نصير شمَه وعُود الأمل

نصير شمَه وعُود الأمل

نزار بدران

أحيا العازف العراقي الشهير، نصير شمَه، ومجموعة من الموسيقيين من كل بقاع الأرض، حفلة موسيقية بباريس، كان عُود نصير عِمادُها. أُقيم الحفل بأشهر وأعرق صالة للموسيقى والغناء بباريس، وهي مسرح الأولومبيا، التي غنت على خشبته سيدة الشرق أم كلثوم، في العام 1967. حضر هذا الحفل عدد من أعيان مدينة الأنوار، وعدد غفير من المواطنين ومن أبناء الجالية العربية والمُحبة للموسيقى.

نوعية وعدد الحضور، أظهر بوضوح، شغف الجمهور العربي والفرنسي، بموسيقى العود. إقامة هذا الحفل الكبير، أعاد الحياة إلى الموسيقى العربية، بعد هجمات باريس الإرهابية، قبل أشهر قليلة، والتي حدثت في صالة موسيقية شهيرة ايضاً، هي صالة البتكلان، على بُعد بضعة مئات الأمتار من مسرح الأولومبيا، والذي أودى بحياة ثمانين شخصاً.

جمع نصير شمَه بفرقته قارات العالم، كل على آلته، من البيانو إلى القيثار والطبلة والكمنجة وغيرها، ثمانية أدوات موسيقية وثمانية موسيقيين شهيرين، من أرغواي والبرازيل وتونس وأمريكا وفرنسا وتركيا. أتحفنا نصير بذلك الغزل، الذي أجراه بين العود وكل آلة أخرى على حدة، جامعاً الحزن والفرح، والحب والغيرة، في مكان واحد.

ولمن يعرفون نصير شمَه، وتاريخه الموسيقي الطويل، وما واجهه بحياته من ظُلم، وهو الذي نجا من إعدام مُحقق، زمن صدام حسين، حين كان تقريباً السجين الوحيد الذي لم يقتل، بعد اختطافه من عمان لبغداد، حيث رأى كل رفاقه بالسجن الأربعمئة، يُعدمون الواحد تلو الآخر. رأى أيضاً عنف الحرب الأمريكية، التي تبعت حكم صدام حسين، والحروب الطائفية، هذا لم يمنعه من الاستمرار، بكونه داعية للسلام والموسيقى، والبحث المُستمر، بإبداعية العود الذي اخترعه السومريون، في عام 2350 قبل الميلاد،  في بلاد ما بين النهرين. أعاد نصير لها الحياة بكتابة ألحانه على ذكراها وما تخيله منها، عازفاً بأصابعه الخمسة، كما كان ذلك في زمنهم. وأحيا كذلك موسيقى الفارابي، وعوده ذا الأوتار الثمانية.

نصير شمَه، لا يرى بالعراق إلا الوجه الجميل، وموسيقى العود، التي تسقي العشرة ملايين نخلة بين دجلة والفرات، فهو لا يرى بالطوائف والحروب الطائفية، إلا وسيلة من حكم الاستبداد والظلم للبقاء، ولا يُعبر بشيء عن حقيقة الشعب العراقي بكل أطيافه وألوانه ، الذي يُحب موسيقى عود نصير التي ربطت الماضي بالحاضر والحداثة بالتراث.

نصير شمَه وعُود الأمل DOWNLOAD LINK

الخيار السليم في زمن الخيارات الصعبة

الخيار السليم في زمن الخيارات الصعبة

نزار بدران

يقول إينشتاين، أنه من الأسهل تفجير نواة الذرة من تغيير أحكام مُسبقة عند البعض، هذه الأفكار المُسبقة، هي التي تُحضر لاعتبار الآخر، غريباً عجيباً، يجب التخلص منه، مثال ذلك، العُنصرية المُتفشية في كثير من الدول، والتي تعتبر الأفارقة مثلاً، أقل ذكاءً ومقدرة، حتى ولو وصل باراك أوباما، الإفريقي الأصل، لرئاسة أكبر دولة بالعالم مرتين. فهذا حكم لن يتغير عند هؤلاء، ذوي الأفكار المُسبقة.

