راهبتان ترمزان لقداسة فلسطين التاريخية
د. نزار بدران
تابع الفلسطينيون والعرب بدهشة وابتهاج، عقب كشف البابا فرانسيس عن قداسة راهبتين فلسطينيتين، عاشتا في القرن التاسع عشر، وهذه بحق لفتة تاريخية، أعادت لفلسطين اعتبار واحترام مكونها المسيحي، وجددت مفهوم كونها مهداً لهذه الديانة السمحة.
بذلك يكون البابا قد أكد استقلالية الكنيسة الكاثوليكية، بإعطائه الأولية للمفهوم الإنساني للأديان وربطه بشكل مباشر، بين مسيحيي العالم ومهد ديانتهم في الأراضي الفلسطينية المقدسة. وبين كذلك قُرب هؤلاء المسيحيين من الشعب الفلسطيني بدياناته الثلاثة، فهم اكتشفوا أن الفلسطينيين، على عكس الإسرائيليين، لا يبحثون عن نقاء عرقي أو ديني، بل هم يحتفون بالحدث بكل مكوناتهم. ووُجود الرئيس محمود عباس في هذا الاحتفال التاريخي، إنما هو تأكيد لقرب الشعب الفلسطيني من مكونه المسيحي، الجزء الأقدم فيه.
ولا ننسى أن مسيحيي الشرق، كانوا السباقين في بداية القرن الماضي، لرفع راية العروبة والنضال ضد الاستعمار، وهم من تغنوا باللغة العربية وأثروها، وتميزوا بالتسامح رغم عذاباتهم السابقة، واعتبارهم زمن العثمانيين في مرتبة أهل الذمة، وما كتاب “الرسول” لجبران خليل جبران إلا مثال على ذلك.
يهودية الدولة الإسرائيلية تواجهها إذاً إنسانية الدولة الفلسطينية، التي لا تُعرّف الشعب الفلسطيني بدين بعينه. فالمشروع الصهيوني الذي انبنى على استغلال واستثمار ايديولوجية الدين الواحد، يظهر على حقيقته، بعد كشف قداسة هاتين الراهبتين ألفلسطينيتين، فتحت غطاء وإطار فلسطين نستطيع أن نكون مسلمين أو مسيحيين وحتى يهوداً. في وقت لا يمكن لإسرائيل والإيديولوجية التي تحكمها، إلا إقصاء الفلسطيني مهما كان دينه وعقيدته.
ولهذا تحديدا، ينبغي على المشروع الوطني الفلسطيني أن ينحاز لمبدأ المواطنة التي تساوي بين الناس، بغض النظر عن دينهم ولونهم وحتى لغتهم. أبناء الشعب الواحد هم متساوون ومتآخون، لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات.
ولهذا أيضا، فإن إعادة الروح لمشروع الدولة الديمقراطية الفلسطينية الواحدة، التي تحترم كل الأديان وتساوي بينها، قد يكون وسيلتنا لعزل الأيديولوجية العنصرية الصهيونية، وإجهاض أهدافها، كما حصل مع نظام الابارتهايد العنصري في جنوب إفريقيا، بالانتصار الذي تحقق لأهل البلاد الأصليين بقيادة نلسون مانديلا. لقد انتصر علينا الصهاينة عندما أوهموا الغرب في منتصف القرن الماضي بأنهم هم الذين يحملون راية الحرية والديمقراطية والمساواة في الشرق الأوسط.
من هنا وبالاستناد إلى خبرة المجتمعات الانسانية، فإن بناء الحركات السياسية في هذه المعادلة القديمة الجديدة، يجب أن يكون خارج البُعد الديني، حتى يستطيع كل فلسطيني مسلم ومسيحي، شيخ او راهب، أن يجد مكانه في إطار المساهمات الخلاقة في التجارب السياسية، خصوصا في تجارب البناء السياسي والكفاح الشعبي، لكي نستطيع بذلك البدء بالبناء المُشترك، على أنقاض أيديولوجية “الفكر الديني” الصهيوني العنصري.
فهل نستطيع كفلسطينيين، أن نحول تكريم قداسة البابا فرانسيس لنا ولشعبنا، إلى قاطرة تربطنا بقيم العالم الحديث والحضارة الإنسانية المعاصرة، بدل أن يكون حدثاً عابراً؟.
إن الاتجاه إلى العمل السياسي على أسس قيم المواطنة، هو الذي سيُبعد الخوف عن قلوب مكوننا المسيحي، ويُوقف تلك الهجرة المقيتة التي تُهدد تنوع وتعدد مكونات الشعب الفلسطيني. حيث أن الوقوف في وجه التطرف الديني، واجب وطني للحفاظ على فلسطينيتنا، كما كانت دائماً؛ معانقة مآذن الجوامع لأبراج أجراس الكنائس.
طبيب عربي مُقيم في فرنسا