المثقفون والسلطة القدس العربي 31/10/2021

المثقفون والسلطة

نزار بدران

نستغرب كثيرا عندما نقرأ ما يكتبه بعض المفكرين، مبررين ما يقوم به عتاة الطغاة. المثال السوري أو الإيراني واضح تماما، فتدمير بلد كامل وتهجير نصف سكانه وتجويع الجميع، لم يكن كافيا لرفع الغشاوة عن عيون الكثيرين ممن يدعون الوقوف ضد الامبريالية والصهيونية.

مثال ذلك أيضا من دعم وما زال دكتاتورية صدام حسين وانظمة مشابه لم تبنى إلا على قتل كل معارض.

على مستوى العالم هناك احباء الرئيس الفنزويلي السابق هوجو شافيز، أو الرئيس الكوبي الراحل فيديل كاسترو، وأيضا ماو تسي تونغ في الصين أو ستالين في روسيا. في حقبة سابقة كان هناك من المفكرين الغربيين من وقف مع النازية والفاشية.

نحن طبعا لا نقصد كل المفكرين، فهناك من قضى نحبه دفاعا عن الديمقراطية ولم يحد يوما عن العمل ضد الظلم مهما كان مصدره، نذكر منهم الراحل ميشيل كيلو والمهدي بن بركة في المغرب وكثير من الشعراء والادباء، الذين قضوا سنوات طويلة في سجون هذه الديكتاتوريات أو ماتوا فيها. نحن نركز فقط على هذه الشريحة والتي رغم صغرها إلا أنها تملأ الدنيا ضجيجا. مثلا هذه النخبة من مفكري الفصائل الفلسطينية من يمينها إلى يسارها، وهم لا يرون بسبب عماهم الأيدلوجي ما يحدث في مجموعة من الدول التي تحكمها أنظمة تَدَّعِي ممانعة الاستعمار والصهيونية وأمريكا.

في احسن الاحوال، لو اعتبرنا أن هذه المواقف تنبع عن حسن نية، هؤلاء المفكرون خاطئون في تحليلاتهم، والوقائع على الأرض تثبت ذلك. هم ينطلقون من مبادئ عفى عنها الزمن منذ انتهاء الحرب الباردة. 

في كتابه الذي صدر عام 2017 “من بنيتو موسوليني إلى هوجو شافيز” أظهر المنشق الهنجاري السابق واستاذ العلوم الاجتماعيه في الولايات المتحدة، “پول هولاندر”، لماذا يدعم وبشكل علني كثير من المفكرين زعماء أنظمة شمولية، وما يشعر به هؤلاء ويفسر انجذابهم، رغم معرفتهم التامة للجرائم والفظاعات المرتكبة، تبقى هذه العلاقة بين الحاكم المستبد ورجل الفكر ظاهرة مبهمة.

على عكس ما قدمته الفيلسوفة الالمانيه آنا ارنت من أن الجهل هو ما يدفع أجزاء كثيرة من المجتمع للانجرار وراء اوهام القادة الاقوياء والمستبدين، كما رأينا مثلا مع جمال عبد الناصر او الإمام الخميني، فإن دراسة بول هولاندر أظهرت أن نسبة المثقفين المنجرين وراء الدكتاتوريات بالنسبة لعددهم الإجمالي هو أعلى من تلك النسبة بين عامة الناس.

يمكننا ملاحظة ذلك بوضوح مع الربيع العربي، فعدد المثقفين ووسائل الإعلام ألتي إبتعدت عن دعم الشباب المحتج تتزايد مع تقدم قوى الثورة المضادة، هذا ما رأينا في مصر وسوريا وغيرها، بينما أبناء الربيع العربي في لبنان والعراق والسودان والجزائر ما زالوا متمسكين بمواقفهم ويزيد عددهم يوما بعد يوم.

يذكر المؤلف تعريف ادوارد سعيد لشخصية المثقف  ” شخص قادر على قول الحقيقة ، شخص شجاع وغاضب ، لا توجد قوة دنيوية بالنسبة له أكبر من أن تُنتَقد وتُسأَل بوضوح.  المثقف الحقيقي هو دائمًا غريب ، يعيش في منفى فرضه على نفسه على هامش المجتمع”

نحن عندما ننظر حولنا إلى مثقفينا نفهم تماما عزلة ادوارد سعيد النفسية.