في بلادنا تُعتبر المرأة، أقل مقدرة على إدارة الشأن العام، أو تسلم الوزارات والمهام الاستراتيجية، حتى ولو رأينا ما تقوم به أنجيلا ميركل، وما أوصلت إليه ألمانيا، من تقدم اقتصادي وحضاري مذهل، تجاوز كل الدول الأوروبية الأخرى، التي يحكمها رجال. في بلادنا هذا المثل، كما يقول أينشتاين، لن يُقنع أصحاب الأفكار المُسبقة عن المرأة، بتغيير رأيهم، ولا ألف غيره.

الأفكار المُسبقة، وما يردفها من اعتقادات بالحقائق المُطلقة، إذا استشرت في شعب أو أمة، فهي ستؤدي بدون أدنى شك إلى التخلف، والخروج من عالم التحضر، ومن عالمنا كله، هذا العالم الذي يبني نفسه على مفهوم البحث والعلم والمعرفة والتجربة، وليس على حقائق مُطلقة وأفكارٍ موروثةٍ من الآباء وآباء الآباء والأجداد.

تطوير الفكر والذات، بحاجة إذن، إلى التخلص مما ترسب من أفكار وأحكام مسبقة، على الأشياء والأفعال والناس. وكي يتم ذلك، لا توجد إلا وسيلة واحدة، وهي العلم واكتسابه، والاطلاع على ما يقول ويفعل الآخرون، وانفتاح الذهن على كل شيء جديد، وعدم الانغلاق وراء أبواب العادات والتقاليد المُغلقة، منذ قرون.

من ناحية أخرى، يقع كثير من الناس في فخ الاضطرار للاختيار بين المتضادات، وهو ما نلاحظه بشكل مستمر، هذه الأيام بالصحافة والإعلام. فالخلاف بين إيران والسعودية، أو النظام السوري وأطراف المعارضة بالثورة السورية، يدفع البعض بناءً على أحكامه المُسبقة، ضد هذا الطرف أو ذاك، فنحن مع إيران لأسباب مذهبية، أو مع السعودية إن كنا ضد السياسة الإيرانية وطائفية حكامها، فيجد الإنسان نفسه، إما مُدافعاً عن الحكم السعودي أو آيات الله الإيرانيين، مُتناسياً حقه بل واجبه، بأن يكون له موقف مستقل، للاختيار بين الأضداد. هذا ما حدث في القرن الماضي، عندما وقفت دول أوروبا الغربية في وجه النازية، فذلك لم يعن إرتماءها في أحضان الشيوعية، بل استمرت في خياراتها المستقلة وسيلة للحكم الأمثل، بانتهاجها الخيار الديمقراطي.

لنا الحق أن نختار خياراً ثالثاً، بين الاستبداد بالسلطة أو التطرف الديني، انحيازا لخيار الديمقراطية ودولة المواطنة، التي صدحت بها حناجر المتظاهرين بالملايين، في ساحة التحرير وشوارع وعواصم العرب.

الوقوف مع النظام السوري، بحُجة أن بعض أطراف المعارضة السورية، متهمة بالتعاون مع المجموعات المتطرفة الدينية، أو السكوت عن إسرائيل وامريكا، أو اندفاعها نحو العمل المُسلح، بديلا للاحتجاج السلمي، كل هذا، لا يجب أن يدفعنا إلى دعم ديكتاتورية النظام السوري والعمل لإبقائه، الحل هو الخيار الذي حمله أطفال درعا ومئات آلاف المتظاهرين في بداية الثورة، وتغنى بها إبراهيم القاشوش (سوريا بدا حرية)، والداعي للديمقراطية والدولة التعددية، والرافضة للتطرف الديني، والمنتمية للأمة العربية.

الهدف أن نستنير بآراء الآخرين وتجارب الشعوب، والعودة لتاريخنا وتاريخ غيرنا (فالمسلمون لم يختاروا بين الفرس والروم)، حتى نستطيع أن نفكر بأنفسنا ولأنفسنا، وكي لا نقع ضحية الاختيار الاضطراري، بين السيئ والأكثر سوءاً.

