الوان عربية 16 شباط 2017
دونالد ترامب
العودة إلى القرن التاسع عشر أم الذهاب للمستقبل؟
نزار بدران
أكدت الانتخابات الأمريكية الأخيرة، مع وصول دونالد ترامب للسلطة، عن تغيير كبير متوقع بالسياسة الأمريكية، على كل الأصعدة، الداخلية والخارجية والاقتصادية. فالإدارة الأمريكية الحالية، في صدد وضع تصور، ليس فقط لعلاقاتها بالدول الأخرى، وإنما أيضاً بفلسفة للعلاقات الدولية، مبنية على أسس جديدة.
من الواضح أن التيار “الفكري” الذي يمثله ترامب ليس أمريكياً بحتاً، وإنما بدأت مظاهره الأولى، تلوح منذ بضع سنوات، كخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، باستفتاء حزيران 2016، وانتشار الفكر اليميني المتطرف ووصوله إلى سدة السلطة في بلغاريا وحتى في بولونيا. كما في وصول الرئيس بوتين وما يمثله من فكر قومي يميني بروسيا، ونتائج ذلك على دول مثل أوكرانيا وسوريا، كل هذه الأمثلة وغيرها عديدة، توحي بأننا قد عُدنا للقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في ذلك الزمن، كان يُهيمن على أوروبا، قوى عُظمى مُتصارعة ومُتناحرة، كل يُدافع عن مصالحه، بدون أدنى التفات إلى مصالح الآخرين وحقوقهم. حروب أوروبا الدموية، كانت نتاج ذلك الوضع، والذي انعكس في وقته على كل العالم.
انتهت هذه الفترة، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما أخذت هذه القوى في حسبانها مفاهيم جديدة للحد من الصراع بينها، وتمثل ذلك بوضع أُسس المنظمات الدولية والقوانين المتعدية للحدود الوطنية، مثل منظمة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما تولد عنها من مؤسسات دولية عديدة، مثل مجلس حقوق الإنسان ومنظمات رعاية الطفولة والمحاكم الدولية، وما إلى ذلك. نجحت هذه الوضعية الجديدة، بإنهاء الحروب في أوروبا، والعالم الغربي عموماً، ووضع أُسس الاتحاد الأوروبي، ولكن ذلك لم يُنه الصراع بالعالم، وهو ما تمثل بالحرب الباردة، بين الاتحاد السوفيتي والغرب.
انهيار حلف وارسو، وسقوط جدار برلين، واختفاء الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي، أسس لمرحلة اخرى جديدة، وهي دخول باقي دول العالم المهمشة خلال مرحلة الحرب الباردة الى عالم العلاقات الدولية، الذي كان حكراً لدول معينة، فنحن رأينا سقوط العديد من الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، مثال ذلك البرازيل، ودول عديدة بأمريكا اللاتينية، وكذلك دول أوروبا ألشرقية وجنوب أفريقيا وإنهاء الفصل العنصري.
أحد المعالم المهمة لهذه المرحلة، ما بعد انتهاء الحرب الباردة، هو العولمة الاقتصادية، ووصول دول عديدة لعالم التجارة، والتنافس العالمي، بحظوظ وإمكانيات متفاوتة، مثل كوريا الجنوبية ودول عديدة أخرى في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وتركيا، والانتعاش الاقتصادي الواسع بأفريقيا.
في القرن التاسع عشر، كان الصراع المبني على القومية، بدون أي اعتبار لمصالح الآخرين، سيد الموقف وسمة العصر. وفي القرن العشرين، انتقلنا إلى مفهوم التعاون الإقليمي، خصوصاً في دول الغرب، أو مجموعة الدول الدائرة في فلك الاتحاد السوفيتي، وأخيراً وبعد انتهاء الحرب الباردة، إلى عولمة العلاقات الدولية والاقتصاد والتجارة.
