الستر الصفراء وراس المال المعولم. يورونيوز 25/11/2018

الستر الصفراء
ورأس المال المُعولم
د. نزار بدران

تجتاح فرنسا حالياً موجة احتجاجية تثسمى، الستر الصفراء، انطلقت بعد رفع الحكومة الضرائب على مشتقات البترول. هذه الحركة التي ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي، قبل حوالي عشرة أيام، أخذت حجماً وأبعاداً، دَفعَ السلطات إلى محاولة احتوائها، والصحفيين إلى وضعها على قائمة اهتماماتهم وأخبارهم وتحاليلهم.
تأخذ الحركة الاحتجاجية الفرنسية، أبعاداً جديدة، مضيفة مطالب اجتماعية وفي مجال العمل، فهي لم تعد مرتبطة فقط بالضرائب على مشتقات البترول، هذا ما وضع سياست إيمانيول ماكرون، الرئيس الفرنسي، تحت المِحك، من منظار شعبيته ونجاعة حلوله التي يطرحها.
بدأت الحركة بزخمها المُستمر، وشعبيتها المُتزايدة، تُشبه إلى حدٍ بعيد، الحركات الاحتجاجية الأخرى، التي عمت دول عديدة بالعالم، مثل إيطاليا وإسبانيا وأمريكا وما قبلها العالم العربي. هي حقيقة حركة تُعبر عن شعور عميق عند الناس بالظلم الاجتماعي، فالتفاوت الواسع بين تضخم رأس المال العالمي، وفُحش غناء الأثرياء ورجال الأعمال ومُدراء الشركات الكبيرة، كما يُذكرنا بها قضية كارلوس غصن، رئيس شركة رونو، يُقابله ضعف بتطور المعاشات عند الطبقات الوسطة، والطبقات العاملة والمتقاعدين.
هذه الظاهرة، والتي تسمى العولمة، لا تحمل من العولمة إلا جزئها المالي، وحده رأس المال والبضائع وحريتهما بالحركة والربح من تعولم، بينما المواطنون والناس العاديون، خصوصاً بالعالم الثالث، حُظر عليهم عولمة الحركة والتنقل والبحث عن عمل أو حياة جديدة، مثال ذلك قوافل المهاجرون المارون بالمكسيك نحو أمريكا، رغم إغلاقها الأبواب، أو عشرات الآلاف اللذين يموتون غرقاً في البحر المتوسط، في محاولاتهم الوصول إلى أوروبا.
التناقض الكبير بين حرية رأس المال بالربح، بدون فائدة للطبقات الفقيرة، بفرنسا والعالم الغربي بشكل عام، ونهبه لثروات وعرق الفقراء بالدول الفقيرة، هو من أودى بالأحزاب السياسية التقليدية إلى الهاوية، والتي لم يعد يسمعها أحد، فهي بأحسن الأحوال فاشلة، بمواجهة هذه التحولات، وبأسوئها متواطئة مع رأس المال والعولمة الجشعة.
ظهور الحراك الجديد بفرنسا، ومن قبله حركة الخمس نجوم بإيطاليا، أو بوداموس بإسبانيا وغيرها، ووصولها للسلطة ببعض الأحيان، هو ما يُخيف الأحزاب التقليدية الفرنسية، وإمكانية أن لا يكتفي الفرنسيون بانتخاب ماكرون من خارج الأُطر الفرنسية التقليدية، بل إلى استمرار الموجة، نحو تغيرات جذرية بالبُنية السياسية الفرنسية، قد يكون الرئيس ماكرون ضحية لها، بعد أن كان من أوائل المستفيدين من وجودها.
لن يستطيع أي رئيس فرنسي، أن يحل إشكاليات البلاد الاقتصاية، دون البدء بإعادة النظر بقواعد العولمة، نحن بحاجة إلى وضع حدود لحرية رأس المال، وتسلط قوانين السوق، في حياة الناس، أي عودة نوع من الرقابة السياسية على الاقتصادية، هذا لن يتم إلا عن طريق اتفاقيات دولية، فمارد العولمة الرأس مالي، ليس له حدود، ولا يمكن تحجيمه، وإعادته للقمقم في بلد واحد مهما كان غنياً.
نحن بحاجة أيضاً إلى فتح تلك العولمة على المكونات الاجتماعية، من حرية التنقل والسفر والعمل والهجرة، وإزالة الحواجز الحدودية للناس، وليس فقط للبضائع ورأس المال. بسبب ذلك، فهذه الحكومات لن تستطيع حالياً فعل شيء، وحدها الحركات الاجتماعية القوية، وتأصل عمل المجتمعات المدنية وتضامنها، من قد يسمح لهذه الحكومات بالتجرؤ على ذلك.
نحن بحاجة إلى احترام عمل وإنتاج الدول الفقيرة، والتي تزداد فقراً بسبب قوانين التجارة العالمية الحرة، وإعطاء هذه الدول، فرص التنمية الداخلية، ومساعدتها بالتحول الديمقراطي، والقضاء على الفساد المالي والإداري، حتى تتمكن من إعطاء فرص عمل لشبابها، بدل بحثهم عن الهجرة.
نحن بحاجة إلى تعاون دول العالم وشعوبها، لإرساء قواعد اقتصادية سليمة، تحترم حقوق جميع الدول والشعوب، وليس قانون الغاب الرأسمالي. هذه كلها تمنيات، لن تحدث قريباً، لكننا لن نصل إلى شيء بدون حمل بعض الأحلام، ليدفعنا إلى العمل. ومن يدري قد يكون لابسو الستر الصفراء، يحملون جزءاً من تلك الأحلام الوردية.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s