يعطينا بول هولاندر في كتابه ما يعتقده الأسباب وراء انبهار هولاء المثقفين، هي ليست مادية أو منفعية دائما، أو ضعف فكري أو غشاشة مؤقته. يذكر المؤلف شخصيات مهمة أمثال الفيلسوف الالماني هيدجر وعلاقته بالنازية او الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مع ماو تسي تونغ وستالين، وكتاب غربيون كبار آخرون.

النوع الأول برأيه هم هؤلاء الذين لم يستعملوا قدراتهم النقدية، فوقعوا في الجهل، ولحسن الحظ فهم يغيرون موقفهم بمجرد معرفة الحقيقة

النوع الثاني هم الانتهازيون الراكضون وراء منافع السلطة، هم حماة النظام  ومنظريه واشد منتقدي معارضيه. هذا النوع منتشر بشكل واسع حالياً في بلادنا العربية، ويستعملوا كل الوسائط الحديثة.

النوع الثالث هم هؤلاء المثاليون والذين يرفضون ما يرون وينكرون الحقيقة، كل جريمة هي خبر كاذب أو من صنع الضحايا. هم يظنون أن القائد الملهم سيسير في اتجاه ما يحلمون به من إقامة نظام حداثي أو اشتراكي او العكس ديني، فسقف توقعاتهم عاليا جداً. هذا النوع رأيناه مثلا مع وصول السيسي وطرد الإسلاميين.

النوع الرابع هم هؤلاء الذين يجرهم النظام جرا عن طريق كيل المديح والتبجيل بهم، ليضمن وقوفهم معه، خصوصاً الذين يتمتعون بشعبية كبيرة، مثال بعض الشعراء او شخصيات فنية مرموقة في سوريا، وحتى في مصر، شهرتهم تستعمل هنا لأهداف سيئة.

النوع الخامس هم هؤلاء الذين يعترفون بطابع النظام الاستبدادي ولكنهم يقارنون دائما بين السيئ والاسوأ، يتسائلون هل نظامهم أفضل من نظامنا، الكل سيء لكنا أقل سوأ. هم يفتقرون إلى المقدرة على تمييز الأبعاد الأخلاقية.

النوع السادس من المثقفين، هم المهتمون بتوافق سياسة النظام مع المعايير العلمية، هي أسس النظام النازي او قبله الاستعماري والذي جَيَّر البحث العلمي لصالح نظريات عنصرية، كذلك النظام الشيوعي وحتمية وصول الطبقة العاملة للسلطة كما نَظَّرَ لها ماركس. ما يحدث من عنف هو جزء من النظرية العلمية.

النوع الاخير هم هؤلاء المبهورون بكاريسما الزعيم بعيدا عن أي تفسير عقلاني وحبهم للشخصية السلطوية، مثال فيديل كاسترو او هيجو شافيز، فهم أحسن الموجود.

كل هؤلاء يقبلون عنف السلطة، ويعتبرونها ضرورية للتقدم، وكما قال المفكر والتر دورانتي فإننا “لا نستطيع أن نعمل عجة دون كسر بيض”. لا يتغير معظمهم حتى ولو عرفوا حقيقة وبشاعة الجرائم المرتكبة، وحده انقلاب الرأي العام عند ادراكه لذلك، من يجبرهم الى تبديل ارائهم، خوفاً من فقدان جمهورهم.

هؤلاء المعجبون بالدكتاتور، لا يهمهم تناقضه مع لائحة حقوق الانسان، او معايير الديمقراطية والحضارة الحديثة. ما يخطؤون به دائما هو أن الديكتاتور لن يحقق لهم احلامهم واوهامهم، والنموذج المصري شديد الوضوح.

عندما يُغَيِّب المثقف معايير الحقيقة فإنه يصبح هشا وقابلا للجذب من قبل السلطة. هؤلاء لم يعودوا مثقفين او مفكرين بل مجموعة من المبهورين، خانوا أنفسهم قبل شعوبهم.

لينين أطلق عليهم عند وصوله للسلطة إسم “الحمقى المفيدون”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s