عقلية المؤامرة
د. نزار بدران
تكثر هذه الأيام ظهور العقلية التآمرية، خصوصاً بساحة التواصل الاجتماعي، وهو ما يُطلق عليه الناس نظرية المؤامرة، وكما يقول بيير أندريه تاغييف، فهذه التسمية خطأ جزئي، لأن المؤامرة قد توجد حقاً. أول كتاب بهذا الصدد، هو لرجل الدين أوغستين بارويل، عام 1798 حين اعتبر الثورة الفرنسية 1789 مؤامرة ضد الدين الكاثوليكي.
تظهر عقلية المؤامرة أمام الأحداث المهمة الدراماتيكية، طبيعية أو اجتماعية، وتنقسم بشكل عام لجزئين حسب علماء الاجتماع، كلاهما يتجاهل الأسباب الحقيقية، المبنية على العلم والمعرفة المؤكدة، إلى أسباب مُختلقة. هؤلاء الذين ينتمون إلى القطاع المُحافظ من المجتمع (اليمين المتطرف)، يرون أن المؤامرة تأتي دائماً من الأسفل، أي الأقليات أو الجزء المهمش من المجتمع، كما حدث عند اتهام مجموعات معينة، بقيامها بنشر الطاعون أو الجُذاب بالقرون الماضية، وهو ما أدى إلى اضطهاد هذه الأقليات (الماسونيون واليهود). النوع الآخر من أصحاب العقلية التآمرية، هم الذين ينتمون إلى الأعلى، أي الجزء المثقف والمُعادي بشكل عام لكل أنواع السلطات، فهؤلاء يرون دائما الحدث، كمؤامرة مُحاكة من السلطة القائمة. فعندما ظهر مرض الايدز مثلاً، اُتهمت الحكومة الأمريكية بنشر المرض، لتقليل عدد سكان العالم بالدول الفقيرة، خصوصاً أفريقيا، أو كما قال حديثاً، آيات الله الخميني، تنشر أمريكا مرض الكورونا، لتغيير جينات الشعب الإيراني.
وكمثل آخر، يعتبر البعض التطعيم ضد الأمراض، مؤامرة، تفسيرها مرتبط بالمستوى الاجتماعي لدعاة النظرية، بفرنسا أو الدول الغربية الأخرى، يُعتبر اللقاح ضد الأمراض من طرف هؤلاء، تآمر السلطات الحاكمة مع المختبرات الطبية لتحقيق أكبر قدر من الأرباح بالأضافة لمخاطره الكبيرة، وهو ما دفع جزء من الناس، إلى رفض تطعيم أبنائهم، مما أعاد لفرنسا مؤخراً، مرض الحصبة وبعض أمراض الطفولة المُعدية. نفس اللقاح بالدول الفقيرة، يُعتبر من قِبل حاملي هذه العقلية، كمؤامرة غربية، لتعقيم النساء المسلمات، بهدف تقليل عدد السكان، وهو ما زاد من انتشار أمراض وأوبئة خطيرة بدول مثل نيجيريا وباكستان، والتي إختفت ببقاع كثيرة من العالم.
نحن إذاً، أمام ظواهر عالمية غير عقلانية، تواكب دائماً، أي حدث مهم طبيعي أو إنساني الصنع. لا يختلف وباء الكورونا، عن غيره من الأحداث المهمة التراجيدية، التي تفتح مخيلات أصحاب الفكر التآمري.
علم ألإجتماع
تُبنى النظرية التآمرية حسب علماء الاجتماع على أربعة أعمدة،
أولاً: لا شيء يحدث بالصدفة، فموت الأميرة ديانا عام 1997، هو مؤامرة من ملكة بريطانيا، وليس حادث سير عرضي.
ثانياً: كل ما يحدث هو نتيجة إرادة مُسبقة مخفية، كمرض الإيدز مثلاً.
ثالثاً: لا شيء يبدو كما هو حقيقة، بل هو وهم أو خيال للتضليل، والحقيقة بمكان آخر.
وأخيراً: كل الأمور مترابطة، كما حدث بالفترة المكارثية بأمريكا، حيث اُتهم الشيوعيين بتدبير كل المؤامرات ضد الشعب الأمريكي، حتى استعمال الكلور لتنقية المياه، كان عند البعض مؤامرة شيوعية. يُضيف أصحاب الفكر التآمري المُعاصرون، نقطة خامسة: وهي جمع الأدلة الدامغة، ولكن هذه الأدلة لا تجمع، إلا بهدف إثبات النظرية، وتبتعد عن أي دليل عكس ذلك، أو يوضع كجزء من المؤامرة نفسها.
نجاح هذه النظريات مرتبط أيضاً، كما يقول بعض علماء الاجتماع والفلاسفة (آنا آرنت)، بحُب الناس للحصول على تفسير كامل للعالم وما يحدث به، وهو ما يتطابق طبعاً، مع أوهام نظرية المؤامرة التي تفسر كل شيء. لذلك فالكتب التي تُدافع عن النظريات التآمرية، تنتشر واسعاً بين الناس، بينما الكتب المبنية على الحقائق العلمية، لا يقرأها إلا القلة، لأنها لا تعطي جواباً كاملاً شافياً، بسبب طبيعة العلم المُتغير والمتطور.
