09/05/2015
سياسات دولنا بين السيادة والتبعية
نزار بدران
سيادة الدولة عنصر مؤسس في مفهوم الدولة القومية الحديثة، يهدف إلى حماية الدولة من التدخلات الخارجية في شؤونها، ولكن هذه السيادة تصطدم بمفهوم العلاقات الدولية المبنية على قوانين غير مُلزمة في أكثر الأحيان، والحضارة الإنسانية ما زالت بحاجة لسنوات طوال، للوصول إلى وضع قوانين دولية مُلزمة للجميع، لأن ذلك يتعارض مع مفهوم سيادة الدولة على أرضها وثرواتها. في حين أن هناك تجمعات دولية تتبنى قوانين مُلزمة للجميع، مثل الاتحاد الأوروبي، والدول المُكونة لهذه التجمعات، تقبل الانتقاص من سيادتها لصالح القانون الكلي.
من مظاهر السيادة وجود عملة وطنية، وقد قبلت الدول الأوروبية المشاركة في “اتفاقية ماسترخت”، حيث شكلت العملة الموحدة وهي اليورو، انتقاصا واضحا من سيادة كل دولة، عبر إلغاء عملتها المحلية، كما قبلت هذه الدول أيضاً حرية الحركة والتنقل داخل الاتحاد الأوروبي للبضائع والأشخاص، وهو انتقاص للسيادة في مراقبة الحدود وإعطاء الحق بدخول أراضيها وغير ذلك. وفوق هذا توجد محكمة أوروبية لمراقبة القرارات والتشريعات الملزمة التي يتوجب تنفيذها تحت طائلة العقوبة أو الغرامة.
هذا الانتقاص من السيادة الوطنية، جاء بالاختيار لا بالقسر والإكراه، وقد جاء اختياره من شعوب هذه الدول، التي وافقت عليه من طريق البرلمانات المُنتخبة، أو عن طريق الاستفتاء. وهو يهدف إلى خلق كيان جديد موحد وقوي تتحقق فيه مصالح كل دولة، وتؤمن من خلاله الحماية لمواطنيها أمام أي اعتداء خارجي، وتتكامل فيه سياساتها الاقتصادية والتعليمية، كما يجري إنشاء وتأسيس بُنية تحتية مُشتركة (المواصلات …الخ) لصالح كل المواطنين.
مُقابل هذا الانتقاص المُختار والمقبول، يوجد شكل آخر من انتقاص السيادة، وهو ناتج الخلل في العلاقات الدولية، المبنية على مبدأ القوة، وبشكل خاص في ظل الحكومات الاستبدادية التي لا تضع أي اعتبار لمصالح شعوبها.
في مجالنا العربي والشرق أوسطي، هناك نوعان من الأنظمة، تلك التي تفتقد للسيادة تماماً، والتي تبني علاقاتها مع الدول العُظمى، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية على مبدأ التبعية، وتفضيل مصالح الغرب وأمريكا مقابل مصلحة بقاء النظام، أما الشعب ومصالحه فليس لهما أي دور، وبهذا تُؤخذ القرارات والمواقف السياسية الخارجية والداخلية من منظار إرضاء وتنفيذ إرادة أمريكا، وليس بناء على رغبة الشعب المُعبر عنها عن طريق الانتخابات.
إن ارتهان الاقتصاد الفلسطيني في مناطق السلطة الفلسطينية بالدعم الأمريكي، وعدم وجود أي بنية انتاجية، في ظل الاحتلال الذي يستطيع أن يدمرها متى شاء، أدى إلى انعدام مقدرة السلطة على اتخاذ قرارات مستقلة من مُنطلق مصلحة المواطن الفلسطيني أو القضية الفلسطينية، ولا نظن أن الأمر يختلف كثيراً في منطقة قطاع غزة؛ ولكن لاعتبارات مختلفة. المُشترك بينهما هو الارتهان لوجود هذه السلطات للقوى الخارجية التي تُعطيها مُقومات وجودها، وليس الاعتماد على الشرعية المُعطاة من الشعب الفلسطيني، المُعبر عنها بطرق مختلفة كالإنتخابات او الاستفتاءات.
الدول العربية التي دخلت الحرب في اليمن، هي أيضاً منتقصة السيادة في هذا المجال، فالإملاءات الأمريكية ومصالحها في اليمن، وبشكل خاص في باب المندب، هو الذي يُفسر التدخل السعودي والعربي، وليس مصلحة المتظاهرين في شوارع صنعاء المطالبين بالديمقراطية، تلك المعدومة تماماً في هذه الدول، وفاقد الشيء لا يعطيه.
