صفقة الأسلحة الإماراتية الفرنسية… المال لا رائحة له. نزار بدران القدس العربي 14/12/2021

صفقة الأسلحة الإماراتية الفرنسية… المال لا رائحة له

من نافل القول التذكير أن الصناعة العسكرية، في الدول الغربية وروسيا، تُشكل أحد أعمدتها الاقتصادية.
صفقة الغواصات الفرنسية مع أستراليا، وما أحاط هذه العملية من غموض، مع اتهام أوروبا لأمريكا بسرقة أسواقها العسكرية، إلا الدليل على ذلك.
أن تبيع فرنسا، وهي ثالث بلد بحجم التجارة العسكرية في العالم، بعد أمريكا وروسيا وقبل الصين، بضاعتها إلى الدول الأوروبية، وهي أول مُستورد لها، أو حتى أمريكا وبعض الدول الديمقراطية في العالم، أو بيعها لجيشها الوطني، كما تفعل أمريكا بشكل خاص، فهذا لا يعنينا كثيرا، فكل دول العالم في حاجة للتسلح، فنحن لم نصل بعد إلى السلم العالمي، الذي قد يلغي يوماً الحاجة إلى السلاح.

إلى من تذهب الأسلحة؟

ما يهمنا كشعوب عربية، هو إلى من تذهب الأسلحة المباعة لحكوماتنا وبأي هدف. هل هو للدفاع عن شعوب هذه الدول وحمايتها وتأمين حريتها. أم هو العكس تماما ، أي تدميرها وقصف مدنها وتهجير أبنائها وتيتيم أطفالها، كما نرى مثلاً في اليمن وليبيا وسوريا ودول عديدة أخرى.
نحن كشعوب عربية لن نسأل حكوماتنا ماذا ستفعل بهذه الأسلحة، فقد رأيناه في جلدنا ودمنا وبيوتنا وحياتنا وهجرتنا وتشريدنا وتجويعنا. ما نسأله هو للدولة الفرنسية، والتي يتبجح رئيسها بإعلان من السعودية قبل بضعة أيام، باهتمامه الشديد بحقوق الإنسان.
الشعب الفرنسي، حسب استطلاعات الرأي، أظهر بنسبة 75 في المئة رفضه لبيع أسلحة لأنظمة شمولية تقتل شعوبها، وقد عبر عن ذلك مراراً من خلال مظاهرات عدة، وفي بعض الأحيان إعاقة إخراج الأسلحة من مواني البلاد. لكن هذا الرأي مُغيب. فبيع السلاح ليس موضوعاً فرنسياً مطروحاً للنقاش العام أو النقاش البرلماني، هو فقط من شأن رئيس الوزراء.
هناك مبادرات مثل مبادرة “أسكت فنحن نسلح” لمنظمة العفو الدولية، تعمل لإيصال هذه الأنشطة لمجالها الطبيعي، أي الرأي العام، وليس فقط ألعوبة بيد مجموعة ضغط أصحاب الصناعة العسكرية من طائرات حربية وأسلحة أخرى.
هذا ما نراه مثلاً في دول غربية مثل هولندا وحتى بريطانيا. مع العلم أن فرنسا هي إحدى الدول الموقعة على الإتفاقية الدولية لتجارة السلاح، يُمنع بموجبها بيع هذه الأسلحة إلى بلدان متهمة بانتهاكات لحقوق الإنسان. بدل ذلك، تدعي فرنسا، أن تسليح بلد مثل الإمارات العربية هو من أجل الدفاع عن سلامة المواطنين الفرنسيين، وذلك من خلال الحرب على الإرهاب، وكأن هذه الطائرات تُحارب الإرهاب حقاً وليس المدنيين العُزل، يكفي أن نسأل أطفال اليمن عن ذلك.

السياسات الغربية

السؤال الأهم بالنسبة لي، هو كيف لنا كشعوب عربية أن نقف أمام هذه السياسات الغربية الداعمة للأنظمة الديكتاتورية بحجج واهية.
هل يكفي الصراخ والاحتجاج، أم يجب العمل في اتجاه تعميق الحراك الديمقراطي العربي؟
بدايات الثورة التونسية في العام 2011 تُذكرنا بذلك. في حينها، وقفت وزيرة الدفاع الفرنسية -أليو ماري- إلى جانب الرئيس بن علي وزودته بأدوات القمع، قبل أن تنعكس هذه السياسة رأساً على عقب، وتستقيل الوزيرة المذكورة أمام إصرار الشعب التونسي على إسقاط هذا النظام الديكتاتوري.
وحده العمل في اتجاه التحول الديمقراطي الكامل، من سيحمينا من شر هذه الأنظمة ومن شر من يدعمها، وحده هذا النضال من سيدفع بالسياسات الغربية الحالية، وخصوصاً الفرنسية، في اتجاه مُغاير.
تدعي فرنسا ليلاً نهاراً، أن الخطر الأساسي عليها، الآتي من جنوب البحر المتوسط، هو خطر الهجرة غير الشرعية، وخطر الإرهاب والتطرف. هذه أخطار حقيقية لا نُجادل بها. لكن كيف لفرنسا أن تتجنب هذه الأخطار، هل هو بتسليح الأنظمة المُستَبدة أم بالدفع نحو الانفتاح الديمقراطي والحكم الرشيد، كما أعلنه بزمنه الرئيس فرانسوا ميتيران، عندما توجه بخطابه إلى أفريقيا.
وحده ذلك الحكم الرشيد، وما يتبعه من انفتاح وتكامل اقتصادي، من سيتمكن عن طريق التنمية، بعد القضاء على الفساد وإهدار المال العام وسرقة الثروات، لصالح الأقلية الحاكمة، من سيتمكن من وضع الدول العربية على طريق التطور والخروج من التخلف الاقتصادي والفقر وما يتبعه من ظواهر التطرف الديني والعنف السياسي، والهجرة بكل الوسائل إلى أوروبا، وهي الأخطار التي يدعي الرئيس الفرنسي محاربتها، ببيعه الأسلحة المُدمرة للإمارات المتحدة.