كمثال يوضح ذلك ويتفق عليه كل الناس، هو التناقض بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، رفضنا لسياسة التنسيق الأمني، والتعامل من طرف السلطة مع إسرائيل، أو رفضنا لسياسة حماس بقطاع غزة، من طرف الكثيرين، لم يدفعهم لدعم إسرائيل، والوقوف ضد الشعب الفلسطيني. لذلك فرفض البعض، لأطراف بالمعارضة السورية، أساءت للثورة من خلال مواقف دينية متطرفة، قادمة من العصور الوسطى، لا يجب أن يدفع باتجاه رفض مطالب الشعب السوري بالحرية والديمقراطية، وحقه بالثورة على الظلم، بل على العكس، يجب العمل لدعم الأطراف التي تقف مع الديمقراطية والتعددية، حتى لو كانت أقلية. فالوقوف مع الحق هو الأصل، حتى ولو كان هذا الحق ضعيفاً، ليس له سند من الدول الكبرى، أو دول المنطقة المؤثرة.

نحن نستطيع إذاً، أن نكون مع الشعب السوري بثورته ضد الظلم، وبنفس الوقت ضد القوى الدافعة لتأسيس نظام ديني متعصب أو ما يسمى 2″دولة الخلافة”. إن لم نفعل ذلك، فماذا سنقول للأطفال الجوعى بمضايا وغيرها، ولملايين المُهجرين والغارقين بالبحر؟.

من واجبنا إذن، أن نفكر دائماً، قبل الانصياع للمعادلات التي تُفرض علينا؛ النظام المُجرم أو المعارضة المُتخلفة؛ إيران آيات الله أو الحكم السعودي، وهذا ما نفعله تلقائياً، بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية او حماس، حيث لا أحد يختار إسرائيل، وينسى عذابات الشعب الفلسطيني ولاجئيه.

لا يمكن للكوليرا أو الطاعون، أن يكون خياراً مقبولاً من أي عاقل، بل الصحة والعافية فقط، هي الهدف، مهما كانت الكوليرا فتاكة وسريعة الانتشار، ومهما كان الطاعون رهيباً، ترتجف من خوفه الأبدان، ومهما تكن استعادة الصحة والعافية، صعبةً ومُكلفةً في كثير من الأحيان.

الخيار السليم في زمن الخيارات الصعبة DOWNLOAD LINK

الإرهاب في إيران كسلطة مطلقة

 

الإرهاب في إيران كسلطة مطلقة

نزار بدران

قامت السلطات الإيرانية، بحسب تصريحات رسمية، لنائبة الرئيس الإيراني لشؤون المرأة والعائلة، السيدة شهيندخت مولاوردي، بإعدام كل الرجال في قرية سكانها من أصول بلوشية، وذلك بتهمة المُتاجرة بالمخدرات. هذه المناطق الفقيرة المُهمشة، التي لا يجد أهلها ما يعينهم على العيش، في أغلب الأحيان، إلا تجارة المخدرات، كما يحدث ذلك في كثير من الدول، من آسيا وأمريكا اللاتينية، وشمال أفريقيا واليمن وحتى سيناء وغيرها. فهل قتل الناس، بدون تمييز ومحاكمات صورية، وترك الأطفال أيتاما، والنساء أراملا، هو ما يحل مشكلة الفقر وتجارة المخدرات؟.

قتل المواطنين بالجملة، هو في الحقيقة، العقاب الوحيد الموجود في دساتير دول الإرهاب، كما هو موجود في المجموعات الإرهابية، مثل “داعش”، فهي لا تُعرف المواطن، إلا كعبد للسلطة، يُؤمر ويُنِفذ، وإلا فعقوبته الإعدام. الاحتجاج على السلطة، أو طلب الإصلاح، جريمة يُعاقب عليها داخل إيران، بالإعدام، ويُعلق الناس على أعمدة الكهرباء والرافعات.

الدول الفاقدة الإنسانية، هي التي تستمد سلطاتها ونفوذها وقوتها، وما تتصوره شرعيتها، من مصادر غير الشعب، فهي إما من عند الله مباشرة، ككثير من الملوك ومُدعي الإمامة والخلافة، أو من قوة الجيش والعسكر، والمليشيات المُسلحة، والأمثلة في بلادنا كثيرة.

النموذج الإيراني للتعامل مع مطالب الناس، ينطبق على النموذج السوري والمصري وغيرهم كُثر. الشعب يُعتبر في هذه الدول، العائق الرئيس أمام السلطة، لأنه بمطالبه يفضح، عمليات النهب الجارية لثروات الوطن أو لجهد الفقراء. لا وجود للقانون فيها، إلا لحماية السلطة من الشعب، المواطن يُعتبر مُتملقاً إن سكت، ومُزعجاً للأمن العام إن احتج أو طالب بحق من حقوقه.

