السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بين الثابت والمتحرك. القدس العربي 05 آذار 2020

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

  بين الثابت والمتحرك

د. نزار بدران

تتميز السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بكونها انعكاساً لتطور الولايات المتحدة على مدى عقود، خصوصاً إنهاء زمن مضى، وهو القرن التاسع عشر، بقواه التقليدية، فرنسا وبريطانيا والدولة العثمانية، ودخول القرن العشرين، بعد اتفاقيات فرساي عام 1919، والبدء بالعد التنازلي السريع، لتراجع قوى الماضي إلى قوى القرن الجديد، المُتمثل بأمريكا من جهة والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى. 

كانت الولايات المتحدة، عندما شاركت بالاتفاقيات الجديدة التي ترسم العالم، وخصوصاً حدود دول الشرق الأوسط، وأوضاعها السياسية كانت تمثل القوى الناشئة الشابة، والتي هي الأولى التي رفعت بوجه الآخرين شعار حق الشعوب بتقرير المصير، والذي رُفع لأول مرة من طرف الرئيس ويلسون، ولكن ذلك لم يمنعه من تطبيق سياسة واقعية، تتناقض تماماً مع هذا المبدء بأميركا اللاتينية، والتدخلات الأمريكية العديدة هناك منذ القرن التاسع عشر، وكذلك رفض الوقوف مع حق الشعب المصري مثلاً بالاستقلال عن بريطانيا. نحن إذاً منذ البدء، مع دولة جديدة ناشئة وذات إمكانيات تزداد قوة، وترفع قيم المجتمعات الإنسانية الحديثة، دون التخلي بنفس الوقت، عن سياسات واقعية، هي بدورها استمرار للزمن الماضي. 

في بداية القرن العشرين، ركزت الولايات المتحدة على البعد الحضاري والثقافي، بتعاملها مع المنطقة العربية، عن طريق تطوير البعثات الثقافية والتعليمية، مقابل التدخلات الأوروبية، ذات الطابع السياسي والاقتصادي. هذه السياسة الشبه انعزالية، لم تدم طويلاً، بعد الحرب العالمية الثانية، والانهيار الكامل لقوى الماضي الأوروبي، لصالح ظهور قوتين جديدتين.

انتقلت بذلك الولايات المتحدة، من كونها قوة ناشئة، إلى موقع قوة عظمى، بجانب القوة العظمى الأخرى وهي الاتحاد السوفيتي، وتقاسمتا العالم من خلال ما يُعرف بالحرب الباردة، والتي لم تكن باردة على كل شعوب العالم، حيث يُقدر ضحاياها بالعالم الثالث ب 34 مليون قتيل، هي إذاً حروب بالوكالة بين الدولتين العظمتين.

نلاحظ في تلك الفترة أن قوة الاتحاد السوفيتي العسكرية، والتي كانت تُضاهي القوة الأمريكية، لم تكن مرتكزة على قوة اقتصادية، كما كان الحال عليه بالولايات المتحدة، فببداية الخمسينات، أي بعد الحرب مباشرة، كان الإنتاج الأمريكي يُعادل نصف إنتاج العالم، استهلاكهم للطاقة، يُعادل أكثر من الثلث، مع تطور علمي وتكنولوجي سريع، لم تعرفة أية دولة أخرى، بينما لم يتجاوز سكان أمريكا 6 بالمئة من سكان المعمورة. رغم مظاهر العظمة السوفيتية، فإن هناك خلل واضح في الأرضية الاقتصادية، التي أدت فيما بعد إلى انهيار الاتحاد السوفيتي.

بعد انهيار حائط برلين، والذي تبع هزيمة الروس بأفغانستان، وفشلهم بالانتصار،  بما سماه دونالد ريغان، حرب النجوم، أي التسابق نحو التسلح، وكذلك الانفجار النووي الرهيب بتشورنوبيل الأوكرانية عام 1986، تفردت الولايات المتحدة، بلعب دور الدولة العظمى، وأصبحت تُسمى دولة القطب الواحد، وهو ما أدى ببعض أساتذة السياسة، من التصور بأننا وصلنا حقاً إلى نهاية التاريخ. 

طبعاً ظهور الصين ابتداءً من سنوات الثمانينات، مع سياسة دينغ كساو بينغ، الاقتصادية وتطورها السريع، أدى لعودة جزئية، لمفهوم العالم ذا القطبين أو المُتعدد الأقطاب.