طريق التغيير

السياسة الفرنسية الحالية، تبدو لي قصيرة النظر، أو حتى عمياء، فهذه الأمة العربية المعذبة، قد وضعت نفسها، منذ عشر سنوات على طريق التغيير، وشبابها سيستمرون بالعمل والنضال في البصرة وبيروت والخرطوم، وكل مدن وقرى الوطن المُمتَد من المحيط إلى الخليج.
هذا الحراك رغم ضعفه، ورغم عنف القوى المعادية، وتسليحها من طرف فرنسا وغيرها، لن يهدأ ولن يختفي، بل سيعود ويعود، كما رأينا في السودان، إلى أن تجد الأمة طريق الخلاص والخروج من هذا النفق الأسود. حينها قد تكون فرنسا ومن دعم هذه الأنظمة، بوضع لا يُحسد عليه، ذلك عندما تُوضع مشاريع التنمية وما تستوجب من تقنيات ورؤوس أموال، تتجاوز بكثير، الستة عشر مليار دولار، ثمن طائراتها المُقدمة للإمارات، أو ما جنته من بيع الأسلحة لمصر والمملكة العربية السعودية.
ما نأمله من الحكومة الفرنسية هي أن تقف الى جانب قوى التغيير العربية فهي تحمل مستقبل الأمة ومستقبل العلاقات بين دول شمال وجنوب المتوسط، مواقف وسياسات شجاعة تكون متلائمة مع قيم الجمهورية الفرنسية ومع قيم الشعب الفرنسي الصديق ومصالحه المستقبلية الحقيقية.

اليوم العالمي للفلسفة… نيتشه وأخلاقيات الضعيف

مقالات

اليوم العالمي للفلسفة… نيتشه وأخلاقيات الضعيف

 د. نزار بدران 

لا يُشكل اليوم العالمي للفلسفة، الذي يُصادف الثامن عشر من شهر تشرين الثاني- نوفمبر، حدثاً مهماً، مُقارنة بالاحتفالات الأممية الأخرى. فهو يمر عادة دون أن ينتبه إليه أحد. ما زالت تُعتبر الفلسفة في وطننا العربي، مجالاً يتناقض مع حاجاتنا الأساسية، المبنية كلها، على البحث عن مقومات العيش الكريم، من عمل وصحة وتعليم وتربية.
ما بدا تناقضاً، هو في الحقيقة، عدم دراية كافية بدور الفلسفة، فهي الوجه الآخر لهذا العيش الكريم. فعندما يُحقق الإنسان مقومات حياته المادية، فهو يقوم بتحقيق شروط البقاء، مثله مثل كافة أشكال الحياة الأخرى. وحده الوعي الإنساني، ما يُميزنا عن باقي الكائنات الحية، هذا الوعي هو مصدر الفلسفة، لأنه يُحاول الإجابة على الأسئلة التي نطرحها عن مآلات وجودنا وكيفية حياتنا.

استعمال العقل

تنطلق الفلسفة من استعمال العقل كشرط ضروري، وهي النقطة المشتركة مع العلوم، لكن هذا الاستعمال يتجه نحو الذات، بينما العقل العلمي، يتجه نحو الطبيعة باحثاً عن قوانينها.
قد يُهم القارئ العربي، معرفة رؤية الفيلسوف الألماني نيتشه (1844-1900) لأوضاعنا العربية حالياً، لو كان ما زال حياً بيننا، وذلك من خلال تحليله لمفهوم الخير والشر، في كتابه أصول الأخلاق.
من خلال رؤيته العميقة لما يُسميه أخلاقيات العبيد وأخلاقيات الأسياد، نستطيع اكتشاف أنفسنا ورؤية ذاتنا وكيفية تكوين أحكامنا على الأشياء، وهو ما يُساعدنا على فهم واقعنا وسُبُل تغييره.
يَعتقد نيتشه أن الحياة مبنية على الصراع بين الإرادات وبشكل دائم وذلك في إطار ما يسميه إرادة السيطرة. القوي يبطش بالضعيف، فهو يملك القوة. أخلاقيات القوي تختلف جذرياً عن أخلاقيات الضعيف، فهذا الأول يُمَجد القوة، بينما الآخر الضعيف لا يستطيع إلا استجداء القوي لوقف بطشه، لذلك فهو الذي وضع مفهوم الخير والشر، فالخير هو ما يمنع القوي من استعمال قوته والشر هو عكس ذلك.
تهدف أخلاق الضعيف إذاً إلى خلق نوع من تأنيب الضمير والشعور بالذنب عند الأقوياء، وما تقوم به الأديان هو تأكيد ذلك عن طريق تطوير مفهوم الخطيئة والفضيلة والتلويح بعذاب الآخرة بحق هؤلاء.
داخل حدود الدول، قد يكون ذلك هو من أسس للقوانين والعقد الاجتماعي، لمنع تحكم الأقوياء بالضعفاء. لكن لو أخذنا ذلك على مستوى العلاقات الدولية، فإن القوانين الدولية، لم تزل غير مُلزمة لأحد، لذلك فهي ما زالت مبنية على أخلاقيات القوي وأخلاقيات الضعيف، أو تصارع إرادة القوة مع إرادة الضعف.
يُعطي الفيلسوف الألماني نموذجا على ذلك، بسرد قصة الصقر والحمل. فالحمل يرى نفسه طيباً ويرى الشر كله في الصقر الذي يتربص من السماء . يوافق الصقر بدوره الحمل، على وصف نفسه أنه طيب، فهو لذيذ الطعم، لكنه لا يوافقه على وصفه بالشر، فهو فقط يمارس إرادة القوة التي يملكها، عندما ينقض عليه، أي يُمارس ما أعطته له الحياة، ولا يجد سوءاً في ذلك.
لو أردنا إسقاط ذلك على واقعنا العربي، فإننا سنجد أننا نحن من يحمل أخلاقيات الحمل الضعيف وإرادته، بينما إسرائيل وأمريكا ودول عديدة، تتصرف من منطق إرادة القوة وأخلاقيات الصقر. هذه الدول لا تقول شيئاً، بل تكتفي بممارسة قوتها. فعندما ترسل أمريكا أساطيلها إلى الخليج ومناطق أخرى، وجيوشها هنا وهناك، فهي لا تفعل إلا ممارسة إرادة القوة التي تملكها، وليست بحاجة لتبرير وتفسير ذلك، فهو يبدو لها طبيعياً، ولا تُمضي وقتها بانتقاد تلك الدولة أو الأخرى، بل تذهب للعمل فوراً، فهي تملك وسائله.