في هذه الدول، كلما تعددت مصادر ثرواتها، وزاد دخلها، كلما زاد حِنق السلطة على الناس، الذين يُطالبون بحصتهم من الثروة، وهذا ما سنراه برأيي قريباً في إيران، بعد رفع العقوبات، فمن يتصور أن هذا سيصب في مصلحة الشعب الإيراني مُخطىء، لأن سلطة آيات الله قد تشتري جزئياً السلم الاجتماعي، ببعض الدعم لهذا القطاع أو ذاك، لكن مُعظم الثروة والأموال المُستعادة، ستذهب لتمويل حروب لا طائل منها، وحرس ثوري، يزداد شراسة لقمع الناس. أما الإصلاحيون الإيرانيون، فهم الأبناء الشرعيون للمحافظين المستبدين، ولن يُسمح لهم، بالتحرك والمناورة إلا بمقدار ما سيُجملون الوجه القبيح لهؤلاء المحافظين.

وحده حراك الشعب الإيراني، للمطالبة بديمقراطية حقيقية، ودولة منفتحة، على كل مكونات المجتمع، الديني والعرقي والفكري، في اُطار احترام قواعد الحضارة العالمية، وحقوق الإنسان، والقيم المُتفق عليها، هي القادرة على إعادة إيران، إلى مصاف الدول الحامية لأبنائها، والسائرة في طريق النمو الاقتصادي والرخاء، وما ذلك على الشعب الإيراني العريق بعسير، بعدما رأينا الحراك الأخضر لعام 2009، وما سُكوته طوال هذه السنوات، إلا تحت تهديد الإرهاب السلطوي، مُتذرعاً بالحصار ألاقتصادي لتبرير فساده وإفقار الأمة، ودخوله ودعمه لحروب خارجية.

هذا العذر لم يعد موجوداً الآن، وأصبحت الطريق مفتوحة، لتطور حراك جماهيري ديمقراطي، لإخراج إيران من أزماتها، وفتح الطريق لحلحلة أزمات أخرى بمنطقة الشرق الأوسط، إيران طرف فيها.

اٌلإرهاب في إيران كسلطة مطلقة DOWNLOAD LINK

ربيع البحرين اليتيم

ربيع البحرين اليتيم

نزار بدران

الرابع عشر من شباط هو الذكرى الرابعة للحراك الديمقراطي البحريني، وانتفاضة الأغلبية الصامته، والتي تطالب بملكية دستورية. ومطالبة كباقي الثورات العربية للربيع العربي الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.

أغلبية سكان البحرين شيعة ،فهم يشكلون سبعين في المائة منهم، ولكن هذا لا يعني بأن الحراك هو شيعي، بل هو كباقي الثورات العربية بلا صبغة دينية بل مطالبة بالحقوق الأساسية للمواطنين، والحراك اليمني ليس سني كذلك الحراك الليبي أو السوري، بل هو حراك عربي ديمقراطي. للأسف الإعلام العربي بشكل خاص يتجاهل هذا الحراك البحريني، لشبهة قربه من إيران.

المراقب للأحداث يمكنه أن يلاحظ دون صعوبة أن إيران لم تدعم الحراك البحريني إلا على صفحات الجرائد والفضائيات ولم تُحرك ساكناً عندما قامت قوات درع الجزيرة بالهجوم على ساحة اللؤلؤه ومحاولة وأد الحراك، رُغم أن البحرين هي على مرمى حجر من السواحل الإيرانية. وفي نفس الوقت إيران تقوم بتسليح الشيعة الحوثيين الموجودين على بُعد آلاف الكيلومترات منها دون أية

إشكالية؛ كي ينقضوا كالذئاب على ما حققه الشعب اليمني بكل طوائفه – بإزالة نظام استبدادي واستبداله بانتخابات حرة ورئيس مُنتخب-  اضطر مؤخراً للاستقالة واحتُل قصره. لا ننسى أن إيران في العام 2009 هي التي بدأت أول ربيع للشعوب في المنطقة والذي وُوجه بعنف مُفرط ولكن عدواه انتشرت.

