
نزار بدران. القدس العربي 29/08/2022
على هامش محاولة تنفيذ فتوى الإمام الخميني بحق الكاتب البريطاني الهندي سلمان رشدي بسبب رواية كتبها قبل أكثر من ثلاثين عاما لم يعجب عنوانها غلاة التدين الإسلامي، فلا أظن أنهم قد قَرَأوها، فهم غير معنيين أصلا بالأدب العالمي، لكنهم وصموها بالكفر، وحق إذن قتل الرجل دون أدنى محاكمة، بالإضافة إلى الأعمال الإرهابية التي حصلت في السنوات الأخيرة في أوروبا ضد دعاة حرية الفكر والتعبير، واستمرارها في بلاد عديدة من بلاد المسلمين كأفغانسان والعراق، وما يواكبها من قتل للمدنيين الأبرياء، والمدافعين عن الحق بحرية الرأي والإيمان. كذلك تراجع الهيئات الرسمية الدينية عن دورها بالاستنكار وإخراج القتلة من دائرة الإنسانية، والاكتفاء باعتبارهم فقط فئة ضالة نرجو من الله عودتها للطريق الصحيح، ظهر للمجال العام إشكالية حق التعبير الحر وحدوده، هل هناك أشياء يمكن التفكير والتعبير عنها وأشياء أخرى لا تقبل ذلك.
المساحة المفتوحة للرأي
في بلادنا من النادر أن نجد من يطرح السؤال عن كيفية تحديد تلك المساحة المفتوحة للرأي والنقاش والتعبير، وتلك المغلقة، وهل هذه المساحات ثابتة مع الزمن وهل هي نفسها عند كل شعوب الأرض.
بداية سأعطي تعريفا للمصطلحات وبعض المفاهيم .
أولا: حرية التعبير هي إمتداد لحرية التفكير فالكتابة أو الكلام أو الرسم أو السينما هي إمتداد لفكرة أو معتقد داخل الدماغ ، التفكير يسبق إذا التعبير وحرية الأول يحدد حرية التالي والعكس صحيح.
ثانياً: في المقابل فالمقدس هو ما يرفض أن يكون موضع نقاش وهو مرتبط عضويا بمفهوم التكفير فمثلا وجود الله أو الجنة وأشياء أخرى كثيرة هي رمز واضح لما هو مقدس عند المسلمين، الشيء نفسه عند المسيحيين كاليسوع أو الصليب، الشيء نفسه عند الهندوس والبوذيين الذين يقدسون تماثيل بوذا وأشياء أخرى عديدة. لكن استعمال الدين كمصدر للسياسة والتقنين المجتمعي أضفى على تلك القوانين ثياب القدسية وأخرجها من دائرة الفكر والنقاش العام، وسمح بفرض ما تشاءه السلطة من نوعية وشرعية وأساليب الحكم تحت غطاء القدسية وبدون الرجوع إلى النقاش الاجتماعي، الخروج عنها أصبح تحت طائلة التكفير والعقاب وليس إبداء رأي مخالف.
تتسع حرية التعبير عند اتساع دائرة حرية التفكير، وتتراجع المقدسات، والعكس صحيح، فكلما زاد المنطق الغيبي المبني على ما يعتبره المدافعون عنه مُقَدَّسا، تتراجع حرية التفكير وتكبر دائرة التكفير.
هذا ما حصل في أوروبا في الثلاثة قرون الأخيرة، وهو إخراج الدين من السياسة والعمل المجتمعي، وهو ما سمح بوضعهما في إطار النقاش العام، وتحديد القدسية بحيز صغير.
إعمال العقل
هذا كان فكر إبن رشد او ما يقال عن المعتزلة ومبدأ الشك الذي تبنوه، إعمال العقل في كل شيء وحرية الاختيار بعيدا عن المقدسات والمحرمات.
في العالم الإسلامي يُرْفَض القبول بالتفكير بأهم ثلاثة أشياء:
أولاً: قدسية الدين مع أنه في الوقت نفسه يقنن حياة الناس أي الشريعة، فالمقدس هو بالتعريف خارج النقاش لذلك لا تُعَلَّم الفلسفة في المدارس لأنها لا تقبل الغيبيات والمقدسات.
ثانياً: السياسة لأنها حكر على السلطة وَيُعَلِّمُوا أطفالنا دائما عدم الحق في التدخل في السياسة، فشرعية الحاكم جزء من الأشياء المقدسة، وفي معظم الأحيان يحكم بإسم الدين.