علم النفس
علم النفس بدوره، يُعطينا تفسيراً للأسباب الموجودة خلف عقلية المؤامرة، لو قرأنا ما كتب سيغموند فرويد مؤسس علم النفس، حول الوهم الديني، بكتابه مستقبل وهم أو كتاب مأساة الثقافة، فإننا قد نجد تفسيراً لهذه النظرية، من نفس مُنطلق النقد الديني. يقول فرويد تُفسر الظواهر الطبيعية العنيفة، مثل الزلازل والفياضانات والأوبئة، بكونها إرداة إلهية، كعقاب للناس، وهو ما يُعطي هذه الظواهر، جزئياً، بُعداً إنسانياً، فيكفي أن نتضرع لله حتى يُبعد عنا ذلك. نستطيع بذلك الاعتقاد الديني بحسب فرويد، أن نضع الظواهر التراجيدية الطبيعية بدائرة الرقابة الإنسانية. نفس الشيء بالنسبة للأوبئة أو للجفاف أو غيره. تفسير فرويد للوهم الديني، مرتبط إذاً بالقلق الإنساني الناتج عن الأخطار التي تحيطه من كل الجهات، الطبيعة، الأمراض والمجتمع، ويضيف أيضاً أنه كلما تقدم العلم تراجعت الخرافات والأوهام وهو ما يدفع أصحابها إلى الألتجاء إلى مزيد من المعجزات لتغطية فشلهم.
قياسا على هذه النظرية، المبنية على علم النفس، يمكننا أن نقول، أن أصحاب نظرية المؤامرة هم بشكل عام، أناس قلقون بطبيعتهم (عقدة الاضطهاد)، وهم بذلك، بحاجة دائماً لتفسيرات كاملة مُشفية للغليل لما يحدث، حتى يتمكنوا من السيطرة على قلقهم هذا.
نظرية المؤامرة إذاً، تُعطي هؤلاء هذه الطمأنينة، لأنها تُفسر لهم كل شيء وبالتفاصيل. الوهم الديني بنظرية فرويد، اُستبدل هنا، بنظرية المؤامرة، ولنفس الهدف، أي إبعاد القلق والخوف.
الفلسفة
من ناحية أخرى من منظار الفلسفه فإن النظرية السببية، هي أساس العلم والفلسفة معاً، أي لا شيء يحدث، أو يصبح قابلاً للفهم بدون أسباب، مهما كانت صعوبة تحديدها. تفسير ظاهرة ما، يعني أولاً، إظهار سبب أو أسباب ظهورها وهو ما يفسر النتيجة. من هذا المُنطلق، فإن أصحاب العقلية التآمرية، يعكسون هذه النظرية، فالأسباب عندهم تصبح النتائج، والنتائج هي الأسباب.
فحين نتهم الصين بالتآمر لنشر هذا الوباء، لضرب أمريكا اقتصادياً، فنحن نضع الوباء بمرحلة ثانية تتبع المحرك الأول وهو ضرب الاقتصاد الأمريكي المرجو. طبعاً هناك اليوم من يعتبر أمريكا أساس انتشار المرض لضرب الاقتصاد الصيني، وأخيراً من يتهم فرنسا والصين معاً بهذه الفعلة الشائنة. عقلية المؤامرة إذاً تعكس الأشياء، وهو ما يُسهل عملية الفهم ويُبسطها، وبالتالي يُبعد عنا قلق البحث عن الأسباب أو فهم النتائج.
تعليم أطفالنا ومنذ الصغر، مباديء النقد الفكري العقلاني، بدل تلقين الأوهام الدينية، والخزعبلات التقليدية، هي ضمان ألا نقع جميعاً، بفخ دُعاة المؤامرات الوهمية، هذه الدعوات التي قد لا تُفيد ولا تُضر ببعض الأحيان، ولكنها بأحيان أخرى قد تكون خطيرة جداً، فانتشار مرض شلل الأطفال، بدول عدة بأفريقيا وأسيا، رغم وجود لقاح فعال وأكيد وآمن ومتوفر ورخيص، هو أكبر دليل على خطورة هذه الأطروحات وضرورة التصدي لها.
ببلادنا العربية، هناك من يتهم إيران بنشر الوباء بالبحرين ودول الخليج، وطبعاً إيران تتهم أمريكا بنفس الشيء.
الإنسانية أمام حرب عالمية ثالثة، عليها كلها، فلا يوجد متآمر، ولا ضحية تآمر، وإنما فيروس صغير هو السبب، انتقل من حيوان بري بالصين، إلى العالم كله وهو النتيجة، ما يُظهر هشاشة هذا العالم، وضرورة التضامن الشامل لمواجهة الأخطار.
كاتب ومحلل سياسي مستقل