نرى في هذه الحالة أن قوات ردع الجزيرة لم تتدخل لدعم (السنة) اليمنيين ضد (الشيعة) الحوثيين، مع أن السعودية لها مئات الكيلومترات من الحدود المشتركة مع اليمن.

حراك البحرين أُجهض وحراك اليمن يسير في ذات الدرب، وفي كلا الحالتين الخلاف الإيراني السعودي الظاهر يتحول إلى طواطؤ ضد إرادة الشعوب في الحرية والديمقراطية.

الشعب البحريني بشيعته وسنته يريد حكماً رشيداً ديمقراطياً وملكية دستورية، هذا بكل تأكيد لا يروق لآيات الله القابعين على قلب الشعب الإيراني بسنته وشيعته منذ أكثر من ثلاثين سنة، والحراك الديمقراطي اليمني لا يروق أيضاً لحكام الخليج وديكتاتورات العرب.

الانقسام هو بين مطالبي الحرية والوائدين لها وليس بين السنة والشيعة أو دول الخليج وإيران. وما نراه من خلافات ما هو إلا ذر للرماد بالعيون.

المحاولات البائسة لقوى الثورة المضادة والأنظمة الاستبدادية لإضفاء صبغة الإرهاب على كل عمل ديمقراطي ومُطالبة جماهيرية هو كإخفاء الشمس بأصابع اليد وستسترجع اللؤلؤة البحرانية بريقها من جديد.

 

 

14/2/2015

راهبتان ترمزان لقداسة فلسطين التاريخية

 

راهبتان ترمزان لقداسة فلسطين التاريخية

د. نزار بدران

 

تابع الفلسطينيون والعرب بدهشة وابتهاج، عقب كشف البابا فرانسيس عن قداسة راهبتين فلسطينيتين، عاشتا في القرن التاسع عشر، وهذه بحق لفتة تاريخية، أعادت لفلسطين اعتبار واحترام مكونها المسيحي، وجددت مفهوم كونها مهداً لهذه الديانة السمحة.

بذلك يكون البابا قد أكد استقلالية الكنيسة الكاثوليكية، بإعطائه الأولية للمفهوم الإنساني للأديان وربطه بشكل مباشر، بين مسيحيي العالم ومهد ديانتهم في الأراضي الفلسطينية المقدسة. وبين كذلك قُرب هؤلاء المسيحيين من الشعب الفلسطيني بدياناته الثلاثة، فهم اكتشفوا أن الفلسطينيين، على عكس الإسرائيليين، لا يبحثون عن نقاء عرقي أو ديني، بل هم يحتفون بالحدث بكل مكوناتهم. ووُجود الرئيس محمود عباس في هذا الاحتفال التاريخي، إنما هو تأكيد لقرب الشعب الفلسطيني من مكونه المسيحي، الجزء الأقدم فيه.

ولا ننسى أن مسيحيي الشرق، كانوا السباقين في بداية القرن الماضي، لرفع راية العروبة والنضال ضد الاستعمار، وهم من تغنوا باللغة العربية وأثروها، وتميزوا بالتسامح رغم عذاباتهم السابقة، واعتبارهم زمن العثمانيين في مرتبة أهل الذمة، وما كتاب “الرسول” لجبران خليل جبران إلا مثال على ذلك.

يهودية الدولة الإسرائيلية تواجهها إذاً إنسانية الدولة الفلسطينية، التي لا تُعرّف الشعب الفلسطيني بدين بعينه. فالمشروع الصهيوني الذي انبنى على استغلال واستثمار ايديولوجية الدين الواحد، يظهر على حقيقته، بعد كشف قداسة هاتين الراهبتين ألفلسطينيتين، فتحت غطاء وإطار فلسطين نستطيع أن نكون مسلمين أو مسيحيين وحتى يهوداً. في وقت لا يمكن لإسرائيل والإيديولوجية التي تحكمها، إلا إقصاء الفلسطيني مهما كان دينه وعقيدته.

ولهذا تحديدا، ينبغي على المشروع الوطني الفلسطيني أن ينحاز لمبدأ المواطنة التي تساوي بين الناس، بغض النظر عن دينهم ولونهم وحتى لغتهم. أبناء الشعب الواحد هم متساوون ومتآخون، لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات.