ثالثا: الْمُحَرَّم الكلام فيه نهائيا هو الجنس، فنعيش في أوهام طبيعة الجنس الآخر، وما يحق ولا يحق دون أدنى دراية مما يزيد الكبت والتحرش، وانتقاص حقوق الأضعف أي المرأة. في بلاد المسلمين حرية التعبير هي بمستوى حرية التفكير المسموح بها، هي إذا شبه معدومة، إلا إذا عشنا في بلاد الغرب لنتمكن من الكلام. جزء كبير من وسائط الإعلام العربية تصدر من الدول الغربية، بما فيها الإعلام القريب من الفكر الإسلامي. عندما نكون هكذا، يخرج المحرومون من حق التعبير والتفكير في بلادنا، الملتزمون فقط بالمقدسات الدينية أي التي يمنع التفكير بها، يخرج هؤلاء ليشرحوا للغرب منابع وأساليب التعبير السليم، نحن حقا نعيش في عالم وحدنا، وكأن الإنسانية لم تقاتل وتضحي منذ قرون لاسترجاع حقها باعتبار حرية الفكر المستقل خارج الأطر الغيبية، كان إبن رشد ومدرسته تدافع عن ذلك في القرن الثاني عشر ودفع الثمن لشيوخ زمنه وتم نفيه. ولكن فكره هذا عندما وصل أوروبا بعد سقوط الأندلس، مَكَّنَهَا من البدء بزمن التنوير، وهي التي كانت في القرون الوسطى تعيش ويلات الحروب الدينية.
الفكر النَّيِّر
هل سنسترجع فكر إبن رشد أم سنستمر برفضه كما نفعل منذ ثمانية قرون. إن أردنا ذلك فهذا الفكر النَّيِّر هو ما نراه اليوم في الغرب وفي جزء كبير من دول العالم المتحضر، واسترجاعه هو حق أصيل لنا، فنحن من ترجم أرسطو ومن فسره للغرب، وَطَوَّرَه على يد وفكر العلامة إبن رشد وآخرين.
عندما توضع المقدسات والمحرمات مكان الفكر، يصبح التعدي والقتل أحد وسائل التعبير الحر، كما عشناه على أجساد أبنائنا وأهالينا مع التنظيمات المتطرفة كداعش والقاعدة في سوريا والعراق وغيرها، أو كذلك منع الرسم الحر، وناجي العلي كان نموذجا لذلك. هذا الخلط وعكس المفاهيم المنطقية واضح للأسف من كلام وكتابة العشرات من كتابنا الذين يتفهمون دوافع الجريمة تحت حجة تعبير «أدين الجريمة ولكن…» هكذا يعطى المجرم أو أي مختل شرعية عمله وتشجيعها، لأنه يعتقد أنه يقوم بعمل نيابة عن ملايين المسلمين فيصبح أمام نفسه بطلا، ويعتبره كذلك آلاف الناس ألبسطاء. يكفي أن نتابع وسائل التواصل الاجتماعي لنرى الكم الهائل من رسائل الدعم والتفهم والتشجيع لهذه الأفعال المشينة.
مسؤولية من يعتبر نفسه مؤثرا في الرأي العام كبيرة جداً، ويجب أن لا نكتب ما يمكن فهمه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كتشجيع وتشريع للقتل. في آخر تغريدة لمهاتير محمد رئيس ماليزيا السابق ذي الشعبية الساحقة عند المسلمين، بعد مقتل أستاذ فرنسي على يد شاب شيشاني داعشي، لم يتوان عن تشريع قتل ملايين الفرنسيين، هو نموذج لهذا الانحراف الذي يسقط به بقصد أو غير قصد قادة الرأي العام.
الإمام الخميني ملهم الثورة الإسلامية عاش عشرين عاما في فرنسا حليفة الشاه في زمنه ولم يمنعه أحد من نشر فكره المحرض على الثورة، بينما كان إصدار فتوى إعدام سلمان رشدي من أول قراراته بعد عودته لإيران وما تلاه من اجتثاث أقرب المقربين له مثل الرئيس الأول لإيران أبو الحسن بني صدر لعدم امتثالهم التام لمقدساته.
ليس سلبيا ولا عيبا ان يكون في مجتمعاتنا العربية الاسلامية قيم عليا ومبادئ متفق عليها، والدين الصحيح هو جزء منها، تماما مثل القوانين الارضية، لا يجوز خرقها والتعدي عليها. يجب ان يلام من يبالغ في الفكر المضاد وتحدي المجتمع في افكار استفزازية لا تتناسب مع المنطق العام، وكما انه لا يمكن اعتبار خرق القوانين جائز، يجب ان تكون قيم المجتمع كذلك مقدرة ومحترمه، ولا يجوز اختراقها بحجة حرية الرأي، وبنفس الوقت لا يمكن محاسبة المخطئ الا ضمن القانون المعترف فيه والمتعارف عليه.
إعجابإعجاب