إسرائيل وفن بناء الجدران

 إسرائيل وفن بناء الجدران

 

د. نزار بدران

كلنا نعلم، أن الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، ليس مقبولاً ولا مُعترفا به، من الشعوب العربية، فرغم اعتراف دول عربية عديدة، بهذا الكيان، الا ان التطبيع الاقتصادي والتجاري والسياحي، وشراء البضائع الإسرائيلية، ليس مرغوبا به بين أبناء الأمة العربية من قاصيها إلى دانيها.

أكثر من خمس وثلاثين عاماً من التطبيع الإسرائيلي مع مصر، ولا نرى أبناء الشعب المصري، يتهافتون لشراء تلك البضائع، هذا الرفض للوجود الإسرائيلي ناجم عن شعور أبناء الوطن العربي، بانتمائهم إلى أمة واحدة، ذات مصالح موحدة متكاملة، ووجود الحدود التي تمزقهم إلى قطع صغيرة، لا تمنع هذا الانتماء النفسي للأمة.

تدرك إسرائيل ذلك تماماً، وتعلم أن ضمان وجودها لمئات السنين، بحاجة لجدران عديدة وسميكة، تحيطها حتى تُبعد تأثير هذا الرفض العارم من الشعوب العربية لوجودها، وتحوله إلى قوة حقيقية، واقتصادية وسياسية وعسكرية، بناء الجدار الفاصل بالضفة الغربية، أو على الحدود مع الاردن أو حفر الخنادق مع لبنان، وبناء الأسوار مع مصر وسوريا، هو تعبير مادي مباشر عن هذا الخوف.

الجدران الحقيقية التي بنتها إسرائيل، والوحيدة ذات الفعالية والتأثير، هي تلك التي صنعتها بيننا، وفي معظم الأحيان بأيادينا. فكان أول جدار هو التجزئة العربية، والتي تقطع أوصال الأمة، وتمنع تطورها الاقتصادي والحضاري، هذا الجدار بنته الدول الراعية لإسرائيل، وبدأت بإقامته منذ عشرينات القرن الماضي.

الجدار الثاني هي أنظمة الاستبداد، التي تقمع أي تحرك شعبي ضد التجزئة، والعمل باتجاه الوحدة، فهي تُجاهد لإزالة المناعة الطبيعية للشعوب العربية نحو الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، فتارة تفتح الأسواق لبضائعها، وتارة تتبادل الزيارات، وأخرى تقوم بالتحالف معها، وحديثاً “تهذيب” مناهجنا الدراسية لحذف كل المضادات الحيوية الطبيعية من عقول أطفالنا.

الجدار الثالث هو ترعرع الطائفية داخل وخارج دولنا، فلم نبق سوريون، لبنانيون أو عراقيون، بل أصبحنا شيعة وسنة ويزيديين وعلويين وما إليه. هذا الجدار الأخير، يحول كل شعوبنا إلى مجموعات متناحرة متقاتلة، أخرجنا من المفهوم الحضاري الإنساني المعاصر، الذي كنا نتوق إليه. الإنسان في هذه الطوائف لم يعد له رأي أو شأن، بل أصبح أداة في أيدي المتسلطين عليه باسم الدين أو الطائفة، حقوقه مهضومة تحت شعار “الدفاع عن الطائفة والموت من أجلها”، وهنا حل فكر القطيع مكان فكر المواطنة.

الجدار الرابع هو التغلغل الفكري السلفي الغيبي، الذي ينفي أي حق أو استقلالية للفكر البشري، ويحولنا بذلك إلى أدوات سهلة الاستعمال، يمكن تفجيرها بعمليات انتحارية إذا اقتضى الأمر، أو يدفعنا لقتال من نعتبرهم كفاراً وأعداء الله، حتى لو كانوا أبناء الوطن نفسه, ويحول الانسان الى وسيلة عسكرية بدل ان يكون هدف كل شيئ.

هذه الجدران كلها، تحمي إسرائيل من النهضة العربية، وعودة الأمة إلى رشدها وانتمائها المشترك. وقد ادرك مفكرو الصهيونية، أن وجود إسرائيل كوجود نظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا، لا يمكن أن يعيش في جو ديمقراطي حضاري إنساني، حيث يتعايش الإنسان مع أخيه الإنسان، مهما كان لونه ودينه وعرقه، له نفس الحقوق ونفس الواجبات. يدرك هؤلاء المفكرون، أن انطلاقة شرارة الربيع العربي من تونس، قد حركت مارداً يجب القضاء عليه قبل أن يستيقظ كلية وبشكل كامل.

للأسف فهذه الجدران، من صنع أياد عربية، وبغفلة من شعوبها، وخصوصاً بغفلة أو حتى سكوتا من مفكريها، إن لم نقل في أكثر الأحيان، تقاعسهم عن دق ناقوس الخطر، فنحن لا نرى إلا من يكتب ويغرد ضد الربيع العربي، ولبقاء أنظمة التجزئة والاستبداد، والذين تحت وهم الحفاظ على السلم الاجتماعي، الذي دمرته الأنظمة، يحاولون أن يقنعوننا بالعودة إلى بيت الطاعة.

حان لأبناء الربيع العربي، في كل مدن وعواصم العرب، أن يستيقظوا من جديد، ليؤكدوا للعالم أننا لسنا بناة جدران الانعزال عن بعضنا البعض وعن الآخرين، بل دعاة للانفتاح والانضمام من جديد لكوكبة الحضارة. بهذا نكون قد بدأنا بناء أنفسنا، وأفسدنا على إسرائيل ومفكريها خططهم القديمة/الجديدة، لبناء مزيد من الجدران ومزيدا من الخنادق.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s