ولهذا أيضا، فإن إعادة الروح لمشروع الدولة الديمقراطية الفلسطينية الواحدة، التي تحترم كل الأديان وتساوي بينها، قد يكون وسيلتنا لعزل الأيديولوجية العنصرية الصهيونية، وإجهاض أهدافها، كما حصل مع نظام الابارتهايد العنصري في جنوب إفريقيا، بالانتصار الذي تحقق لأهل البلاد الأصليين بقيادة نلسون مانديلا. لقد انتصر علينا الصهاينة عندما أوهموا الغرب في منتصف القرن الماضي بأنهم هم الذين يحملون راية الحرية والديمقراطية والمساواة في الشرق الأوسط.

من هنا وبالاستناد إلى خبرة المجتمعات الانسانية، فإن بناء الحركات السياسية في هذه المعادلة القديمة الجديدة، يجب أن يكون خارج البُعد الديني، حتى يستطيع كل فلسطيني مسلم ومسيحي، شيخ او راهب، أن يجد مكانه في إطار المساهمات الخلاقة في التجارب السياسية، خصوصا في تجارب البناء السياسي والكفاح الشعبي، لكي نستطيع بذلك البدء بالبناء المُشترك، على أنقاض أيديولوجية “الفكر الديني” الصهيوني العنصري.

فهل نستطيع كفلسطينيين، أن نحول تكريم قداسة البابا فرانسيس لنا ولشعبنا، إلى قاطرة تربطنا بقيم العالم الحديث والحضارة الإنسانية المعاصرة، بدل أن يكون حدثاً عابراً؟.

إن الاتجاه إلى العمل السياسي على أسس قيم المواطنة، هو الذي سيُبعد الخوف عن قلوب مكوننا المسيحي، ويُوقف تلك الهجرة المقيتة التي تُهدد تنوع وتعدد مكونات الشعب الفلسطيني. حيث أن الوقوف في وجه التطرف الديني، واجب وطني للحفاظ على فلسطينيتنا، كما كانت دائماً؛ معانقة مآذن الجوامع لأبراج أجراس الكنائس.

طبيب عربي مُقيم في فرنسا

 

اليرموك الذي فينا

اليرموك الذي فينا

د. نزار بدران

الفظائع التي يقوم بها مقاتلو داعش في مخيم اليرموك الفلسطيني وقبله وخلاله وبعده فظائع النظام السوري بحق هذ المخيم، قتل الناس بلا تمييز وبلا ذنب أودون محاكمة، إعدام الرجال على الهوية وهدم المنازل على رؤوس سكانها المدنيين، كل ذلك يندرج تحت لائحة التعامل السياسي والحزبي الذي نُظر له ضمن مسميات عدة ، الآن بهدف إقامة دولة الخلافة  وقبله إقامة دولة البعث القومية، أو من أجل دعم محور المقاومة والتحضير لتحرير فلسطين ,  وفي أماكن أخرى لتثبيت نظام انقلابي أو إبعاد شبح انتفاضة قادمة.

الموت هو الموت، مهما كانت أشكاله ولكن الاستهداف المُزمن في أوطاننا لقتل المدنيين العُزّل في التعامل السياسي وليس فقط التصفية الجسدية للمعارضين هي أحد سمات الثقافة التي لا تعتبر الناس بشراً لها حقوق وأولها حق الحياة وإنما فقط جماعات صديقة أو عدوة، هو امتداد للفكر القبلي ويبعُد كل البُعد عن فكر المجتمعات المدنية الحديثة التي ترفع حقوق المواطن من خلال اعتبار إنسانيته أولاً وفرديته ثانياً.

أين نحن من قوله تعالى “ومن قتل نفساً بغير حقٍّ فكأنما قتل الناس جميعاً”، ولم يقل سبحانه نفساً مسلمة عربية أو سنية أو شيعية، إنسانية الفرد وفرديته مُلخصة في هذه الآية الكريمة، عندما شُبهه (النفس المقتوله) بالإنسانية جمعاء. أين نحن من عمر بن الخطاب الذي قال ولا تقطعوا شجرة….، فما بالكم بقطع الرؤوس.