المنظمات الدولية

الطرف الضعيف، يفعل العكس، فهو يُعلن فقط أن القوي قد اعتدى عليه وسلبه حقوقه، ويُطالب مجلس الأمن والأمم المتحدة وجميع المنظمات الدولية والقوانين العابرة للحدود، لأن تُعلن معه أن القوي قد ظلمه وانتهك القانون الدولي، هادفاً بذلك إلى دفع القوي للشعور بالذنب وتأنيب الضمير لسوء فعلته. هذا ما نراه مثلاً مع القضية الفلسطينية منذ أكثر من قرن.
تكدست القرارات الدولية بالمئات، ولم يحصل شيء لصالح الحق العربي، بل العكس، كلما مر الزمن كلما تراجعنا إلى الخلف وخسرنا حقوقاً أكثر ولم نسترد شيء. تمارس إسرائيل الاستيطان في الضفة الغربية وتضم القدس وتُهود باقي فلسطين، ونحن نطالب الأمم المتحدة بإدانة ذلك بأقصى العبارات.
تقوم إسرائيل بالغارات شبه اليومية، على مواقع تمركز القوات الإيرانية في سوريا، أو ضربها حتى في إيران، واغتيال شخصيات علمية وتفجير مراكز استراتيجية إيرانية، ولا نرى من الطرف الإيراني إلا الجعجعات المستمرة والتنديد بالعدوان، إن اُعترِف به، نحن نعيش قصة الحمل والصقر.
لن تستطيع الدول العربية منفردة وممزقة وضعيفة اقتصادياً وسكانياً، ومليئة بالنزاعات الداخلية، الحصول على أية حقوق، إلا إذا تمكنت من امتلاك وسائل القوة، أي استبدال إرادة الضعف التي تحملها حالياً بإرادة القوة. هذا لن يتم إلا إذا نظرنا أولاً إلى أنفسنا وأسباب انتمائنا إلى إرادة الضعف، رغم كل وسائل القوة المتواجدة في بلادنا فوق الأرض وتحتها.
المراقب لما يكتبه الكتاب والمثقفون العرب وكذلك السياسيون، يرى أن معظم ما يُقال ويُكتب ويُنشر في وسائل الإعلام يدور حول أخلاقيات الضعفاء التي نحملها، أي الإصرار على إظهار مدى استهتار دول العالم الغربي بحقوقنا، والمطالبة الحثيثة بتطبيق القرارات الدولية، وكأن هناك من يسمعنا أو يقرأنا، بدل العمل على البحث عن وسائل القوة الكامنة فينا، للوصول إلى أخلاقيات الأقوياء. فالاستبداد الذي يعم كل دولنا، التشرذم والانقسام المستمر في كل مكان، التراجع الفكري والثقافي لصالح العنف لحل أي إشكالية، الانقسام الطائفي المزمن، العيش في عالم الأوهام والأحلام والماضي المجيد. كلها من صفات الضعيف، هي التي بحاجة للكشف والتغيير. وكما يقول نيتشه فلن يُجدينا شيء أن نتهم الصقر أنه شرير، إذا قبلنا أن نبقى حملاً ضعيفا في هذا العالم المتصارع، بدل التحول إلى ذئب ذي أنياب حادة.

المثقفون والسلطة القدس العربي 31/10/2021

المثقفون والسلطة

نزار بدران

نستغرب كثيرا عندما نقرأ ما يكتبه بعض المفكرين، مبررين ما يقوم به عتاة الطغاة. المثال السوري أو الإيراني واضح تماما، فتدمير بلد كامل وتهجير نصف سكانه وتجويع الجميع، لم يكن كافيا لرفع الغشاوة عن عيون الكثيرين ممن يدعون الوقوف ضد الامبريالية والصهيونية.

