مؤتمر فلسطيني الخارج والشتات المنسي

 

نشر بالقدس العربي بتاريخ 20/03/2017

مؤتمر فلسطيني الخارج والشتات المنسي

نزار بدران

 

كانت منصة اسطنبول لفلسطيني أللجوء فرصة مواتية للتذكير بان اكثر من نصف الشعب الفلسطيني متواجد بالشتات، خصوصاً الدول العربية المحيطة بفلسطين. حق هذا الجزء المهم، بالمشاركة بالمشروع الوطني، والذي كان عنوان المؤتمر، شيء لا يحتاج للتفصيل والتحليل، والتاريخ النضالي ألفلسطيني منذ عشرات السنين، يُظهر اهمية التكامل بين الداخل الفلسطيني، والخارج المُهجر.

تناسي اتفاقيات أوسلو، وما تلاها من تفاهُمات مع إسرائيل لحق هذا الجزء بالعودة لوطنه، بشكل لا لبس فيه، هو من ادى الى تمزيق الجسم الفلسطيني، بين المتواجدين داخل حدود أوسلو وحُلم الدولة القادم، والقابعين خارجة وكابوس البقاء بالمخيمات للأبد.

فقط الجزء المتواجد خارج الدول العربية حالياً، أي بأوروبا والأمريكيتين، بشكل أساسي (أقل من 700 الف)، هم من يستطيعوا أن يُعلنوا تمتعهم بحقوق إنسانية عادية.

أكد المؤتمر ببيانه ألنهائي على بعض الحقائق ألتاريخية لسنوات الستينات، أي الشعارات المؤسسة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويُطالب بشكل واضح بالعودة لهذه القيم المفقودة.

إننا نتفهم كل ذلك، ولكن العودة للماضي، لا يمكن أن يكون طريق المستقبل لأسباب عدة، أهمها أن العالم من حولنا قد تغير بشكل جذري منذ ذلك الزمن، والذي كان صراع الشرق والغرب والحرب الباردة، هو شعاره الأساسي، وكذلك النضال الوطني بدول عديدة للخروج من الاستعمار.

هذا التغير المستمر، تسارع بشكل مُذهل في السنوات القليلة الماضية، فانهار الاتحاد السوفيتي، وانتهت الحرب الباردة، وانتقل العالم في الخمسة والعشرين سنة ألأخيرة من مُحاربة الاستعمار والإمبريالية، إلى محاربة الاستبداد والظلم ألداخلي لهذه ألأنظمة التي أتت زمن الحرب الباردة. تحررت قارات بأكملها، مثل أمريكا اللاتينية من حكم العسكر والأنظمة الشمولية، وكذلك دول شرق أوروبا وجنوب أفريقيا ودول عديدة بآسيا.

عندما ندعي طرح فكر جديد، يجب على هذا الفكر، أن يتلاءم مع المرحلة الحالية، أين نحن من الحروب التي تشنها أنظمة عربية على شعوبها، بدل أن نُعلن حيادنا التام، وكأن قتل السوري بحلب، أو الفلسطيني بمخيم اليرموك، لا يوازي قتل الفلسطيني بالقدس.

أين موقف المؤتمر من ألجماهير التي يدعي تمثيلها بالخارج، مخيم اليرموك الذي دُمر على رؤوس أهلة اللاجئين الفلسطينيين، وهُجروا إن لم يُقتلوا، إلى لبنان والأردن، أين نحن من فلسطينيي العراق، الهائمين على وجوههم من العنف الطائفي، أين حقوق الفلسطيني منذ أكثر من ستة عقود بلبنان، والممنوع من أقل أسباب الحياة.

مؤتمر الشتات، كان عليه أن يذكر مآسي الفلسطينيين في الشتات ، وهم اللذين سيكونون جيش التحرير.

الربيع العربي والذي وُوجه بالحديد والنار، من الأنظمة التي نُهادنها، هو صوت شبابي يبحث عن الحرية ودفع الاستبداد، أين هم الشباب بقيادة حراك فلسطيني الخارج، وأفكارهم الخلاقة، والتي بكل تأكيد، لن تختلف كثيراً عن أفكار أقرانهم بالوطن العربي.