في إطار هذا العرض العام، ما هي نقاط الثبات بالسياسة الأمريكية ونقاط التحول، الحقيقة أنه لا يمكن أن توجد وبشكل دائم وأبدي، نقاط ثابتة لأي سياسة مهما كانت، ولكن هناك سياسات توضع لمدى طويل استراتيجي، وأخرى سياسية قصيرة الأمد أو تكتيكية.

بحسب الباحثين الأمريكيين أنفسهم، وأذكر منهم  فيليب غولاب، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بباريس حديثا، وجورج بول مساعد وزير الخارجيه الأسبق بالستينات، فهناك ثلاث نقاط، تُعتبر الثلاثي المقدس بالسياسة الأمريكية بالشرق الأوسط، حتى سقوط الاتحاد السوفيتي سنة 1991 تهدف جميعها إلى تمكين الرأسمال والاقتصاد الأمريكي، من السيطرة التامة على مُقدرات العالم، مُستعملة القوة الخشنة، أي العسكرية والاقتصادية، بالإضافة إلى القوة الناعمة، أي العلوم والتكنولوجيا والثقافة والسينما، في خدمة هذا الهدف الوحيد.

الثلاثي السياسي المقدس الأمريكي هو أولاً، الوقوف ضد التمدد الشيوعي واحتواءه، ويتم ذلك عن طريق دعم الأنظمة الديكتاتورية المحافظة، والتصدي لكل القوى المُعارضة لها، ديمقراطية كانت أو غير ديمقراطية، تحت حُجة انتمائها للمعسكر الشيوعي.

المحور الثاني، هو تأمين تدفق النفط خارج المنطقة، عن طريق منع أي تحالفات أو تغيرات سياسية ممكنة تتناقض مع هذا الهدف، مثال ذلك، اتفاق أمن الخليج لعام 1945، أو اسقاط محمد مُصدق بإيران عام 1953، وعودة الشاه.

المحور الثالث الذي حصل في مرحلة متأخرة نسبياً، هو الدعم والالتزام الأمريكي بسلامة واستمرارية دولة إسرائيل، بعد تراجع الدور الأوروبي.

هذه المحاور الثلاث، تُمثل السياسة الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى لحظة انهيار الاتحاد السوفيتي، وهي كما يجب أن نفهمها، مترابطة وليست نقاط متفككة، فدعم إسرائيل هو أيضاً للحفاظ على ديمومة الأنظمة الديكتاتورية المحافظة، والتصدي للتوغل الشيوعي، دعم الأنظمة المحافظة هو أيضاُ للمحافظة على وسائل النفط وإبعاد الخطر الشيوعي. وحدها المحاولات القومية، كما حدث مع الرئيس عبد الناصر أو مُصدق في إيران، من وضع على المحك هذه السياسات وحاول إفشالها، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، واستطاعت السياسة الأمريكية أن تحقق كل مرة أهدافها، فهزيمة عام 1967، وضع حداً لحلم عبد الناصر القومي، والإطاحة بمصدق أنهى أمل الإيرانيين بالتمكن من ثروتهم النفطية.

وحدها الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، بقيادة الإمام الخميني، من استطاعت إزعاج هذه السياسات ولمدة طويلة نسبية، وما نراه لحد اليوم من حصار لإيران، إلا محاولة أمريكية لإعادة الأمور إلى نصابها، وهو على ما يظهر، على طريق النجاح. الحروب الطويلة الأمد، هو أكبر مانع للشعوب والدول من التقدم الاقتصادي، وحسب الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، بمقابلة حديثة، فإن ما سمح للصين بالوصول لما وصلت إليه، هي إنهاؤها لكل الحروب، التي كانت قد شاركت بها بنهاية السبعينات، وهذه نظرية اجتماعية لعلماء التاريخ، فلا حضارة ممكنة إلا بوجود السلام الدائم. لذلك فإن إدخال إيران ودول المنطقة العربية، وحتى روسيا، باُتون حروب طويلة مكلفة، هي أحد وسائل السياسة الأمريكية، لإبقاء هذه الأطراف، بموقع الضعيف والغير قادر على البدء بعملية بناء مستقلة، قد تُهدد المصلحة الاقتصادية الرأسمالية الأمريكية. ولكن للأسف هذه الأنظمة الاستبدادية، تستعمل هي أيضاً هذه الحروب، لإبعاد أي أمل ديمقراطي تغييري داخلي، فهي بشكل واعٍ أو غير واعٍ، باتباع سياسة الحروب، تُنهي أي أمل حقيقي بالوقوف أمام الهيمنة الأمريكية.