مثال ذلك أيضا من دعم وما زال دكتاتورية صدام حسين وانظمة مشابه لم تبنى إلا على قتل كل معارض.

على مستوى العالم هناك احباء الرئيس الفنزويلي السابق هوجو شافيز، أو الرئيس الكوبي الراحل فيديل كاسترو، وأيضا ماو تسي تونغ في الصين أو ستالين في روسيا. في حقبة سابقة كان هناك من المفكرين الغربيين من وقف مع النازية والفاشية.

نحن طبعا لا نقصد كل المفكرين، فهناك من قضى نحبه دفاعا عن الديمقراطية ولم يحد يوما عن العمل ضد الظلم مهما كان مصدره، نذكر منهم الراحل ميشيل كيلو والمهدي بن بركة في المغرب وكثير من الشعراء والادباء، الذين قضوا سنوات طويلة في سجون هذه الديكتاتوريات أو ماتوا فيها. نحن نركز فقط على هذه الشريحة والتي رغم صغرها إلا أنها تملأ الدنيا ضجيجا. مثلا هذه النخبة من مفكري الفصائل الفلسطينية من يمينها إلى يسارها، وهم لا يرون بسبب عماهم الأيدلوجي ما يحدث في مجموعة من الدول التي تحكمها أنظمة تَدَّعِي ممانعة الاستعمار والصهيونية وأمريكا.

في احسن الاحوال، لو اعتبرنا أن هذه المواقف تنبع عن حسن نية، هؤلاء المفكرون خاطئون في تحليلاتهم، والوقائع على الأرض تثبت ذلك. هم ينطلقون من مبادئ عفى عنها الزمن منذ انتهاء الحرب الباردة. 

في كتابه الذي صدر عام 2017 “من بنيتو موسوليني إلى هوجو شافيز” أظهر المنشق الهنجاري السابق واستاذ العلوم الاجتماعيه في الولايات المتحدة، “پول هولاندر”، لماذا يدعم وبشكل علني كثير من المفكرين زعماء أنظمة شمولية، وما يشعر به هؤلاء ويفسر انجذابهم، رغم معرفتهم التامة للجرائم والفظاعات المرتكبة، تبقى هذه العلاقة بين الحاكم المستبد ورجل الفكر ظاهرة مبهمة.

على عكس ما قدمته الفيلسوفة الالمانيه آنا ارنت من أن الجهل هو ما يدفع أجزاء كثيرة من المجتمع للانجرار وراء اوهام القادة الاقوياء والمستبدين، كما رأينا مثلا مع جمال عبد الناصر او الإمام الخميني، فإن دراسة بول هولاندر أظهرت أن نسبة المثقفين المنجرين وراء الدكتاتوريات بالنسبة لعددهم الإجمالي هو أعلى من تلك النسبة بين عامة الناس.

يمكننا ملاحظة ذلك بوضوح مع الربيع العربي، فعدد المثقفين ووسائل الإعلام ألتي إبتعدت عن دعم الشباب المحتج تتزايد مع تقدم قوى الثورة المضادة، هذا ما رأينا في مصر وسوريا وغيرها، بينما أبناء الربيع العربي في لبنان والعراق والسودان والجزائر ما زالوا متمسكين بمواقفهم ويزيد عددهم يوما بعد يوم.

يذكر المؤلف تعريف ادوارد سعيد لشخصية المثقف  ” شخص قادر على قول الحقيقة ، شخص شجاع وغاضب ، لا توجد قوة دنيوية بالنسبة له أكبر من أن تُنتَقد وتُسأَل بوضوح.  المثقف الحقيقي هو دائمًا غريب ، يعيش في منفى فرضه على نفسه على هامش المجتمع”

نحن عندما ننظر حولنا إلى مثقفينا نفهم تماما عزلة ادوارد سعيد النفسية.

يعطينا بول هولاندر في كتابه ما يعتقده الأسباب وراء انبهار هولاء المثقفين، هي ليست مادية أو منفعية دائما، أو ضعف فكري أو غشاشة مؤقته. يذكر المؤلف شخصيات مهمة أمثال الفيلسوف الالماني هيدجر وعلاقته بالنازية او الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مع ماو تسي تونغ وستالين، وكتاب غربيون كبار آخرون.

النوع الأول برأيه هم هؤلاء الذين لم يستعملوا قدراتهم النقدية، فوقعوا في الجهل، ولحسن الحظ فهم يغيرون موقفهم بمجرد معرفة الحقيقة

النوع الثاني هم الانتهازيون الراكضون وراء منافع السلطة، هم حماة النظام  ومنظريه واشد منتقدي معارضيه. هذا النوع منتشر بشكل واسع حالياً في بلادنا العربية، ويستعملوا كل الوسائط الحديثة.

النوع الثالث هم هؤلاء المثاليون والذين يرفضون ما يرون وينكرون الحقيقة، كل جريمة هي خبر كاذب أو من صنع الضحايا. هم يظنون أن القائد الملهم سيسير في اتجاه ما يحلمون به من إقامة نظام حداثي أو اشتراكي او العكس ديني، فسقف توقعاتهم عاليا جداً. هذا النوع رأيناه مثلا مع وصول السيسي وطرد الإسلاميين.