لا يكفي أن نُطالب بالعودة، خمسين عاماً للوراء، حتى نجد حلولاً لمشاكل الشتات والداخل الفلسطيني، بل علينا أن نندمج بالمرحلة التي يعيشُها العالم حالياً، ونتفاعل مع آلام وآمال أمتنا العربية، وليس النأي بالنفس كما نفعل منذ البدء.

الفكر الجديد بحاجة لأناس جُدد، ولا يمكن أن يكونوا إلا من شباب الشعب الفلسطيني، والذي يُعايش يومياً، مآسي التشرد بدولنا ألعربية كما نرى بلبنان حالياً مع مخيم عين الحلوة، دافعاً البعض للمقامرة بحياته، للحاق بدول الشتات الأخرى الأبعد، ولكنها الأرحم.

 

 

 

 

البحر المتوسط شرخ فاصل ام جسر واصل

نشر بالعربي الجديد بتاريخ 08/03/2017

 

البحر المتوسط

شرخ فاصل ام جسر واصل

نزار بدران

 

منذ انتهاء الإمبراطورية الرومانية، انتهى مفهوم الحضارة المتوسطية الواحدة، أو المفهوم القديم للمتوسط ” بحرنا “، الذي وضعه الجغرافي اليوناني استرابون، بالقرن الأول، بمفهوم العالم المُتمدن،  هذا الشرخ ما زال قائماً، بين جنوب وشمال البحر المتوسط.

وُجدت زمن الإمبراطورية الرومانية، أول عولمة بمفهوم وجود دولة واحدة وحضارة واحدة، كل ساكن مهما كان مولده وأصله، هو مواطن روماني، يحتكم لما يُسمى بقوانين الجمهورية، دليل ذلك أن خمسة من أشهر أباطرة الرومان، كانوا من أصل سوري  معظمهم من حمص، وبالتحديد,كراكلا, غيتا, ايل جبل , سيفيروس الكسندر وفيليب العربي. وكذلك سيبتيمس سيفيروس من ليبيا, و ماكرينوس من الجزائر, .الآثار التي نجدها بروما، هي نفسها التي نجدها بليبيا والأردن وسوريا وغيرها.

هذه العولمة الأولى، انتهت بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، بالقرن الرابع، والتي حل بعدها ببضع قرون، بجنوب وشرق المتوسط فيما بعد الدولة الإسلامية. منذ ذلك الزمن، انتهى مفهوم وحدة البحر المتوسط، وبدل أن يكون بحيرة داخلية رومانية لدولة واحدة، أصبح حاجزاً أو جسراً بين حضارتين، الغربية المُنتهية والإسلامية الناشئة.

الحضارة الإسلامية، بُنيت بعد وصول العرب إلى بلاد الفرس ذات الحضارة العريقة، وهذا ما يُفسر أن جُل العلماء المسلمين مثل إبن سينا الفارسي، والفارابي من تركستان، والخوارزمي عالم الكيمياء، من أوزبكستان، والبخاري الفارسي وسيبوية من مواليد شيراز لغوي العربية الشهير. كل هؤلاء من أصول غير عربية، العرب في بداية الفتوحات الإسلامية، لم يدمروا حضارات من سبقهم، بل على العكس أعطوها إمكانيات أكبر للانتشار, من ناحية أخرى تمكنت الفتوحات الإسلامية لبلاد الشام من الوصول إلى قبائل تعرف التكلم باللغة اليونانية، وهو ما سهل حين ذاك، ترجمة مؤلفات أرسطو وأفلاطون وغيرهم، وفتح باب الحضارة الإسلامية، عندما ربط العرب بين الحضارة الفارسية العريقة، التي دخلت الإسلام، وعُظماء الفلاسفة الإغريق.

