01/03/2015
تدمير الإرث الآشوري
إمعانا في التخلف وتدميرا للحداثة والعمران
نزار بدران
كنز الأمة وإرث آبائنا وأجدادنا، بما تمثله الآثار الأشورية وغيرها في الموصل، يتمّ تدميرها على يد عصابات “داعش” بشكل همجي، مع العلم ان الرسول الكريم ومن تلاه من خلفاء للأمة الإسلامية؛ وهم المرجعية الأولى للمسلمين وغيرهم من الفئات الفكرية، لم تشرع أو تفتي بأي حال تدمير هذه الآثار القديمة، قدم آلاف السنين قبل الميلاد.
حينما نتأمل أو نتفكر في هذا العمل، ليس فقط ببعده عن المنطق والقيم الدينية الحقيقية، وإنما أيضاً ببعده عن مفهوم الانتماء إلى زمن نبتعد فيه عن التفكير الإنساني، لنضع مقدراتنا بين أيدي من يؤمنون بأيديولوجيات غيبية، يعتقدون أن الدين المُنزل لا يحمل في طياته مكاناً للفكر. فكل شيء يُفهم على مبدأ العودة إلى تفسير وتأويل، وأحيانا تقويل ما لا تقول به النصوص المُقدسة، حيث يُنصب البعض أنفسهم أولياء على تحليل محتواها، وبعضهم مثل “داعش” وأمثالهم، يقومون بتنفيذ مسلكيات إجرامية على أرض الواقع؛ مثل قطع الرؤوس وتدمير رموز حضارة الأمة.
المشكلة ليست في الفكر، بل في منهجيته، متى سنُعطي للفكر الإنساني مكاناً لوضع قوانين مجتمعاتنا، هذا الفكر النابع من معرفة الناس بواقعهم ومعاناتهم. متى سنترك للناس الحرية في أن يختاروا ما يناسب حياتهم، بعد نقاش اجتماعي واسع؟. هكذا تُبنى الأمم وتاريخ كل الأمم المعاصرة الحديثة يُثبت ذلك.
في المقابل يمكن القول أن الاعتماد على نصوص دينية مقدسة، لتحديد معايير ثابتة وقوانين قسرية فوق واقعية، لمُجتمعاتنا وحياتها، يدفعنا للانزلاق إلى مُستنقع “داعش”. ففي العالم الإسلامي وخصوصاً السني، نجد العديد من الاختلافات والتناقضات في كامل تشكيلة ومكونات التفاسير والتآويل لأي نص، القول وعكسه تقريباً موجود، وسنجد تنوعاً كبيراً في المجموعات المذهبية، مبنية على أفهوماتها الخاصة لهذه النصوص. فالمُتسامح المُنفتح والمُتشدد المُتخلف، يرجع إلى تفسيرات تُناسب تسامحه وانفتاحه، أو تشدده وتخلفه، وهذا ما نراه يومياً مع الفتاوى التي لا حصر لها على وسائل التواصل والصحافة والإعلام.
الفكر الإنساني هو فكر نسبي، يقبل النقاش ويقبل التطور والتغيير؛ بينما الاعتماد على تفسير النصوص المُقدسة لتقنين كل شيء، فهو مفتاح للشمولية، تلك التي تُجرم الآخر وتحل دمه. فمن لا يقبل تفسيرك هو بالنسبة لك ضد النصوص المُقدسة (حسب فهمك) وهو إذاً خارج عن الحق، ويمكن لغلاة التشدد أن يُحلوا قتله، وفي حال الآثار الآشورية وغيرها من آثار الحضارات القديمة فإنه يجري تدميرها.
النصوص المقدسة يجب أن تعود إلى موقعها الذي وُجدت من أجله، وهو هداية الناس إلى القيم الأبدية الدائمة، التي لا يُغيرها الزمن، كتحريم قتل النفس بغير حق، إعطاء الزكاة للفقراء، الخُلُق القويم، احترام الأبوين، حب الآخر كذاتك، التعلُم ولو في الصين، والدفاع عن الأوطان في وجه الغزاة وغيرها.
أهل مكة أدرى بشعابها، وأنتم أدرى بشؤون دنياكم، هكذا قال الرسول الكريم. هذه حقيقة الدين الذي يترك أمر الناس لهم، لأن الزمن يتغير، والحضارة تتطور، والأشياء لا يمكن أن تبقى على حالها، هذا هو الدين القيّم الذي يهديك، ولكن لا يحل محل فكرك، أو يصادره مرة وإلى الأبد!.
حياة الناس لا يمكنها أن تُبنى على تفسير نصوص دينية لم توجد أصلاً لذلك. نحن الآن على مُفترق طرق، إما أن نرتمي في أحضان الشمولية، كما حصل في الدول الشيوعية والتي بنت نفسها على فكر مُطلق لا يقبل النقاش والتطور، أو ننطلق إلى فتح أدمغتنا وتغذيتها بالعلم والمعرفة والدراسة، ونغنيها بالنقاش الاجتماعي الهادىء، وبناء الجسور مع الثقافات الأخرى، حتى نشارك البشر كافة في أرجاء المعمورة، في بناء حضارة إنسانية مشتركة في زمننا هذا.
إن البقاء في عالم الانطواء والغيب، سيُبقينا كما نحن الآن خارج الحضارة، فلننظر إلى تاريخ الأمة الإسلامية وعلمائها العظام؛ كابن رشد وابن سينا وابن خلدون وانفتاحهم على الفلسفة الإغريقية، أو مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو شيخ التنوير في القرن التاسع عشر وانفتاحهما على الحداثة. نحن حقاً أمام طريقين: إما الاستمرار بالإيغال في طريق التخلف، أو الدخول إلى رحاب عالم الحداثة.