العمل المؤسساتي والمجتمع المدني
الدكتور نزار بدران
منظمات المجتمع المدني هي معيار حيوية المجتمعات والشعوب, فتعددها ووصولها لمجالات مختلفة يُعطي المجتمع نوع من ألحصانة ضد أطماع مجموعات المصالح ألضيقة أو الأحزاب السياسية, والتي بطبيعتها تُحاول الوصول للسلطة وتوجيه العمل المجتمعي بالاتجاه الذي يناسبها.
أُعيد الاهتمام بالمجتمع المدني، ووصل إلى العالم أجمع خصوصاً بالدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي بأوروبا الشرقية ، بعد انهيار ذلك ألأخير ووصول دول عدة إلى الحرية والديمقراطية، وقد حل هذه الخطاب المجتمعي ألمدني ,بدل الخطاب السابق والذي كان مسيساً وذا توجهات يسارية.
كتب فاكلاف هافل الاديب وأول رئيس لتشيكوسلوفاكيا ألديمقراطية ,كتابه الشهير (السلطة لمن لا سلطة لهم) عندما كان مُنشقاً عن الشيوعية ويُناضل من أجل الديمقراطية ببلاده ببداية ألسبعينيات ,داعياً لتطور العمل الاجتماعي ألمدني حتى ولو تحت الأرض وبالخفاء، رافضاً استعمال العنف.
المجتمع المدني هو مجموعة العلاقات ألفردية والتركيبات العائلية والاجتماعية، والاقتصادية والثقافية والدينية ,المتواجدة داخل مجتمع مُعين , خارج أُطر وتدخل ألدولة, كما عرفها الحقوقي الفرنسي جان لوي كيرمون. ويختلفُ عن الأحزاب السياسية، بكونه متنوع في أعضائه, ولا يبحث للوصول للسلطة كهدف نهائي، بل إلى مراقبة تلك ألأخيرة , والدفع باتجاه ربط المصالح بالقيم.
الأحزاب السياسية في الدول ألديمقراطية تدافع عن مصالح طبقة اجتماعيه ,ولا تضع القيم الإنسانية كأساس عملها ،وهي عندما تصل للسلطة تعمل للدفاع عن مصلحة بلادها أولاً وأخيرا بدون الاكتراث كثيراً بالقيم الأخلاقية رغم اعلان العكس ,هذا هو فرق جوهري بين مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحزبية.
تسعى الديمقراطيات لتأمين مساواة الفرص لأبناء ألوطن, وكذلك الحد الأدنى من الاحتياجات (ألأمن, الحياة ألكريمة, ألصحة, العمل والبطالة….. الخ). قد يُؤدي الدفع باتجاه المساواة إلى الإخلال بالحرية ,وقد يدفع تأمين شروط الحياة الأساسية، إلى تفسيخ النسيج ألاجتماعي ,كما يقول الفيلسوف ألفرنسي توكفيل بالقرن التاسع عشر بنقده البناء للنظام الديمقراطي.
تكمن في هذه البقعة وبالتحديد الدور الأساسي للمجتمع ألمدني, والذي يعمل للدفاع عن الحرية (ألعمل, ألتنظيم, التعبير…. الخ)، وإلى ربط أبناء المجتمع بعضهم ببعض من خلال منظماته ,وهو ما يُعيد ترميم النسيج الاجتماعي, ويسمح بتجنب استبداد الاغلبية واستمرار سماع صوت الاقليات وعدم اغلاق النقاش الاجتماعي كما استدرك توكفيل.
ألنظام الديمقراطي وحده لا يكفى إذا لإيجاد هذا المجتمع المثالي الذي ندعو له، بل هو بحاجة إلى المُراقب والطرف ألفاعل لتصحيح المظاهر السلبية للديمقراطية.
في المجتمعات ألحديثة تقوم منظمات المجتمع ألمدني باستكمال العمل الحكومي بمجالات عدة (ألصحة, مقاومة ألفقر, السكن…. الخ)، أو الدفع الدائم بالضغط على أصحاب ألقرار للوصول إلى تحقيق المصلحة العامة (مظاهرات، احتجاجات…. ألخ).
في المجتمعات الغير ديمقراطيه ,حيث يُعشعش ألفساد وانعدام الدراية والخبرة لأصحاب ألقرار ,فإن منظمات المجتمع ألمدني تضطر في بعض ألأحيان إن استطاعت أصلاً أن توجد بشكل علني ,إلى الحل محل العمل الرسمي (حملات تطعيم الأطفال ,توزيع المواد الغذائية على الفقراء…. الخ) . ولكن هذه الأنظمة ألفاسدة تجابه المؤسسات المدنية دائماً عن طريق حلها ومنعها، وكذلك عن طريق ملء ألفراغ بمؤسسات مجتمع مدني وهمي ,هو بالحقيقة بوق للسلطة ليس ألا ,ولا يحمل من المدني إلا ألاسم, حتى انا نرى في هذه الدول، منظمات حقوق ألإنسان التي تُدافع عن الحاكم ألظالم لقمعه للحريات العامة !.