بعد انتهاء فترة الاتحاد السوفيتي، دخلت السياسة الأمريكية بوضع جديد، وهو الانفراد وسياسة القطب الواحد، وأصبحت تدخلاتها العسكرية أكثر حِدة، وبدون أي رادع، وهو ما أدى إلى حروب الخليج الثانية والثالثة، والتي كانت سابقاً، بحرب الخليج الأولى، حرب أمريكية ضد إيران، ولكن بأيادي عربية. كذلك فرض اتفاقيات أوسلو لصالح الطرف الإسرائيلي، بعد الانفراد بالفلسطينيين، والانتقال بمفهوم تحرير فلسطين، إلى مفهوم إقامة فلسطين، على جزء محدود منها.

نرى لذلك، أن الأهداف المُقدسة السابقة الذكر، التي حكمت السياسة الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد بدأت بالتغيير:

أولاً: لم يعد هناك حاجة للحد من المد الشيوعي بعد انهيار حائط برلين والاتحاد السوفيتي، وخروج دول عديدة منه، ودخولهم الاتحاد الأوروبي، حليف أمريكا. 

ثانياً: لم تعد الحاجة للنفط القادم من الشرق الأوسط بنفس الحدة، فالإنتاج الأمريكي من النفط الصخري، والتطور التكنولوجي، والحصول على مصادر مُتجددة للطاقة، أدى إلى أن تستقل أمريكا بشكل كامل اقتصادياً، ولم يعُد هناك ما يُهددها وجودياً، إن توقف إنتاج النفط العربي أو الإيراني. بالمقابل ازداد الطلب العالمي على النفط، وخصوصاً الطلب الصيني، والتي أصبحت القوة الاقتصادية الثانية بالعالم. الخطر السوفيتي انتهى، ولكن أمريكا تواجه خطراً من نوع آخر، وهو الخطر الاقتصادي الصيني العارم، لذلك فإن الاهتمام بمصادر النفط بالشرق الأوسط، أمريكياً سيستمر، حتى تستطيع أن تتحكم أمريكا، بمصادر تمويل الصين النفطية، عن طريق كَم الانتاج المسموح به وسعره. 

ثالثاً: هذا المحور للسياسة الأمريكية، وهو الدعم لإسرائيل، ما زال على حاله، بل ازداد، بسبب انعدام الاستقلالية العربية سياسياً واقتصاديا. الدور الإسرائيلي أمريكياً، انتقل من حاجة إسرائيل لحماية أمريكا من الخطر العربي (كما كان زمن عبد الناصر مثلاً)، إلى الحاجة إلى إسرائيل قوية، لدعم الأنظمة المحافظة، أمام ثورات شعوبها، هذا ما نراه وما يُفسر، التقارب العربي الإسرائيلي بين دول الثورات المضادة، المُعادية للربيع العربي، وإسرائيل. فهي تريد أن تحمي نفسها، وتجلب التعاطف الامريكي، عن طريق الارتماء بالحضن الإسرائيلي، لم تعد إسرائيل موجودة لمنع أي تحالفات بالمنطقة، قد تؤدي إلى تهديد وسائل نقل النفط، والذي قلت أهميته، وإنما فقط الحفاظ على وضع سياسي عربي مُفكك، لمنع أي انتصار للربيع العربي، أو تكامل وتضامن الشعوب العربية، بأُطر أنظمة ديمقراطية، ستكون بشكل شبه أكيد، خارج إطار السياسة الأمريكية. المد الإسلامي المُتطرف وظواهره العنيفة، هي أيضاً جزء لهذه السياسات الهادفة لخنق الربيع العربي.

ما هي السياسات الأمريكية المُستقبلية، بناءً على مُعطيات الماضي والحاضر، من الصعب التنبؤ بذلك، ولكن يبقى هناك أمل بالتغيير، نتيجة أشياء عدة صغيرة حالياً، ولكنها قد تكون كبيرة غداً، أولاً وأهم شيء، انتشار الوعي وانتفاضة الشباب العربي، ضد كل مخلفات القرن العشرين، من تبعية وتجزئة، وأنظمة شمولية وأنظمة عسكرية، وخنق للحريات حتى نلحق بدول العالم.  ثانيها، تطور الوسائل البديلة للطاقة، وتراجع دور النفط بالمستقبل، مما سيحد من الأهمية الاستراتيجية من وجود الأنظمة المحافظة بالسياسة الأمريكية، وإمكانية التخلي عنها تدريجياً، وهو ما قد يؤدي بشكل آخر إلى تقليل الاهتمام بالدور الإسرائيلي كفاعل مهم بالسياسة الأمريكية. وما تصريحات مرشح الرئاسة ساندرز، بأمريكا وغيره، وتغير لغة الصحافة هناك، إلا بدايات بسيطة لتحول ممكن. 

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s