النوع الرابع هم هؤلاء الذين يجرهم النظام جرا عن طريق كيل المديح والتبجيل بهم، ليضمن وقوفهم معه، خصوصاً الذين يتمتعون بشعبية كبيرة، مثال بعض الشعراء او شخصيات فنية مرموقة في سوريا، وحتى في مصر، شهرتهم تستعمل هنا لأهداف سيئة.

النوع الخامس هم هؤلاء الذين يعترفون بطابع النظام الاستبدادي ولكنهم يقارنون دائما بين السيئ والاسوأ، يتسائلون هل نظامهم أفضل من نظامنا، الكل سيء لكنا أقل سوأ. هم يفتقرون إلى المقدرة على تمييز الأبعاد الأخلاقية.

النوع السادس من المثقفين، هم المهتمون بتوافق سياسة النظام مع المعايير العلمية، هي أسس النظام النازي او قبله الاستعماري والذي جَيَّر البحث العلمي لصالح نظريات عنصرية، كذلك النظام الشيوعي وحتمية وصول الطبقة العاملة للسلطة كما نَظَّرَ لها ماركس. ما يحدث من عنف هو جزء من النظرية العلمية.

النوع الاخير هم هؤلاء المبهورون بكاريسما الزعيم بعيدا عن أي تفسير عقلاني وحبهم للشخصية السلطوية، مثال فيديل كاسترو او هيجو شافيز، فهم أحسن الموجود.

كل هؤلاء يقبلون عنف السلطة، ويعتبرونها ضرورية للتقدم، وكما قال المفكر والتر دورانتي فإننا “لا نستطيع أن نعمل عجة دون كسر بيض”. لا يتغير معظمهم حتى ولو عرفوا حقيقة وبشاعة الجرائم المرتكبة، وحده انقلاب الرأي العام عند ادراكه لذلك، من يجبرهم الى تبديل ارائهم، خوفاً من فقدان جمهورهم.

هؤلاء المعجبون بالدكتاتور، لا يهمهم تناقضه مع لائحة حقوق الانسان، او معايير الديمقراطية والحضارة الحديثة. ما يخطؤون به دائما هو أن الديكتاتور لن يحقق لهم احلامهم واوهامهم، والنموذج المصري شديد الوضوح.

عندما يُغَيِّب المثقف معايير الحقيقة فإنه يصبح هشا وقابلا للجذب من قبل السلطة. هؤلاء لم يعودوا مثقفين او مفكرين بل مجموعة من المبهورين، خانوا أنفسهم قبل شعوبهم.

لينين أطلق عليهم عند وصوله للسلطة إسم “الحمقى المفيدون”

النجاح والفشل هل من معيار؟ القدس العربي 05/08/2021

النجاح والفشل هل من معيار؟

النجاح والفشل هل من معيار؟

 د. نزار بدران 

امتلأت صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون ووسائل الإعلام الاجتماعية بكم كبير من الآراء بشأن التطور السياسي الأخير في تونس، فهناك من اعتبر ذلك نجاحا للثورة وهو ما يظهره مدى الدعم الشعبي لخطوة الرئيس قيس سعيد، وآخرون من قالوا إن ذلك ارتدادا عن الثورة، مظهرا تجاوز الرئيس صلاحياته الدستورية والعودة لحكم الفرد المستبد.
ما يتفق عليه الطرفان هو سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعدم مقدرة الحكومة المقالة بمواجهة وباء كورونا وطرح حلول للبطالة وفشل إجراءاتها بكافة المجالات.

الإطار المغاربي

لو نظرنا بشيء من البعد لتونس ووضعناها بإطارها المغاربي ثم العربي، فإننا سنبقى متفائلين نسبيا، فربيع الجزائر معطل، وحراك المغرب ما زال يراوح مكانه، وثورة السودان لم تستطع حتى الآن التخلص من حكم العسكر، وليبيا وسوريا واليمن بحروب فرضت على شعوبها، أما العراق ولبنان والبحرين فحدث ولا حرج.
منذ أكثر من عشر سنين وهو عمر تونس الثورة، تعاقبت حكومات عدة، ولم يكن حزب النهضة الإسلامي عمدتها الأساسية دائما لنحمله دائما كل مآسينا.
إن كنا نعتبر ما قام به الرئيس سعيد فشلا للثورة وعودة للاستبداد، فلا يحق لنا تحميل مسؤولية ذلك فقط على النهضة ورئيسها، بل للجميع، وإن رأينا ذلك نصرا للثورة فهو ليس على النهضة ورئيسها وإنما على منظومة الفساد والتي لم تتمكن الثورة من إزالتها.
أحزاب إصلاحية

