.القدس العربي
ثورة القدس: إعلان وفاة الدولة القُطرية العربية
د. نزار بدران
لن تكوُن هبة القدس، التي تجتاح حالياً الوطن العربي، واصلة البعد الإسلامي والعالمي، رد فعلٍ على حدث عابر، بل كان اعتراف أمريكا بإسرائيلية ألقدس، الشرارة التي أطلقت العنان أخيراً، لوضع متأزم منذ عشرات السنين، منذ قيام إسرائيل عام 1948، والتي تزامن تقريبا، مع بناء الدول القطرية العربية.
أحداث صغيرة، قد يتلوها أحداث جِسام، مثل الربيع العربي 2010، بعد موت محمد بو عزيزي، أو أحداث كبيرة، قد يتلوها تسلسل لأحداث صغيرة، تؤدي إلى التغيير الجذري المُرتقب، كما حدث مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وتحرر دول شرق ووسط أوروبا. القدس حدث جم، وستتلوه أحداث كثيرة صغيرة وكبيرة، لن تتوقف إلى أن تصل إلى مداها.
لن تتمكن الدولة القطرية الوطنية العربية، منذ نشأتها، من الدفع نحو الرد المناسب تجاه التحديات التي تواجه الأمة، في كل النواحي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والدفاع عن الحدود، لم تدفع نحو التكامل العربي بأي مجال، هل هذا هو فشل الدولة القطرية، أم هو دورها المُناط بها؟.
الحقيقة أن الوضع الذي ورثناه، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً تقسيم الإرث العثماني، بما يُسمى اتفاقيات سايكس بيكو، بين القوى الأوروبية المنتصرة، لم يكن فقط تقسيماً لإرث، بل خطة كاملة واضحة المعالم، لفرض السيطرة على منطقتنا، وإنهاء أي خطر مقبل منها.
والناظر بإمعان إلى تلك الفترة، يُلاحظ بسهولة، أن الوضع الجديد، يختلف أساساً عن الوضع السابق الذي ساد المنطقة العربية، منذ مئات السنين، والذي شكل دوماً ندا لأوروبا ومصالحها، وهو وضع متكامل نسبياً، في إطار الخلافة العثمانية لعدة قرون، أو بالدول والإمبراطوريات التي سبقتها، كنا دوماً جسما واحدا تقريباً، من أدنى الشرق إلى أقصى الغرب العربي، وكانت لنا عاصمة واحدة، إسطنبول العثمانية، أو قاهرة الموحدين، أو بغداد العباسيين، أو دمشق الأمويين.
الوضع الذي نعيشه إذاً، منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، وانتهاء الإمبراطورية العثمانية، هو الوضع الطارىء على الأمة، وليس الوضع الطبيعي الذي ساد لقرون طويلة.
تفجرت عبقرية المستعمر الغربي، عن وضع حل جذري للخطر الآتي من الشرق، وفعلاً كان حلاً فاعلاً، استمر ناجحا لحد الآن طوال قـرن من الزمـن.
هذا الحل ليس أحادي الجانب، بل وُضع له أسس ثلاثة ليقف عليها ويدوم، هذه الأعمدة الثلاثة هي، تجزئة الأمة، تثبيت هذه التجزئة بأنظمة ديكتاتورية، عسكرية أو شبه عسكرية، ثم الحفاظ على الكل وديمومته، بخلق الحارس الإسرائيلي الأمين المضمون الجانب، أعمدة ثلاثة إذا هي التجزئة العربية، الأنظمة الديكتاتورية وإسرائيل.
هي ثلاثة أطراف متكاملة متضامنة، بالمفهوم التاريخي والفلسفي، وليس فقط بالمفهوم اللحظي، أو المصلحي المؤقت. هذه الأطراف الثلاثة، لا يمكن لها البقاء والعيش كل على حدة، فلا تجزئة بدون أنظمة ديكتاتورية، ولا تجزئة وأنظمة ديكتاتورية بدون إسرائيل، ولا إسرائيل بدون هذه الأنظمة والتجزئة.
