حل الأزمة اللبنانية بين ما ظهر وما خفي. نزار بدران. القدس العربي 9/07/2021

تُظهِر الأزمة اللبنانية مدى عبثية قيام الدولة القطرية العربية، التي أسسها المستعمر الفرنسي أو البريطاني بعد انسحابه من بلادنا.
كما يعرف الكل، فإن هذا المستعمر لم يكن يهمه بناء كيانات تحتوي على عناصر القوة والديمومة، بل كيانات بائسة ضعيفة، يسهل السيطرة عليها وتوجيهها، فحدود لبنان أو سوريا أو العراق ودول الخليج وباقي الدول العربية لا تملك من الشرعية إلا الاتفاقيات الدولية التي أوجدتها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، وليس شرعية التاريخ المشترك لمن يسكنها.
هؤلاء اُعتُبِرُوا بدورهم بناء على انتماءاتهم الطائفية، وليس على منطق الدولة القومية القوية، بما تحتويه من إمكانيات تسمح بتحقيق أمن وسعادة وازدهار هؤلاء السكان.

الإرادة الفرنسية الاستعمارية

لبنان الحديث الآتي من الإرادة الفرنسية الاستعمارية، لم يتوان يوما عن اعتبار نفسه نموذجا للعرب، بما مثله من حرية وتعايش وازدهار تجاري، حتى أن البعض أطلق عليه إسم سويسرا الشرق.
لم تصمد هذه الصفات طويلاً أمام الواقع المادي، فالتوزيع الطائفي والمحاصصة بالمناصب ومراكز التأثير، أو اعتبار الآخر خطرا على لبنان مثل الوجود الفلسطيني ثم السوري للاجئين، أو التحالف مع دول أجنبية من أجل الحماية أو الدعم، كل حسب طائفته دون الالتفات لمصلحة الوطن المشترك، لم يؤد كل ذلك إلا إلى زيادة التشرذم وتفضيل المصالح الضيقة، وهو ما يفسر ما آلت إليه الأمور.

الحراك الشعبي

الحراك الشعبي نهاية 2019 لم يكن سبب ذلك بل نتيجة له، ثار الناس لأنهم شعروا ببدء انهيار الدولة، وإمكاناتها لضمان الحياة العادية لهم من ماء وكهرباء وصحة وتعليم، وربطوا ذلك مع طبيعة بلدهم المبني على الطائفية.
شعار هذا الحراك هو إنهاء هذه الطائفية داخل البيئة السياسية، واعتماد المواطنة المتساوية بديلها.
نجد الأوضاع نفسها أو أوضاعا قريبة في دول عربية أخرى مثل العراق وسوريا، وأخرى لم تصل بعد إلى الحالة اللبنانية لكنها تتجه نحوها.
الأزمة هي بطبيعة الدولة القطرية وليس فقط بسوء سياسات قادتها. لو أخذنا نموذج دول الربيع العربي الناجحة، خصوصاً تونس وبدرجة أقل السودان، فإن إسقاط النظام السابق الفاسد لم يؤد إلى تغييرات تحفظ البلاد من الانهيار الاقتصادي، بل قد يكون في بعض الأحيان العكس، هذا ليس مرده عقم الثورة، وإنما عقم الدولة القطرية.
فلو وُضِعَت تونس في إطارها المغاربي والذي سيفتح لها باب أكثر من مئة مليون منتج ومستهلك، وإمكانيات المنطقة الهائلة على مستوى الثروات الطبيعية والزراعة، فإنها تستطيع حل مشاكلها بهذا الإطار الجديد ولمصلحة كافة دوله.
التكامل الاقتصادي بين الدول المتجاورة هو أساس الخروج من الأزمة، وليس فقط الإصلاحات السياسية على أهميتها.
يمكننا تعميم ذلك أيضا على وضع الجزائر أو السودان، التكامل الاقتصادي لتلك الأخيرة مع مصر هو شيء حيوي لها، وما نراه من صعوبات جمة أمام الحكومة السودانية الآتية من ربيع الشعب رغم الدعم الدولي إلا دليل على ذلك.
التكامل الاقتصادي بالنسبة لنا يعني حرية الحركة والعمل والاستثمار بين الدول المعنية دون قيود، بناء بنية تحتية مشتركة من وسائل النقل، فتح الجامعات أمام الجميع، واشياء كثيرة. ما نراه اليوم من قيود تكبل الناس لا تفسر إلا بأسباب أمنية، أي أمن الأنظمة وبقائها. كل مواطن يشعر بهذه الحاجة للتكامل وتقريبا بشكل عفوي فهي تبدو بديهية.
البحث عن التكامل الإقليمي هو معيار نجاح التغيير السياسي. هذا ما حدث مع دول شرق أوروبا بعد خروجها من الاستبداد وتكاملها مع الإتحاد الأوروبي، أو مع دول أمريكا اللاتينية بعد سقوط الديكتاتوريات العسكرية (سوق مشتركة)، طبعاً هذا كان أساس تواجد الاتحاد الأوروبي وسبب نجاحه.

