ملايين الشعب الفرنسي المتظاهرة والتي هي بحق تدافع عن مفاهيم مشتركة للإنسانية كحرية الرأي والتعبير ” بما فيها حرية النقد والاحتجاج ” وكرامة الإنسان بدون الالتفات للخصوصيات التي تُفرق كالاعتقاد الديني أو اللون أو الجنس.

إن تضامننا هذا سيعطينا زخماً حتى نطالب أيضاً بدعم هذه الشعوب لنا في بلداننا، والضغط على حكوماتها وهيئاتها السياسية لكي تفضل أهمية المبدأ التي ترفعه عالياً حناجر المتظاهرين على أهمية المصلحة التي ترفعها الحكومات أو على الأقل التوفيق بينهما.

ردة فعلنا كعرب ومسلمين على أحداث فرنسا يجب ان تكون واضحةً ; نحن مع الشعب الفرنسي في محنته دون أي تحفظ ، هذا ما يمليه علينا المنطق والمفهوم الإنساني لتضامن الشعوب  والمصلحة كذلك.

تعثر الربيع العربي بعد نجاحات أولية وعُنف الرد من طرف الثورة المضادة كما نرى في سوريا مثلا، حيث قُتل مئات الآلاف وشُرد الملايين سمح بظهور قوة جديدة مبنية على المفهوم المتطرف للدين الإسلامي السمح الداعي إلى استبدال  الديكتاتورية في بلادنا باستبداد آخر قد يكون أسوأ منه.

أبناء الربيع العربي خرجوا بالملايين كما رأينا بتونس ثم ساحة التحرير رافعين شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هذه النداءات تردد صداها  في الوطن العربي. عنف الرد لا يعني زيف الربيع العربي ولكنه يؤكد ضرورته وحتمية نجاحه، ولكن لم نكن لنتصور هذا العنف المضاد من انظمة كانت وما زالت تدّعي النضال ضد الاستعمار والصهيونية.

قوى اليمين الديني المُتطرف تضع أمام قوى هذا الربيع العربي وهو ضعيف التسليح وفقير الوسائل سداً جديداً وعقبة إضافية كنا بغنى عنها. ولكن هذا لن يوقف زحف الحداثة في وطننا العربي لأن ملايين الشباب لم يعودوا يخافون شيئاً وسيعود الربيع العربي مهما طال الزمن إلى المسار الصحيح.

وقوفنا نحن المؤمنين بحق الانسان بالحرية والكرامة في بلادنا وبلاد غيرنا مع الفرنسيين في مليونياتهم سيمنحنا الوسيلة للبدء بالتأثير على السياسات الغربية لصالحنا.

التمييز بين السلطة والشعب حتى في الدول الديمقراطية والعمل الدؤوب مع الشعوب للتأثير على السلطة هو ما سيصب في صالح انتصار قوى الربيع العربي على أعدائه، وهو الذي سيحمي الأقليات العربية والإسلامية من القوى اليمينية المتطرفة في ذلك الغرب نفسه.

رفع شعار ” أنا شارلي ” في شوارع فرنسا لا يعني أبداً دعم الشعب الفرنسي للرسومات المسيئة للرسول الكريم وإنما تعني رفضها للاعتداء على حرياتها، وهي لا تتصور حل مشاكلها بالسلاح بل بالقانون وبالقضاء رفع شعار ” أنا شارلي ” من طرف الجالية اللإسلامية أو ” هذا ليس بإسمي ” هو أيضاً لنفس الهدف.

لنتعلم عدم الخلط بين الأمور واستثمار مناسبة نادرة كهذا الحراك الواسع للشعب الفرنسي حتى نطالبه ونطالب حكومته وممثليه باحترام الشعارات المرفوعة لأنها هي نفسها التي رفعها أبناء تونس ومصر والبحرين، واليمن وسوريا بينما تقاعست هذه الحكومات عن دعمهم بل على العكس دعمت قوى الثورة المضادة أو على الأقل سكتت عن جرائمهم.

لا يستطيع المواطن العربي المظلوم المنكوب بحكوماته أن يفهم شعارات متظاهري باريس ويقف معها عندما تقوم الحكومة الفرنسية بدعم القوى العاملة ضد نفس شعارات الحرية والديمقراطية في وطنه. لهذا علينا استغلال هذه المناسبة النادرة وهذا الزخم الشعبي الفرنسي بالتصاقنا به حتى نستطيع الضغط على حكومته ليتوافق شعار المليونيات الباريسية مع سياسات باريس الدوله. إن هذا ممكن ، خاصةً وأن المنتقدين لتواجد نتنياهو وغيره من المتسلقين على مشاعر الناس وعواطف وانفعال الشعب بدأ في فرنسا ويوجد حالياً أعدادا كبيره من الموقعين على لوائح للتنديد بهؤلاء الرؤساء في المظاهرة. فهم متهمون كنتنياهو مثلاً بالتعدي على حقوق الإنسان. فلنكن ولو لمرة واحدة منفتحين نعرف كيف نُعطي حتى نستطيع أن نأخذ.

 

22/1/2015

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s