النزاع التاريخي بين شمال المتوسط وجنوبه، لم يكن حاجزاً لانتقال الحضارة، فرغم الفتوحات الإسلامية، والحروب الصليبية، وطرد المسلمين من الأندلس، فإن الأوروبيين فتحوا الأبواب على مصراعيها للحضارة العربية والإسلامية، والحضارة اليونانية التي حملها العرب لهم. فبالوقت الذي كان فردينان دارغون، يطرد المسلمين من الأندلس، ويدخل آخر معاقلهم بغرناطة، فإنه لم يحرق بل أخذ آلاف الكتب الموجودة في مكتباتها العريقة، ووزعها على أهم المراكز الأوروبية في ذلك الزمن، والذين بدأوا على الفور بترجمتها، واضعة بذلك أُسس انتقال الحضارة العربية إلى أوروبا، وأسست للنهضة الغربية.

الفكر العقلاني القادم من الأندلس وعلماء اليونان، أخذ مكان علم اللاهوت والغيبيات والخزعبلات، التي كان يعيش عليها الغرب بالقرون الوسطى، وأسست لفكر فلاسفة عظام، أمثال ديكارت وكانت، والذين استقوا من فكر ابن رشد وغيره، من علماء ذلك الزمن.

نرى نفس الشيء، ولكن بالاتجاه المُعاكس، أي أن الحملة النابليونية على مصر، بعد الثورة الفرنسية (1789)، ترافقت مع تطور الدراسات الشرقية، التي قام بها العلماء، في كافة الأوجه، اللذين أحضرهم نابليون معه، رغم أن الحملة لم تستمر إلا ثلاث سنوات (1789-1802)، إلا أن محمد علي باشا، اقتبس الفكر الحداثي الغربي، وبدأ بحملة واسعة، لإقامة دولة عربية حديثة، لم يُكتب لها النجاح، بسبب توافق السلطان العثماني، والقوى الأوروبية على هزيمته. نرى ذلك أيضاً بتونس، مع الوزير خير الدين، الذي وضع أسس الحداثة وأول دستور لدولة إسلامية سنة   1861 مقتبسا القوانين المدنية الاوروبية.

 

نرى ذلك مع فكر الإصلاحيين الإسلاميين، اللذين درسوا بالغرب، أمثال الشاعر الفيسلسوف الهندي الباكستاني، محمد إقبال، وكان أستاذاً بألمانيا وبريطانيا حتى انه كان له مدرسة واتباعا غربيين، ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، اللذين أسسا لجريدة العروة الوُثقى بباريس، عام 1884، وحتى السلطان عبد الحميد الثاني، والذي وضع قبل انهيار الدولة ببضع سنين، أول دستور للإمبراطورية العثمانية، مع بدء تحديث الدولة، ووضع القوانين المدنية المُقتبسة عن الغرب.

هذا التفاعل الحداثي بين الشرق والغرب، بين شمال المتوسط وجنوبه، كان جسراً حضارياً، تعدى بحر الحروب والأطماع.

في كل زمن، نجد حضارة ومركزاً لإشعاعها، ووجود الحروب والنزاعات، لا تعني فصل الحضارة وتجزئتها، فالحضارة لها طابع إنساني، لا تستطيع الحروب منع انتشارها، بل قد تكون كما رئينا وسيلة لذلك. الحضارة العالمية، هي تلك التي يستطيع أي إنسان على وجه الأرض ان يجد نفسه فيها، ففكر أفلاطون وأرسطو تبناه علماء الإسلام، في بدايات الحضارة الإسلامية، قبل تجميد ذلك بإغلاق الاجتهاد، وإنهاء العقل لصالح النص.

من هذا المفهوم فنحن نعتقد، أن مفهوم الحضارة الغربية، كحضارة وُلدت بالغرب، ولا تصلح إلا للغرب، هو مفهوم خاطىء، فلولا الحضارة الإسلامية، لما وُجدت الحضارة الغربية، ولولا الحضارة اليونانية والفارسية، لما وُجدت الحضارة الإسلامية، ولولا وُجود الحضارة الرومانية لما وصلنا لشىء.

الحضارة هي نهر واسع جارٍ، تصب فيه أنهر صغيرة كثيرة، كل أمة وكل شعب يُساهم بها وبتطورها.