نشأة الحضارة

معايير نجاح أي أمة بالمساهمة في الحضارة العالمية هي امتلاكها لعناصر نشأة الحضارة داخلها، والتي درسها المؤرخون وعلماء الاجتماع وليس السياسيين. حسب هؤلاء نحن بحاجة لإقامة حضارة مستدامة قوية، إلى ثلاثة عناصر على الأقل، وهي عدد السكان الكافي ليشكلوا العامل الإنتاجي ويحيوا الاستهلاك الداخلي، الأرض الواسعة المتناسقة حيث يعيش هؤلاء الناس، وكذلك فترة زمن سلم طويلة. لحد الآن للأسف فإن الدول العربية رغم إمكانياتها تفتقر إلى هذه العناصر بسبب التجزئة والحروب التي لا تنتهي.
في لبنان كما في الدول العربية، علينا أن نعلم أننا نمتلك كل عناصر الحضارة والتطور، ولكن هناك من يريد وبكل الطرق بقاءها خارج الوعي الجماعي، وتركنا هائمين في عالم الطوائف والدول الصغيرة الضفدعية والتي تظن أنها بحجم الثور.

د. نزار بدران

المجتمع مصدر العمل السياسي. القدس العربي 02/07/2021

 د. نزار بدران 

أي نشاط سياسي داخل المجتمع المدني يواجه في معظم الدول العربية بالتجريم، وأي انتقاد للسلطة بالعنف وفي بعض الأحيان بالقتل، وكأن هناك محرمات، لا يحق لأحد خارج من ظنوا أنفسهم ملاك العمل السياسي، الاقتراب منها.
من ناحية أخرى لا نجد الكثير بين العاملين في المجال السياسي من مسؤولين ومتعلمين من يستعمل الأدوات العلمية لذلك، ومن ينطلق حقا من الجمهور الواسع باحثا عن المعطيات الاجتماعية الضرورية لذلك.

النشاط الإنساني

السياسية ، ذلك الجزء من النشاط الإنساني المهتم في الشأن العام وإدارته، كانت وقبل أن تنتمي إلى مجال العلوم الإنسانية محل تفكير الفلاسفة، لكنها حتى ظهور توماس هوبز الفيلسوف الإنكليزي في بداية القرن السابع عشر، لم تكن تعني إلا المفكرين وأصحاب السلطة أو رجال الدين. الجمهور لم يكن إلا موضوع هذا النشاط وليس بأي شكل من الأشكال مُلهِمَه، ولا حتى المشارك بانتاجه.
هوبز دون أن يغير هذه المعادلة، حول هذه السياسية إلى نوع من التعاقد مع الجمهور والذي يتخلى عن حقوقه لصالح القائم على السلطة، واضعا سياسات مصدرها السماء أو السلطة نفسها، فالهدف هو إنهاء اقتتال الكل ضد الكل كما كان يعتقد ، فالناس بطبيعتهم أشرارا.
لم يظهر مفهوم أحقية الشعب بممارسة السياسة إلا مع فكر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، حيث عكس الصورة ووضع مفهوم الجمهور كمصدر السياسة والسلطة المُنتخَبة أداة لتنفيذها (الانقلاب الليبرالي).
القرن الماضي أعاد من جديد ظهور السياسة الفوقية خصوصا في الاتحاد السوفييتي ومناطق نفوذه. لكن انهيار هذا التكتل أدى إلى عودة العمل السياسي إلى أصحابه الشرعيين أي المواطنين العاديين الذين وبشكل عفوي عكسوا الصورة من جديد، فالسلطة عادت وسيلة للعمل السياسي الآتي من الجمهور وليس مصدرها.