ماذا يفعل إذن السيد ترامب، هل يريد أن يُعيدنا إلى القرن التاسع عشر، والصراعات التي لم تُؤد إلا إلى الدمار، عن طريق تأجيج القوميات والمصالح الضيقة للدول. أم أن ذلك هو فقط لاستشعار الولايات المُتحدة، بإنتهاء دورها التاريخي، كقوة مُهيمنة وحيدة، منذ حوالي ثلاثين عاماً، بعدما تقاسمت العالم مع الاتحاد السوفيتي لعشرات السنين. فسياسة الانفتاح العالمي، وعولمة الاقتصاد والحد من العوائق الجمركية، والتطور المعرفي والرقمي والتكنولوجي، وانتهاء الحرب الباردة، كل هذا أدى إلى ظهور قوى عالمية جديدة مهمة، على رأسها الصين واقتصادها الأول بالعالم، وإلى جانبها الهند بملياراتهما السكانية.
الاقتصاد الأمريكي، بنى نفسه على قوة إنتاجية جبارة، ولكن أيضاً، وهذه خصوصية أمريكا وجوهر قوتها، على قوة استهلاكية أكثر عظمة، فالشعب الأمريكي هو أكبر المستهلكين، وهو ما سمح بتطور الصناعة الصينية، عندما فُتحت أمامها الأسواق الأمريكية. الصين هي الشريك الأول التجاري للولايات المتحدة، حيث بلغت صادراتها لهذا البلد عام 2015، أكثر من 357 مليار دولار.
أعلن ترامب مؤخراً، أنه يريد إعادة النظر، بالاتفاقيات التي تجمعه مع كندا والمكسيك، وكذلك دول شرق آسيا، فلنعلم أنه يستطيع أن يفرض ما يشاء، فكندا تُصدر أكثر من 75% من إنتاجها لأمريكا، والمكسيك حوالي 80%. القوة الاستهلاكية الأمريكية، وليس القوة الإنتاجية، إذن هي مُبرر هذه العنجهية، فنحن جميعاً، دولاً صغيرة أو كبيرة، بحاجة لأمريكا، لأنها أكبر سوق استهلاكي بالعالم.
ولهذا يمكن القول أن الرئيس الامريكي، يفتتح الأن مرحلة جديدة، وليس العودة إلى القرن التاسع عشر، وهي مرحلة دخول أمريكا إلى زمن العُزلة والإنكفاء على النفس، مُعتمدة على قوتها الإنتاجية والإستهلاكية في نفس الوقت، وفرض شروطها على الآخرين.
لذلك ينبغي على الصين والدول الناشئة الأخرى، أن تنتبه إلى أهمية السوق الاستهلاكي الداخلي، لحماية اقتصادها ونفسها، وإذا ما أُغلقت السوق الأمريكية أمام الصين، فلن تتمكن من استبداله بالأسواق الإفريقية أو دول العالم الثالث او روسيا، فهذه كلها ذات قوة استهلاكية ضعيفة.
لن تتمكن الدول الناشئة مثل الصين والبرازيل، من تطوير السوق الداخلي، إلا من طريق تحسين علاقاتها الاجتماعية، وذلك بالتوزيع العادل للثروة، وليس عبر تمركزها بأيدي قلة قليلة من فئات طبقية فاسدة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى حصول الطبقة العاملة على حقوقها، بالعمل والصحة والتطوير المهني والحقوق النقابية، وخصوصاً الدخل اللائق المناسب لجهدها الجبار، وذلك ما سيُمكن دولة مثل الصين أو الهند من التحول إلى منافس حقيقي للولايات المُتحدة، عندما يتولد لديها ذاك الجمهور الاستهلاكي الواسع، الذي يستطيع امتصاص انتاجهما الضخم.
ليست العدالة الاجتماعية في هذه الدول، ترفاً فكرياً، وإنما ضرورة للبقاء في عالم ترامب الجديد، المبني على القوة، والقوة في هذه الأيام هي للمُستهلك القادر وليس للمُنتج ققط.