قيم حقوق الإنسان، والمساواة بين الناس، والدولة الديمقراطية، هي بعض من قيم حضارة هذا الزمن العالمية، وليست قيماً غربيه، وإن وُجدت وترعرعت بالغرب، بعد الثورة الفرنسية.

خصوصيات الشعوب لا تُترجم بحضارة خاصة بهم، تعادي او تتناقض مع الآخرين، بل بثقافات خاصة، تُغني الحضارة العالمية الواحدة. فالثقافة العربية هي ما أنتجته الخصوصية العربية، من أدب وشعر وهندسة معمارية وأشياء كثيرة لا تُعد ولا تُحصى، كذلك الثقافة الصينية أو الإفريقية، هذه الاختلافات في الثقافات ضرورية، لبناء عالم ملون جميل، يستطيع كل شعب أن يُعبر عن نفسه، ويُغني الثفافات الأخرى، ولكنهم كلهم يتفقون على إطار حضاري واحد. العولمة الحديثة لا تعني، أن نلتحق بالثقافات الغربية، بل على العكس، يجب الحفاظ على ثقافاتنا ولغتنا وكل خصوصياتنا، والعمل الدؤوب على منع ذوبانها واختفائها، تحت حُجة الحضارة المشتركة.

التمييز بين مفهوم الحضارة، وهي واحدة، ومفهوم الثقافة، وهي متعددة، مهم جداً، التراجع الثقافي الذي نراه حالياً بالعالم العربي، على مستويات عدة (كالفن والأدب وغيره) والإفقار الفكري العام، والابتعاد عن الحضارة والقيم العالية، والتقوقع في أُطر غيبية دينية، كما فعل الأوروبيون في القرون الوُسطى، قبل وصول الحضارة الإسلامية واليونانية لهم، هو ما يجب الانتباه إليه، علينا أن نفتح الأبواب والنوافذ كلها، لإدخال الحضارة لبلادنا، وإيصال ثقافتنا ومشاركتنا الحضارية، إلى العالم.

الأوضاع العربية الحالية، هي نتاج هذا البكاء المستمر، على حضارة فقدناها، والحُلم باستعادتها، وكأن نهر الحضارة السائر، باتجاه البحر، يمكن له العودة للخلف. الشعب الياباني أو الصيني أو الهندي، استطاع بناء دولة قوية ومتطورة، والعمل للانتماء للحضارة الإنسانية الحديثة، بدون أن يفقدوا شيئاً من خصوصياتهم وثقافاتهم، بل على العكس، أصبحوا من أكبر روافد هذه الحضارة، وقد يُصبحوا قريباً، وقبل مُنتصف القرن الواحد والعشرين، مصدرها الأساسي، كما هو الغرب حالياً.

تركيا وأندونيسيا، ودول مسلمة أخرى، بجنوب شرق آسيا، انطلقت بدورها إلى الإمام، وطورت التعليم والصناعة، والحكم الرشيد والديمقراطية. تبقى الدول العربية، هي حقيقة الاستثناء الوحيد بالعالم، وليس الإسلامية، والتي لا تستطيع، رغم ثرواتها الريعية الهائلة، وقد يكون بسببها، الالتحاق بالجوقة العالمية. الهوة الوحيدة التي تستمر بالاتساع بالعالم، هي بين شمال البحر المتوسط وجنوبه، وتقارير الأمم المتحدة، عن التنمية بالعالم، يطرق جرس الخطر بتقاريره السنوية، منذ عام 2002.

نهر الحضارة العالمي جارٍ منذ آلاف السنين، وهو يمر بكل الدول و الشعوب والأزمان، رفض الالتحاق به لن يضر أحداً غيرنا، وسنبقى خارج الحضارة والتاريخ.

الحراك الشبابي للربيع العربي، جاء لتصحيح هذه الخصوصية عندما رفع عالياً قيم حضارية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد وعليه ان يعمل للتخلص من كل قوى التقوقع والاثقال السياسية والاجتماعية التي تحاول ان تجره الى الوراء.