نظام الفصل العنصري

انتشر ذلك النموذج سريعاً بنهاية القرن الماضي، منهيا نظام الفصل العنصري في دولة جنوب أفريقيا، ثم اتساع الرقعة إلى معظم بقاع الأرض، مثل أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.
آخر اللاحقين بعكس الصورة السياسية ومصدرها كانت البقعة العربية انطلاقا من تونس بنهاية 2010، مع نتائج ما زالت ضبابية، لكن التاريخ بدأ بالتحرك والتململ.
ما هي وسيلة دارسي العلوم السياسية لفهم الحدث السياسي أو حتى توقعه ؟
سؤال تصعب الإجابة عليه، فلم يستطع أحد أن يتوقع أحداثا مهمة جداً بحجم انتهاء الحرب الباردة وأشياء كثيرة أخرى، مرد ذلك أن المجال التجريبي في العمل السياسي هو التاريخ، وتجاربه تستغرق عقودا طويلة، لذلك وجب الإستعانة بأدوات إضافية في محاولات توقع المستقبل، وكما نَظَّر له المؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل فإن ذلك هو مجال ما يسميه التاريخ الشامل.
فبالإضافة لدراسة الأحداث يجب دراسة التغيرات الاجتماعية مثل الديموغرافيا والتطور البيئي وحتى الوضع الجيولوجي.
نحن في البلدان العربية بحاجة لأن نعطي السياسة والعلوم السياسية بعدها الديناميكي أي التاريخ الشامل، فلا مجال لفهم أوطاننا من خلال تحليلات ودراسات فوقية تُعْنَى فقط بأصحاب الشأن السياسي الرسميين على أهميتها، بل علينا إضافة الأبحاث الاجتماعية، خصوصا التركيبة المجتمعية وتطوراتها البطيئة على مدار عقود، مثل مستوى التعليم خصوصاً عند النساء، التغيرات في مستوى الخصوبة المرتبط بمستوى تعلم النساء وحصولهن على مجموعة من الحقوق، تطور طبقة وسطى ومطالبها بالتعبير والحرية والتحديث الديمقراطي، أو انتشار الترابط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأشياء كثيرة جداً مثل التغير المناخي والترابط والتداخل الاقتصادي وسوق العمل، كل ذلك يجب أن يوضع بخدمة السياسية حتى تصبح حقا ملتصقة بالواقع وقادرة على فهم وتوقع المستقبل ولو مع هامش خطأ كبير.

إدارة شؤون المدينة

السياسة بمفهومها النبيل هو إدارة شؤون المدينة، وقد حددت الفيلسوفة الألمانية انا ارنت أسس هذا العمل القادم من القاعدة من خلال طرحها لمفهوم “الفضاء العام”، وأهلية الكل للمشاركة في العمل السياسي بشكل علني شفاف، واعتبرته الشكل الوحيد الذي يخرج الفرد من تقوقعه ويربطه بالآخرين. عكس المهن، العمل السياسي لا يتم إلا من خلال العلاقات الاجتماعية .
على السياسة وعلومها أن تخرج من قاعات المحاضرات وصالات المكتبات المغلقة لتذهب نحو موضوعها السليم والذي وجدت من أجله، وهو جمهور الناس بأماكن عملهم وحياتهم، فهؤلاء كما رأينا هم من يحدد عاجلا أم آجلا وبشكل غير متوقع في أغلب الأحيان قواعد الفعل السياسي .
للأسف فكثير من الفاعلين السياسيين ما زالو يرون كما كان زمن هوبز الجمهور أو الشعب كمفعول به سياسيا، بينما تبقى السياسة حكرا على السياسيين والمثقفين.
منذ الصغر نتعلم أن نبتعد عن السياسة وكأنها خطر على مستقبلنا، بينما الحقيقة أنه لا يوجد مستقبل بدون مشاركة الناس بأمور حياتهم.
علينا إذا أن نتجه إلى مصدر السياسة الحقيقي، ونعمل على تفعيله وإعادته للحياه، ونحن نعيش الآن مرحلة تاريخية استثنائية معقدة ستحدد مستقبلنا لعشرات السنين، فهل سنكون على مستوى المسؤولية ؟