هذا التفاعل الديالكتيكي، بين هذه الأطراف، تجلى بأكمل صورة بالمرحلة الأخيرة، بعد انطلاق الربيع العربي لعام 2010، فهذا الربيع الشعبي، استطاع أن يهز إحدى قواعد اللعبة الموروثة عن الغرب، أي إحدى القوائم الثلاث المذكورة سابقاً.
استطاع شباب الأمة، أن يهزوا قائمة الديكتاتوريات، بمطالبتهم بالحرية والديمقراطية، فهبت لنجدتها إسرائيل، الحارس الأمين، والتي تحالفت مع عسكر القوى المُضادة للثورة في مصر للإطاحة بالنظام المنتخب، أو الدعم المباشر وغير المباشر للنظام السوري، وترك حزب الله وإيران مثلاً، يخوضان حربهما السورية بدون أي محاسبة، دفعت إسرائيل أيضاً، والأنظمة الديكتاتورية، إلى خلق ودعم الحركات الإسلامية الإرهابية، للحلول مكان الفعل الثوري الديمقراطي وإجهاضه، كما نرى في العراق وسوريا واليمن وليبيا.
وما نراه حديثاً، من تقارُب السعودية وإسرائيل، إلا لملمة لأعمدة نظام سايكس بيكو وتضامنها، لمحاولة الحفاظ على بقائه وقوته.
نحن لا نعيش إذاً، وضعاً غير طبيعي، عندما نرى التقارب الإسرائيلي العربي الرسمي، وتحالفه المفضوح ضد شعوب الأمة، بل هو الوضع الطبيعي، والدور المُناط بتلك الأنظمة وإسرائيل، بهدف بقاء الأمة، خارج السياق التحرري العالمي، والذي بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي من جهة، وتحرر جنوب إفريقيا من جهة أخرى، والذي انتشر بكل بقاع الأرض.
منذ عام 2011، وبدء موجات الربيع العربي، ونحن نعيش أوضاع مد وجزر، تتقدم الثورة في مكان، ثم تتراجع في مكان آخر، وفي كل مرحلة يزداد أعداؤها، عنفاً وضراوة، ويتكاثرون ويتضامنون، ويستعملون كل الحيل والوسائل، لإجهاض الحراك الديمقراطي، لا أصدقاء لسوريا الثورة، مهما زاد عددهم على الورق، ولا أصدقاء للشعب اليمني، بل قتلة ومجرمون، من كل الأطراف المشاركة، لا أصدقاء للشعب الليبي أو العراقي، بل قتلة سافكو دماء من إيران وميليشياتها المذهبية، إلى التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة.
لا أحباء للشعب الفلسطيني، رغم الهجرة والفقر والقمع المستمر، هذه أوضاع لم نرها، ولا في أي مكان في العالم، فكان هناك أصدقاء لسود أفريقيا الجنوبية، عملوا ودعموها حتى تحررت، كذلك أصدقاء لمجاهدي أفغانستان، حتى طردوا السوفييت، وداعمون بدون حساب، لثورات أوروبا الشرقية، أو أمريكا اللاتينية، وحدها الثورات العربية، هي اليتيمة على وجه الأرض.
وفجأة، أتت هبة ألقدس لتظهر للناس، أن أحباء فلسطين والقدس، هم الملايين المُمَلينة، وهم الجزء الظاهر من المارد الشعبي العربي والإسلامي، والذي أيقظته القدس من سباته العميق. وهي التي بينت عقم الدولة القطرية وانتهاء دورها وعودته الطبيعية للشعب مباشرة، وما نجاح جماهير القدس بشهر تموز/يوليو الماضي وإجبارها إسرائيل على التراجع بغياب كامل للأنظمة إلا بوادر هذا الفعل.
نحن نراهن على استمرار هذا المارد، بالتملمُل، حتى يصحو تماماً، ويعيد الأوضاع إلى مجراها، الذي كان عليها أن تكون عليه، أي أرض واحدة واسعة وشعب موحد من مئات الملايين، وسلام دائم لنا وللقدس.
كاتب عربي