إن أيّة مجموعة سياسية مهما كانت أهدافها المُعلنة وأي عمل إنساني لأيّ سبب كان له هدف واحد هو الإنسان نفسه، الإنسان هو إذا هدف بحد ذاته لا يمكن استعماله كوسيلة لتحقيق هدف آخر حتى لو كان اجتماعياً، وطنياً، لا تقبل أي شريعة أن يُقتل إنسان دون ذنب أو محاكمة حتى لو قبل هو بذلك.

الإستعمال المُزمن في حركاتنا الوطنية والسياسية لتمجيد قتل النفس بهدف سياسي وديني، القبول بذلك ورفع فاعله إلى مرتبة الشهداء، لا يتطابق مع المدافعين حتى الموت عن حقوقهم ومبادئهم، فهم ليسوا محبين للموت ولا باحثين عنه ولا يستعملونه كوسيلة لنضالهم وإنما قدراً فُرض عليهم، إنهم في الحقيقة محبون لحياة كريمة حرة.

القبول بتحديد الأعداء على مبدأ الجنس والدين والعرق واللغة واللون هو الذي يفتح الطريق واسعاً أمام الهمجيّة القادمة لنا مثل مغول القرون البائده. أن نُمجد قتل الآخر لأنه كردي، عربي، شيعي أو سني، مسيحي أو درزي، أفريقي أسود أو غربي أبيض هو في الحقيقة أسلوب تفكير تربّت عليه أجيال منا في حضن الأحزاب القومية والدينية.

يجب العودة إلى حقوق الناس كأفراد أولاً وأخوة في إنسانية واحدة جمعها الله في وحدانيته، وإلا لكان لكل قبيلة وجنس إله خاص بها  “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا…” ولم يقل سبحانه لتقاتلوا  أو تتفانوا.

نبذ الفكر المُجرم للآخر لشيء آخر غير فعله هو وسيلتنا إلى بناء أحزاب وحركات اجتماعية تضع أمام أعينها هدف واحد وهو خدمة الإنسان المتواجد في كل منا. فقط هم المُجرمون، أمثال النظام السوري “ومجاهدو” داعش وما شابه، هم الخارجون عن النظام الإنساني وعن كل القيم الحضارية الحالية والماضية.

علينا أن نربي أطفالنا وأجيالنا القادمة على تمييز الناس بناءً على أفعالهم وأن تكون أحزابنا ومنظماتنا الاجتماعية مبنية على مفاهيم فكرية يستطيع كل مواطن أن يجد نفسه مُمثلاً فيها، مهما كانت لغته ودينه ولونه. هذه وسيلتنا لبث فكر السلم الاجتماعي وبناء صرح أمة واحدة موحدة تستطيع حينها أن تقف سداً منيعاً أمام الطُغاة والأعداء من أي حدب او صوب أتو.

تقتيل وتجويع فلسطينيي اليرموك المُهجرين أصلاً من وطنهم بهمجية الصهاينة قبل ستين عاماً، لا يمكن حصره فقط في إطار عمل استثنائي تقوم به مجموعة مجرمة إستثنائية على أوطاننا. فلنتذكر تل الزعتر في لبنان سنة 1976، ومخيمي صبرا وشاتيلا في 1982 أو حماة في سوريا في نفس العام، ولنتذكر ما يحدث في المدن السورية منذ أربع سنوات وحصار وقتل أهلنا في العراق في الأنبار والموصل ونينوى أو مجازر الحوثيين في اليمن والحروب الأهلية الجزائرية واللبنانية وما تمخض عنها من مئات آلاف القتلى المدنيين. إنه مسلسل طويل لا نستطيع فقط وضعه تحت خانة المؤامرات الخارجية القادمة من الاستعمار، بل هو أيضاً نتاج واقع يقبل فيه المواطن أن يُصنف على أساس انتمائه العرقي أو الديني ويقبل بنفس الوقت أن يُصنف الآخرون بنفس الطريقة تؤجج فيه الأحزاب والاتجاهات السياسية نار الطائفية والعصبية، بدل وضع برامج للسلم والتقدم الاجتماعي.

فلنعمل جميعاً على نُصرة أهلنا في مخيم اليرموك أو – ما تبقى منهم- ولنعمل على توحيد كل الطاقات المسؤولة أمام إنسانيتها لتكون حاجزاً صلباً في وجه كل المجرمين، فالانقسام هو بين هؤلاء وبين ضحاياهم مهما كان لون ودين المجرمين ومهما كان لون ودين الضحايا.

 

10/4/2015