هناك برأيي المتواضع سببان لما يحل بالثورة التونسية، أولاهما أن من حكم تونس منذ انتصار الثورة هم مجموعة أحزاب إصلاحية، وحزب النهضة كبقية الأحزاب السياسية الإسلاميه هو حزب إصلاحي بفكره وعمله، وهذا ما رأيناه سابقا في مصر ما أدى لعودة الدكتاتورية بكل بشاعتها.
الشعب التونسي مثل الشعب المصري قام بثورة ديمقراطية ولكنه أهداها فيما بعد إلى إصلاحيين لأنه لم يكن يمتلك قيادة نابعة من حراكه الثوري الجديد، هؤلاء غيروا شكل السلطة والاقتصاد والسياسة ولكنهم لم يبدلوا الأسس التي بناها النظام السابق.
السبب الثاني هو انكفاء الدولة التونسية على نفسها، وإن انفتحت نسبيا فهو على البنك الدولي والدول الغربية.
هل دولة بحجم تونس الصغيرة تستطيع أن تبني اقتصادا قويا وديمقراطية راسخة بمنأى عن جيرانها دون التأثير والتأثر بهم.
خوف أنظمة هؤلاء الجيران من النموذج التونسي الديمقراطي لن يجعل منهم حلفاء طبيعيين كما يحق لنا أن نتوقع.
ولكنا بالوقت نفسه ندرك أن الانفتاح على الغرب ومؤسساته المالية فقط لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة، وهذا ما يحدث دائما ومنذ القرن التاسع عشر.
الثورة في تونس هي إذا بين نارين، الجيران والغرب بالإضافة لنار ثالثة مرتبطة بالنشاط الهدام لبعض الأنظمة مثل بعض دول الخليج المرتعدة من كل نفس حر في المنطقة.

الحكومة المنتظرة

هل ستتمكن الحكومة المنتظرة والرئيس سعيد من تغيير شيء ما، لا أظن ذلك للأسف، فنحن في تونس جزء من الكل المغاربي والكل العربي، ولن تستطيع أي دولة عربية ذات حكم ديمقراطي أن تبني نفسها بمنأى عن جيرانها الأقربين.
لم يحدث ذلك بأي مكان، ولا حتى بدول بحجم ألمانيا وفرنسا والتي اضطرت إلى تجاوز حروبها وعداءاتها التاريخية لصالح بناء متكامل.
لم نر ذلك أيضا في أمريكا اللاتينية بعد سقوط الأنظمة العسكرية والتي أسست سوقا اقتصاديا مشتركا، ولا حتى الولايات الأمريكية المتحدة والتي فتحت أسواقها لكندا ودول عديدة بالعالم.

التكامل الاقتصادي

التكامل الاقتصادي، فتح الحدود، حرية الحركة والاستثمار والعمل بناء شبكة مواصلات وبنى تحتية متكاملة ولا أقول الوحدة السياسة أو وحدة المؤسسات حتى لا نتهم بالعودة للقومية العربية، هي كلها شروط اضطرارية لنجاح الثورات.
أمام قوى الثورات العربية طريق واحد وهو التعاضد والتضامن والاستمرار بالسير إلى الأمام، الأفق المنظور يجب أن يتعدى حدود كل دولة والوصول إلى أفق رحب واسع، نستطيع من خلاله تصور ذلك المستقبل المشرق المشترك.
تونس وشعبها مطالبان حالياً بالتمسك أكثر من أي وقت مضى بثورتهم الديمقراطية وعدم انتظار المعجزات في هذه المرحلة، التراجع عنها تحت أي سبب او إغراء ممن يعتبرون أنفسهم أصدقاءها في الغرب والدول الأخرى لن يحل لهم أي مشكلة بل سيضيع على تونس مستقبلها وعلى شعوب المنطقة المظلومة أملها الوحيد.

كاتب ومحلل سياسي مستقل

حل الأزمة اللبنانية بين ما ظهر وما خفي. نزار بدران. القدس العربي 9/07/2021

تُظهِر الأزمة اللبنانية مدى عبثية قيام الدولة القطرية العربية، التي أسسها المستعمر الفرنسي أو البريطاني بعد انسحابه من بلادنا.
كما يعرف الكل، فإن هذا المستعمر لم يكن يهمه بناء كيانات تحتوي على عناصر القوة والديمومة، بل كيانات بائسة ضعيفة، يسهل السيطرة عليها وتوجيهها، فحدود لبنان أو سوريا أو العراق ودول الخليج وباقي الدول العربية لا تملك من الشرعية إلا الاتفاقيات الدولية التي أوجدتها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، وليس شرعية التاريخ المشترك لمن يسكنها.
هؤلاء اُعتُبِرُوا بدورهم بناء على انتماءاتهم الطائفية، وليس على منطق الدولة القومية القوية، بما تحتويه من إمكانيات تسمح بتحقيق أمن وسعادة وازدهار هؤلاء السكان.

الإرادة الفرنسية الاستعمارية

لبنان الحديث الآتي من الإرادة الفرنسية الاستعمارية، لم يتوان يوما عن اعتبار نفسه نموذجا للعرب، بما مثله من حرية وتعايش وازدهار تجاري، حتى أن البعض أطلق عليه إسم سويسرا الشرق.
لم تصمد هذه الصفات طويلاً أمام الواقع المادي، فالتوزيع الطائفي والمحاصصة بالمناصب ومراكز التأثير، أو اعتبار الآخر خطرا على لبنان مثل الوجود الفلسطيني ثم السوري للاجئين، أو التحالف مع دول أجنبية من أجل الحماية أو الدعم، كل حسب طائفته دون الالتفات لمصلحة الوطن المشترك، لم يؤد كل ذلك إلا إلى زيادة التشرذم وتفضيل المصالح الضيقة، وهو ما يفسر ما آلت إليه الأمور.