ولو كانت الأسباب المُعلنة للحرب اليمنية حقيقية، وهو الدفاع عن أهل اليمن من ظلم وعنف الحوثيين وبقايا النظام السابق، وداعميهم الإيرانيين؛ فقد كان ذلك أوجب وأولى ما يكون في سوريا التي دمرها النظام البعثي على رؤوس أهلها، وقتل مئات الآلاف، ومحى معالم مدن بأكملها.
هذه دول معدومة السيادة، لا تأخذ قراراتها؛ إلا بعد إذن ولي الأمر حامي وجودها، لا تُستعمل جيوشها إلا لقمع مطالب الناس، وكل حراك ديمقراطي؛ كما حدث بالبحرين، أو حالياً الدعم المُقدم للإنقلابيين في مصر، أو المرتدين في ليبيا.
قرار السعودية في اجتماعات الدول المُنتجة للنفط بتأييد انخفاض أسعار البرميل إلى أقل من النصف، لا يمكن على الإطلاق فهمه من مُنطلق اقتصادي سعودي أو عربي، فما هي الفائدة التي سنحصل عليها من خفض هذه الأسعار إلا تخفيض الدخل القومي الذي يُشكل فيه النفط أكثر من الثلثين، هي فقط الإرادة الأمريكية للضغط على بوتين وروسيا في خلافهما حول التدخل الروسي بأوكرانيا، ولم تفعل ذلك مُسبقاً لعقاب التدخل الروسي بسوريا، والذي لم يكن ليُزعج الأميركيين.
هناك أيضاً الدولة ناقصة السيادة، وهي الدولة التابعة، التي لا تملك حرية القرار أو التصرف، إلا في إطار يوضع لها، ولا تستطيع أن تخرج عنه، وذلك تحت طائلة العقوبات، مثال ذلك إيران آيات الله، وتدخلها في سوريا أو في العراق، وهو الذي يتناغم مع مصالح أمريكا واللوبي الصهيوني لقمعها لحراك الشعب السوري المُطالب بالحرية، وإبقاء نظام قاتل يحمي حدود إسرائيل، لذلك تستطيع إيران أن تصول وتجول بسوريا من دون رقيب، تحت حجة “الفيتوات” الروسية التي لا تمنع أمريكا من التدخل في أي مكان آخر بالعالم. وتسمح لها بالتدخل بالعراق، وتباركه وتتحالف معها، وبنفس الوقت تضرب على أصابعها بالملف النووي، إذا تجاوزت الحدود، أو في اليمن إن وصلت إيران لباب المندب، المعبر الإستراتيجي لقناة السويس وميناء إيلات الإسرائيلي.
هي إذاً سيادة لها حدود، تضعها أمريكا لإيران، المسموح لها بما يتناسب والسياسة الأمريكية؛ كقمع الحراك الديمقراطي باليمن وسوريا وغيره. بينما تُجبر إيران للعودة إلى المربع المسموح لآيات الله، لممارسة سلطاتهم، كلما اقتضت الضرورة ذلك.
إن استرجاع السيادة المعدومة، أو الناقصة؛ لا يتم في ظل حكومات وأنظمة صادرت إرادة شعوبها وحقها بانتخاب قياداتها. الدول ذات السيادة هي تلك التي يكون فيها الشعب مصدر السلطة، والتي لا يمكن أن تُرتهن إلا إلى مصلحة الوطن ومصلحة المواطن فقط لا غير. أما الأنظمة الديكتاتورية فرغم تكديسها للأسلحة من كل نوع، فهي لا تملك الحرية في اتخاذ القرارات، لأن وُجودها ليس رهن إرادة شعبها. وما تمسكها بالسلطة إلا لنهب ثروات وعرق الناس، لذلك هي تضع قوتها في خدمة الآخرين.
لكل هذا، فإن الخيار الديمقراطي للأمة العربية، ليس ترفاً فكرياً، بل هو حاجة ماسة حتى تستطيع دولنا الاحتفاظ باستقلاليتها وسيادتها، الانتقاص منها لا يتم إلا بشكل إرادي، يجري التعبير عنها بإرادة شعبية، وذلك بهدف بناء تكتلات عربية قوية، تكون ذات سيادة كاملة، غير منقوصة.