البشير والحكم الرشيد: «من أين لك هذا»؟ نزار بدران
القدس العربي 21/01/2019

ونحن نعيش في خضم تغييرات سياسية واجتماعية جمة في الدول العربية، وآخرها احداث السودان والثورة على حكم البشير، يطالب هذا الأخير الجماهير العودة كل إلى بيته، وانتظار سياساته الجديدة لإنهاء الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد خلال بضعة أسابيع، وهو الذي حكم السودان بعد انقلاب عسكري منذ ثلاثين عاما.
وسائل الحكم
هل حقا يملك البشير وحكومته وسائل الحكم الرشيد، وما هي هذه الوسائل.
تأتي كلمة governance من اللغة اليونانية القديمة kobernan وكانت تعني قيادة المراكب والعربات التي تجرها الخيل، افلاطون الفيلسوف اليوناني الشهير كان أول من استعملها لتعريف حكم الناس والدول. وقد تفرع عن هذا التعبير مفاهيم فرعية جديدة مثل الحكم الاقتصادي (اول استعمال بأمريكا عام 1939) ومفهوم الحكم الرشيد عام 1981 من طرف الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران.
تعريف الحكم الرشيد حسب المؤسسات الدولية، أبعد ما يكون عن سياسات ونهج الرئيس السوداني عمر البشير، وهو يعني إقامة دولة القانون وحقوق الانسان والمساواة بين الرجال والنساء، والتوزيع المناسب للسلطات، والثبات الاقتصادي بخطوطه العريضة Macro economy .
وهو يعني أيضا وبشكل أكثر تفصيلا، أن يتمتع المجتمع بدولة مثل السودان، بنظام تمثيلي عادل، ومؤسسات وأدوات التقييم، وبروتوكولات عمل لمختلف قطاعات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية، تكون قادرة على الحكم وتوجيه العلاقات فيما بينها بطريقة سليمة وسلمية.
النمو الاقتصادي
الحكم الرشيد يربط النمو الاقتصادي بالنمو المستدام، بأبعاده الاجتماعية وتأثيراته البيئية، هادفا الحفاظ على مصادر الثروة الطبيعية. وفي بلد كالسودان هنالك ثلاثة أنواع من الثروات، الأولى تلك التي تستنزف وتنتهي يوما مثل البترول ،هي بحاجة لإدارة جماعية لترشيد استغلالها واستهلاكها، الثانية هي تلك التي تتجدد ويجب تقاسمها كالثروة المائية، وهي بحاجة لكفاءة وجودة إدارة المصادر الطبيعية وعدالة توزيعها. والثروة الأخيرة هي تلك التي تتضاعف وهي المعرفة والتعليم وزيادة الوعي. وكل شكل من اشكال هذه الثروات بحاجة لإدارة خاصة بحسب خصوصيات استعماله.
فصل الجنوب الغني
أين البشير من كل هذا، فصل الجنوب الغني بالنفط أفقر الشمال وأشعل الحرب الأهلية في الجنوب. الاستصلاح الزراعي واستغلال المصادر المائية الضخمة لم يملأ سلة خضار العالم، ولم يعد المواطن قادرا على توفير كفايته من الخبز، مشروع مراقبة واستغلال مياه النيل بأثيوبيا مع بناء سد النهضة العملاق ستكون له انعكاسات على الأمن المائي والغذائي للسكان، ولم نر لحد الآن أي سياسة لاحتواء الآثار السلبية لهذا السد على السودان.
هل تطورت الثروة الثالثة، أي التكوين العلمي والمعرفة في الثلاثين سنة الأخيرة، ونحن نرى أن على رأس المتظاهرين الأساتذة والمعلمين والطلاب، وقد شحت امكانيات جامعاتهم ومدارسهم، في حين تصل الأمية بحسب الاحصائيات الدولية إلى أكثر من 24 بالمئة،لا شيء تحت الشمس، وأي سياسة تعليمية يمكن أن تتبع في ظل حصار خارجي ناتج عن سياساته الهوجاء؟.
قطاع الخدمات
هل قطاع الخدمات خصوصا الصحة بوضع أفضل، ونحن نرى شح الأدوية والأدوات الطبية مهددا صحة المواطنين، فيما نسبة الوفيات لدى الاطفال عند الولادة تبلغ ثلاثين بالألف مقابل أقل من واحد بالألف في أوروبا بحسب المنظمات الدولية، وهي من أواخر الدول في هذا المجال.
هذا حكم أبعد ما يكون عن وصف الرشيد، فقد دمر كل منابع الثروة بالسودان، وافقر البلاد و العباد، دافعا الناس إلى الثورة التي نراها اليوم.
وإن حاولنا ترجمة مثل هذه التعاريف على واقع بلادنا، فنحن نحتاج للوصول للحكم الرشيد الى ارساء قواعد أربع، هي أولا الديمقراطية بمفهوم مشاركة الجميع بالعمل والسلطة وتبادلها السلمي، الشرعية هي الشرط الثاني وتعني ارتباط السلطة بارادة الشعب، وهي المصدر الوحيد والأوحد لهذه الشرعية. حسن الإدارة، الشرط الثالث، هي كفاءة المسؤولين والمعينين لإدارة البلاد على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. والشرط الأخير هو الشفافية، وهو يعني مراقبة الجمهور بوسائله المختلفة لكل نشاطات وأعمال السلطة التي تمثله أو الأشخاص المكلفين بأدارة البلاد ومحاسبتهم عند الحاجة.
من أين لك هذا؟
تعبير «من أين لك هذا» المعروف بالثقافة العربية والاسلامية، يلخص هذه النقاط، فهي تعني للمستبد كيفية وشرعية وصوله للسلطة وبقائه فيها، وتعني لناهبي الثروات بالسلطة ومن حولها كيفية الحصول عليها وتبذير أموال الفقراء، وتعني لمنظومة الفساد التي تحكم، شفافية النشاطات الاقتصادية.
عندما نرى أن أنظمتنا هي أبعد ما يكون عن قواعد الحكم الرشيد، فإن ثورة أهل السودان وباقي الشعوب المنهوبة، ليست فقط مشروعة، وإنما هي واجب على كل مواطن.
٭ كاتب ومراقب سياسي مقيم في باريس