الحراك الشعبي

الحراك الشعبي نهاية 2019 لم يكن سبب ذلك بل نتيجة له، ثار الناس لأنهم شعروا ببدء انهيار الدولة، وإمكاناتها لضمان الحياة العادية لهم من ماء وكهرباء وصحة وتعليم، وربطوا ذلك مع طبيعة بلدهم المبني على الطائفية.
شعار هذا الحراك هو إنهاء هذه الطائفية داخل البيئة السياسية، واعتماد المواطنة المتساوية بديلها.
نجد الأوضاع نفسها أو أوضاعا قريبة في دول عربية أخرى مثل العراق وسوريا، وأخرى لم تصل بعد إلى الحالة اللبنانية لكنها تتجه نحوها.
الأزمة هي بطبيعة الدولة القطرية وليس فقط بسوء سياسات قادتها. لو أخذنا نموذج دول الربيع العربي الناجحة، خصوصاً تونس وبدرجة أقل السودان، فإن إسقاط النظام السابق الفاسد لم يؤد إلى تغييرات تحفظ البلاد من الانهيار الاقتصادي، بل قد يكون في بعض الأحيان العكس، هذا ليس مرده عقم الثورة، وإنما عقم الدولة القطرية.
فلو وُضِعَت تونس في إطارها المغاربي والذي سيفتح لها باب أكثر من مئة مليون منتج ومستهلك، وإمكانيات المنطقة الهائلة على مستوى الثروات الطبيعية والزراعة، فإنها تستطيع حل مشاكلها بهذا الإطار الجديد ولمصلحة كافة دوله.
التكامل الاقتصادي بين الدول المتجاورة هو أساس الخروج من الأزمة، وليس فقط الإصلاحات السياسية على أهميتها.
يمكننا تعميم ذلك أيضا على وضع الجزائر أو السودان، التكامل الاقتصادي لتلك الأخيرة مع مصر هو شيء حيوي لها، وما نراه من صعوبات جمة أمام الحكومة السودانية الآتية من ربيع الشعب رغم الدعم الدولي إلا دليل على ذلك.
التكامل الاقتصادي بالنسبة لنا يعني حرية الحركة والعمل والاستثمار بين الدول المعنية دون قيود، بناء بنية تحتية مشتركة من وسائل النقل، فتح الجامعات أمام الجميع، واشياء كثيرة. ما نراه اليوم من قيود تكبل الناس لا تفسر إلا بأسباب أمنية، أي أمن الأنظمة وبقائها. كل مواطن يشعر بهذه الحاجة للتكامل وتقريبا بشكل عفوي فهي تبدو بديهية.
البحث عن التكامل الإقليمي هو معيار نجاح التغيير السياسي. هذا ما حدث مع دول شرق أوروبا بعد خروجها من الاستبداد وتكاملها مع الإتحاد الأوروبي، أو مع دول أمريكا اللاتينية بعد سقوط الديكتاتوريات العسكرية (سوق مشتركة)، طبعاً هذا كان أساس تواجد الاتحاد الأوروبي وسبب نجاحه.

نشأة الحضارة

معايير نجاح أي أمة بالمساهمة في الحضارة العالمية هي امتلاكها لعناصر نشأة الحضارة داخلها، والتي درسها المؤرخون وعلماء الاجتماع وليس السياسيين. حسب هؤلاء نحن بحاجة لإقامة حضارة مستدامة قوية، إلى ثلاثة عناصر على الأقل، وهي عدد السكان الكافي ليشكلوا العامل الإنتاجي ويحيوا الاستهلاك الداخلي، الأرض الواسعة المتناسقة حيث يعيش هؤلاء الناس، وكذلك فترة زمن سلم طويلة. لحد الآن للأسف فإن الدول العربية رغم إمكانياتها تفتقر إلى هذه العناصر بسبب التجزئة والحروب التي لا تنتهي.
في لبنان كما في الدول العربية، علينا أن نعلم أننا نمتلك كل عناصر الحضارة والتطور، ولكن هناك من يريد وبكل الطرق بقاءها خارج الوعي الجماعي، وتركنا هائمين في عالم الطوائف والدول الصغيرة الضفدعية والتي تظن أنها بحجم الثور.

د. نزار بدران

المجتمع مصدر العمل السياسي. القدس العربي 02/07/2021

 د. نزار بدران 

أي نشاط سياسي داخل المجتمع المدني يواجه في معظم الدول العربية بالتجريم، وأي انتقاد للسلطة بالعنف وفي بعض الأحيان بالقتل، وكأن هناك محرمات، لا يحق لأحد خارج من ظنوا أنفسهم ملاك العمل السياسي، الاقتراب منها.
من ناحية أخرى لا نجد الكثير بين العاملين في المجال السياسي من مسؤولين ومتعلمين من يستعمل الأدوات العلمية لذلك، ومن ينطلق حقا من الجمهور الواسع باحثا عن المعطيات الاجتماعية الضرورية لذلك.

النشاط الإنساني

السياسية ، ذلك الجزء من النشاط الإنساني المهتم في الشأن العام وإدارته، كانت وقبل أن تنتمي إلى مجال العلوم الإنسانية محل تفكير الفلاسفة، لكنها حتى ظهور توماس هوبز الفيلسوف الإنكليزي في بداية القرن السابع عشر، لم تكن تعني إلا المفكرين وأصحاب السلطة أو رجال الدين. الجمهور لم يكن إلا موضوع هذا النشاط وليس بأي شكل من الأشكال مُلهِمَه، ولا حتى المشارك بانتاجه.
هوبز دون أن يغير هذه المعادلة، حول هذه السياسية إلى نوع من التعاقد مع الجمهور والذي يتخلى عن حقوقه لصالح القائم على السلطة، واضعا سياسات مصدرها السماء أو السلطة نفسها، فالهدف هو إنهاء اقتتال الكل ضد الكل كما كان يعتقد ، فالناس بطبيعتهم أشرارا.
لم يظهر مفهوم أحقية الشعب بممارسة السياسة إلا مع فكر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، حيث عكس الصورة ووضع مفهوم الجمهور كمصدر السياسة والسلطة المُنتخَبة أداة لتنفيذها (الانقلاب الليبرالي).
القرن الماضي أعاد من جديد ظهور السياسة الفوقية خصوصا في الاتحاد السوفييتي ومناطق نفوذه. لكن انهيار هذا التكتل أدى إلى عودة العمل السياسي إلى أصحابه الشرعيين أي المواطنين العاديين الذين وبشكل عفوي عكسوا الصورة من جديد، فالسلطة عادت وسيلة للعمل السياسي الآتي من الجمهور وليس مصدرها.