بالإضافة لمنظمات المجتمع المدني ألتقليدية ,فإننا نجد الآن وبشكل يزداد توسعاً ، منظمات مجتمع مدني عابرة للحدود ,تهدف في أكثر الأحيان القيام بالدور الذي لا تقوم به الدول في العالم ألثالث ,مثال ذلك منظمة أطباء بدون حدود في مجال الصحة أو الصليب الأحمر الدولي ….الخ.
انتشار وتوسع المنظمات ألدولية ,يطرح إشكالية جديدة، وهي ولوج الفساد المالي والإداري فيها، ولكننا هنا قد نطمئن إلى مقدرة أعضاء هذه الهيئات وداعميها من اجل مراقبتها ,فمعظمهم يعملون بشكل تطوعي وللدفاع عن قيم يؤمنون بها. الوجه السلبي الاخر هو ظهور منظمات ضغط ذات طابع لوبوي، تدافع عن مصالح خاصة بدون الاهتمام بالمصلحة العامة (الضغط ألاقتصادي… الخ).
تطور المجتمع المدني ببلادنا السائرة باتجاه التعددية والتخلص من الطغيان والاستبداد هي الوسيلة الأمثل للوصول لأهدافنا وحقوقنا، وخصوصاً في أجواء أحزاب سياسية ومفكرين غلب عليهم الطابع الفكري الشمولي ، والذين قد لا يكونوا على مستوى آمال الأمة بألانعتاق.
بنفس الوقت يجب علينا أن ننتبه إلى خصوصية المجتمع المدني وخصوصاً بالغرب، فالعمل معه سيدفع باتجاه الضغط على الحكومات الغربية للتضامن مع حقوقنا ، ونتذكر أن المجتمعات المدنية هي دائماً متضامنة فيما بينها، لأنها تضع القيم العالمية الإنسانية بصميم اهتمامها، وذلك عكس الحكومات والتي في أغلب الأحيان متنافرة ولا تضع إلا مصالح دولها في صُلب اهتماماتها. وأقرب مثل علينا لإثبات ذلك، هو حملة المقاطعة لإسرائيل BDS والتي ابتدأت بالمجتمع المدني ألفلسطيني لتنتشر بالعالم أجمع واصلة أمريكا ودول ألغرب ,والتي أُجبر جزء منها على اتخاذ خطوات رسمية حكومية لصالح الحملة.
دور مؤسسات المجتمع المدني بالمشروع الوطني الفلسطيني
ما هي الاسس التي نستطيع ان نبني عليها لتفعيل دور المجتمع المدني للنهوض بمشروعنا الوطني المشترك. البعد الحقوقي وارتباطه بلائحة حقوق ألإنسان ,هو أول نقطة ارتكاز للدور المُناط بمؤسسات المجتمع ألمدني في إطار المشروع الوطني ألفلسطينيي والذي هو من منظار القانون الدولي مشروع حقوقي بامتياز، ويذكرنا ذلك بمشروع نيلسون مانديلا بجنوب أفريقيا، ونجاحه الباهر بالتحرر.
الُبعد السياسي هو الوجه الثاني لدور هده ألمؤسسات ويعني الدفع باتجاه احترام الثوابت ألفلسطينية من كافة القوى والأحزاب ألسياسية ,وخصوصاً حق العودة كاملاً غير منقوص.
البُعد التاريخي هو البعد الثالث لهذا ألدور, وهو التأكيد أيضاً أن فلسطين ليست فقط ملك الجيل ألحالي, لكنها أيضاً ملك الأجيال السابقة وخصوصاً الأجيال ألقادمة, لا يملك أحد حق التنازل عن أي جزء منها لصالح أي كان. فأبناءنا الذين وُلدوا بالمهجر, لهم نفس الحق التاريخي بأرض فلسطين ,ولا يستطيع أحد حرمانهم منه. حق السيادة على فلسطين, هو ملك الشعب ألفلسطيني, ماضياً وحاضراً ومستقبلا وليس مرتبطاً بمفهوم المُلكية الخاصة للأفراد.
البعد الرابع لدور المجتمع المدني بالمشروع ألوطني هو البُعد الاجتماعي، فمؤسسات هذا المجتمع بتنوع أعضائها وحيويتهم وتجددهم الدائم، الفكري والجيلي، هو منبع لا ينبض لكفاءات سياسية واجتماعيه أنبتتهم أرض ألواقع المبنية على القيم, وتستطيع المشاركة بجدارة بالعمل السياسي وتطوير المشروع الوطني. هي إذا الوسيلة لتجديد العمل السياسي عن طريق فتح المجال للأجيال الجديدة للمشاركة خارج أُطر الولاءات التقليدية أو الانغلاق الفكري والتكلُس ألشيخوخي.ونموذج مؤسسات المجتمع المدني بتونس بالتوافق الاجتماعي الناجح او نموذج نقابة العمال سوليدارنوش برئاسة ليش فاليزا ببولونيا بفتح باب الديمقراطيات بأوروبا الشرقية لهما التعبير الاكبر والأوضح عن اهمية العمل المدني.
لكل هذه الأسباب علينا أن نُركز بعملنا لفلسطين على مؤسسات المجتمع ألمدني, قبل الارتهان للتيارات ألسياسية, والتي بدون استثناء لم تستطع أن تُحقق المشروع الوطني الكبير.
——————————————