رجل الدولة ورجل السياسة… تعازي الخيبة

تتمايز مواقف الدول ورجال السياسة، بناء على مُعطيات مادية وفكرية وعقائدية، وبناء على قوة أُممهم الاقتصادية والعسكرية وتأثيرها بالعالم، هي مرتبطة أيضاُ، بشكل قوي، بشخصية المسؤول والظروف التي تُحيط به، فكلما زادت هذه الظروف صعوبة وسوءا، وكلما قلت قوة الدولة، انحرفت المواقف عن القيم المرفوعة، لصالح المصالح الآنية، وذلك لدرء الأذى أو التغلب على مصاعب اللحظة.
ما يُميز رجل الدولة، الذي يدخل التاريخ، عن رجل السياسة، الذي لن يذكره أحد، هو مقدرة الأول على تحديد سياسات الحاضر مُتعلماً من تجارب الماضي، لتفاديها وعدم تكرارها، بهدف الحفاظ على المستقبل.

السياسات الانتهازية

هو إذاً ينطلق من الماضي للمستقبل مروراً بالحاضر. بينما الثاني، أي رجل السياسة العادي، هو من يتميز بالحنكة لفهم الحاضر، من أجل حل مشاكل الحاضر، اعتماداً على ظروف الحاضر، هذا الرجل له رؤية آنية بسيطة ساكنة، ورجل الدولة له رؤية ديناميكية معقدة.
نموذج ذلك ما رأيناه حديثاً من مواقف لحركة حماس، من خلال زيارة اسماعيل هنية رئيس مكتبها السياسي للتعزية، وقبوله بدعمه النظام الإيراني علنياً، من خلال تصريحات تُمجد الفريق قاسم سليماني، هنية من مُنطلق البحث عن مصادر دعم، من دولة مهمة بالمنطقة، في زمن شح فيه الدعم العربي، والدول الصديقة، وزاد الخناق على الشعب الفلسطيني ومؤسساته، تبنى مواقف تتوافق مع تصوره للصالح الفلسطيني حاضراً، وهو كمسؤول أمام هذا الشعب، له الحق بالبحث عن الوسائل المناسبة لتحقيق ذلك.
لكن هل هذا هو موقف رجل دولة، أم عمل سياسي سطحي، نحن أبعد ما يكون عن مواقف الرجال العظام، ونقع بفخ السياسات الانتهازية القاتلة، والتي لا تزيد الأزمة إلا تعقيداً.

مخيم اليرموك

نحن بذلك تناسينا الماضي والمستقبل وحتى الحاضر، لصالح اللحظة الراهنة، الماضي هو مثلاً، دعم ياسر عرفات لصدام حسين بحرب الخليج الثانية، والتي لم تُغير حاضراً حينها، وأدت لمستقبل سيئ للفلسطينيين، الذين طُردوا بعشرات الآلاف من دول الخليج، ولكن أيضاً مستقبل أسود في العراق نفسه، بعد وصول النظام الجديد، ونذكر بهيام مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين على وجوههم بالصحراء بين العراق والأردن، لفترة طويلة، قبل أن تقبل البرازيل استقبالهم.
الحاضر المنسي، هو قتل وتهجير مئات الآلاف من أبناء الشعب السوري، بأيدي إيران وروسيا، وكذلك تهجير قسم كبير من الفلسطينيين، للمرة الألف من مخيم اليرموك وغيره.
هل إعطاء شهادة عذرية لإيران، مقابل دعم موعود، ستُفيد الحاضر الفلسطيني، وتحفظ المستقبل، هل هناك شخص عاقل يتصور أن النظام الإيراني سيبقى للأبد ضد رغبة شعبه، والتي أظهرتها الاحتجاجات المُتكررة، رغم 1500 قتيل من بين المتظاهرين، بشهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، لقد سقطت كأوراق الخريف، كثير من هذه الأنظمة الاستبدادية .
هل هذه المواقف التي تستعدي الشعب السوري المظلوم، ستحمي مستقبل الشعب الفلسطيني، ونحن نُدرك أن نظام الأسد وداعميه، لن يتمكن من البقاء طويلاً، وانتشار الثورات العربية بكل مكان حالياً، دليل سير التاريخ العربي بـطريق جـديدة.
حدثت مثل هذه السياسات الآنية في الماضي، عندما ذهبت وُفود من السلطة في الضفة الغربية وحماس من غزة لموسكو، لإجراء محادثات مصالحة، تحت إشراف بوتين، والذي شارك وما زال بتدمير مدن سورية بطائراته، وكأن ما يحدث بحماة أو حلب لا يعني مستقبلنا قبل حاضرنا.

المعايير الفلسطينية

مُعارضتنا للسياسات الأمريكية، المُعادية لفلسطين وحق شعبها، ودعم الرئيس الأمريكي لإسرائيل بلا محاسب أو رقيب، يُبرر أن نقف ضد أمريكا، ولكن ذلك لا يُبرر أن ندعم نظاماً لم يقل عن أمريكا فتكاً وقتلاً، كنظام الملالي في إيران.
كنا نتمنى، على من اختار، كرمز للثورة الفلسطينة، اسم المجاهد الشهيد عز الدين القسام إبن حلب، التي دمرتها إيران وحلفاؤها، أن يَرُدوا الجميل للشعب السوري، وأن يقفوا بصفه دائماً، مهما كثُرت الإغراءات والدعم الموهوم المقبل من أعدائه.
عودتنا إيران وأتباعها، أن تنتقم من الغارات الإسرائيلية العديدة، على مواقعها في سوريا، بزيادة قصف وتدمير الشعب السوري، ولا أظن أن أحداً منا سيدعم هكذا أفعال.
كنا نود من هنية، وباقي القادة الفلسطينيين، أن يتبنوا مواقف تتناغم مع ما نطلبه نحن الفلسطينيين من الآخرين، فلو تبنت دول العالم المعايير الفلسطينية بالعلاقات الدولية، أي تلك المبنية على المصلحة الآنية المادية، بدون اعتبار أخلاقي، فلن يقف معنا أحد، فما مصلحة دولة مثل السويد أو كندا أو غيرها، أن تقف مع الحق الفلسطيني، لإقامة دولة فلسطينية، أو رفع الحصار عن غزة، على حساب علاقاتها مع إسرائيل، هل نستطيع تقديم شيء لهم مقابل ذلك، طبعاً لا شيء، بينما هناك تبادل مصالح أكبر بكثير مع إسرائيل من ذلك الموجود مع الفلسطينيين.
ماضينا هي تجاربنا الفاشلة التي يجب أن نتعلم منها، حاضرنا مأساوي، ولكن تحسين شروطه، لا يجب أن يتم على حساب مستقبلنا، هذا المستقبل الذي سيكون، وبكل تأكيد، مع كلا الشعبين السوري والإيراني، وليس مع أنظمتهما الحاكمة حالياً.
نتمنى من الساسة الفلسطينيين، أن يتبنوا مواقف رجال الدول العظام، والتي تحفظ المستقبل وتبنيه، وليس مواقف آنية متقلبة، كما يفعل رجال السياسة الذين لم يفهموا التاريخ.

مراقب ومحلل سياسي فلسطيني