أردوغان وسياسة التجارة!
نزار بدران
التجارة نشاط إنساني مهم، ولولا البيع والشراء واختراع العملة، لكان من الصعب، تطور المجتمع الإنساني منذ القدم. هذا المعنى الإيجابي للتجارة، ضمن علم الاقتصاد، يُقابله معنى سلبي للتجارة ضمن ممارسة السياسة، إن أخذناها، بمفهومها الجميل الفلسفي، كتعبير عن القيم والمبادئ في إدارة شؤون الناس. للأسف هذا المعنى الثاني، أي السلبي، هو ما بدأ يطفو على السطح، بشكل واضح في السياسة التركية تجاه أزمات المنطقة.
مثل هذه النجاحات التجارية الاقتصادية لتركيا، والتي مكنتها بعد وصول الإسلاميين للسلطة، من إغراق أسواق المنطقة العربية، ببضائع اشتراها المواطن العربي، بنوع من الفخر والاعتزاز، بدلاً من البضائع والإنتاج الغربي، ما ساهم بالتنمية الاقتصادية التركية وتطورها، وهي التي اوصلت تركيا لمرتبة الدولة السابعة عشرة اقتصادياً، ودخولها مجموعة العشرين الأغنى في العالم.
في المقابل، فمن المؤسف عدم ترجمة التصريحات المُشجعة والداعمة لفلسطين والديمقراطية في الوطن العربي، إلى واقع عملي، بل بقيت مجرد شعارات لا تخدم إلا الهدف التجاري الاقتصادي ومصالح تركيا الخاصة، فاتحة أسواق العالم الإسلامي والعربي، بشكل أكبر أمام هذه التجارة.
على مدار السنوات الخمس للثورة السورية، تراجعت المواقف التركية المُعلنة، عن مبادئها وقيمها، مثل تعيين خطوط حُمر، حول بعض المدن السورية كحماة وحلب، لا يحق للنظام السوري تجاوزها، ثم شعارات المناطق العازلة الآمنة بشمال سوريا، ومناطق الحظر الجوي لحماية اللاجئين. نرى اليوم فقط الطائرات الروسية التي تُقيم المناطق العازلة للآخرين، في السماء السورية، بدون أدنى رد تركي غير الجعجعات الكلامية.
أما لجهة تحرك الأكراد وتدخلهم هنا أو هناك، فهو ما يُثير حفيظة أردوغان، ويقوم كباقي أنظمة المنطقة، باكتساح مناطقهم في سوريا، بدون أي اعتبار للمدنيين الأبرياء، والتدخل الأخير، هو فقط بسبب خوف أردوغان المزمن من الأكراد، وحقهم الطبيعي في تقرير المصير، في أماكن تواجدهم، مُتناسياً سياسة الانفتاح نحوهم، التي مارسها في بداية عهده.
استقبال اللاجئين السوريين بتركيا، تحول بعد السنوات الأولى، إلى مادة تجارية للتعامل مع الغرب، فمقابل استقبالهم وحجزهم، استلمت تركيا ثلاثة مليارات دولار، من الاتحاد الأوروبي (لمساعدة اللاجئين!!)، متناسين واجب التضامن الإسلامي المجاني، الذي تفرضه قيم الدين، ويُعلمه أئمة المساجد، للمؤمنين والمصلين في جوامع تركيا.
هذه المُقايضة المالية بين تركيا والغرب، على آلام السوريين، واستعمالهم كورقة ضغط, تُمثل نموذجاً لم نكن لنتصور يوماً، أن حكومة دولة مسلمة تقبل به، وهو يُستعمل حالياً، لدفع ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، خارجة من إطارها الشرقي الإسلامي وتاريخها العثماني.
وهكذا عندما تتراجع القيم والمبادئ، في عالم السياسة، تتراجع أيضاً الحريات العامة، وهذا ما نراه حالياً للأسف حيال اعتقال وإرهاب الصحفيين والمعارضين، وكأن السنوات الجميلة التي عشناها، آملين بتحقق حُلم الدولة الحديثة، التي تجمع بين القيم الإسلامية والحداثة، أصبحت في خبر كان.
عشر سنوات من الحصار على غزة، ولم نر إلا التصريحات النارية ضد إسرائيل، لم تستطع تركيا زحزحة الحصار، ولو متراً واحداً، بل على العكس، تقوم حالياً بدغدغة مشاعر نتنياهو، في محاولة الحصول على الغاز الإسرائيلي بديلاً عن الغاز الروسي. وطبعاً يُطلب من الفلسطينيين، أن يؤيدوا هذه السياسة الجديدة، وهذا ما يقوله دائماً، كل الحكام العرب، بزعم الدفاع عن فلسطين وحق شعبها ب و ب…الخ.
لقد سبق لأردوغان أن وضع ثلاثة شروط أمام إسرائيل لإعادة العلاقات معها ، لم يتحقق منها إلا واحد ونصف، وهما الاعتذار عن مذبحة المدنيين الأتراك، على ظهر السفينة مرمرة، ووعد إسرائيلي لم يتحقق بدفع تعويضات لأهالي الضحايا. أما الشرط الثالث الذي لم يتحقق بعد، فهو رفع الحصار عن غزة، هل سيُصر أردوغان على هذا الشرط حقيقة، ويفرضه لإعادة العلاقات مع إسرائيل؟ أم سيجد مخرجاً؟، أما من جهتي فسأقوم إن تحقق هذا الشرط، بتمزيق مقالي هذا والاعتذار للقراء الأعزاء.