نظام الفصل العنصري

انتشر ذلك النموذج سريعاً بنهاية القرن الماضي، منهيا نظام الفصل العنصري في دولة جنوب أفريقيا، ثم اتساع الرقعة إلى معظم بقاع الأرض، مثل أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.
آخر اللاحقين بعكس الصورة السياسية ومصدرها كانت البقعة العربية انطلاقا من تونس بنهاية 2010، مع نتائج ما زالت ضبابية، لكن التاريخ بدأ بالتحرك والتململ.
ما هي وسيلة دارسي العلوم السياسية لفهم الحدث السياسي أو حتى توقعه ؟
سؤال تصعب الإجابة عليه، فلم يستطع أحد أن يتوقع أحداثا مهمة جداً بحجم انتهاء الحرب الباردة وأشياء كثيرة أخرى، مرد ذلك أن المجال التجريبي في العمل السياسي هو التاريخ، وتجاربه تستغرق عقودا طويلة، لذلك وجب الإستعانة بأدوات إضافية في محاولات توقع المستقبل، وكما نَظَّر له المؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل فإن ذلك هو مجال ما يسميه التاريخ الشامل.
فبالإضافة لدراسة الأحداث يجب دراسة التغيرات الاجتماعية مثل الديموغرافيا والتطور البيئي وحتى الوضع الجيولوجي.
نحن في البلدان العربية بحاجة لأن نعطي السياسة والعلوم السياسية بعدها الديناميكي أي التاريخ الشامل، فلا مجال لفهم أوطاننا من خلال تحليلات ودراسات فوقية تُعْنَى فقط بأصحاب الشأن السياسي الرسميين على أهميتها، بل علينا إضافة الأبحاث الاجتماعية، خصوصا التركيبة المجتمعية وتطوراتها البطيئة على مدار عقود، مثل مستوى التعليم خصوصاً عند النساء، التغيرات في مستوى الخصوبة المرتبط بمستوى تعلم النساء وحصولهن على مجموعة من الحقوق، تطور طبقة وسطى ومطالبها بالتعبير والحرية والتحديث الديمقراطي، أو انتشار الترابط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأشياء كثيرة جداً مثل التغير المناخي والترابط والتداخل الاقتصادي وسوق العمل، كل ذلك يجب أن يوضع بخدمة السياسية حتى تصبح حقا ملتصقة بالواقع وقادرة على فهم وتوقع المستقبل ولو مع هامش خطأ كبير.

إدارة شؤون المدينة

السياسة بمفهومها النبيل هو إدارة شؤون المدينة، وقد حددت الفيلسوفة الألمانية انا ارنت أسس هذا العمل القادم من القاعدة من خلال طرحها لمفهوم “الفضاء العام”، وأهلية الكل للمشاركة في العمل السياسي بشكل علني شفاف، واعتبرته الشكل الوحيد الذي يخرج الفرد من تقوقعه ويربطه بالآخرين. عكس المهن، العمل السياسي لا يتم إلا من خلال العلاقات الاجتماعية .
على السياسة وعلومها أن تخرج من قاعات المحاضرات وصالات المكتبات المغلقة لتذهب نحو موضوعها السليم والذي وجدت من أجله، وهو جمهور الناس بأماكن عملهم وحياتهم، فهؤلاء كما رأينا هم من يحدد عاجلا أم آجلا وبشكل غير متوقع في أغلب الأحيان قواعد الفعل السياسي .
للأسف فكثير من الفاعلين السياسيين ما زالو يرون كما كان زمن هوبز الجمهور أو الشعب كمفعول به سياسيا، بينما تبقى السياسة حكرا على السياسيين والمثقفين.
منذ الصغر نتعلم أن نبتعد عن السياسة وكأنها خطر على مستقبلنا، بينما الحقيقة أنه لا يوجد مستقبل بدون مشاركة الناس بأمور حياتهم.
علينا إذا أن نتجه إلى مصدر السياسة الحقيقي، ونعمل على تفعيله وإعادته للحياه، ونحن نعيش الآن مرحلة تاريخية استثنائية معقدة ستحدد مستقبلنا لعشرات السنين، فهل سنكون على مستوى المسؤولية ؟

نزار بنات شهيد الحق بالمعارضة

نزار بنات شهيد الحق بالمعارضة 26 حزيران 2021

نزار بدران

مقتل الناشط السياسي نزار بنات بأيدي تخضع لأوامر السلطة الفلسطينية لدليل على انفصال  تلك الأخيرة وانعزالها عن الشعب، الدور الأهم لأي سلطة هو ضمان أمن المواطنين وحياتهم أولا وحقوقهم ثانياً. هل هناك أسباب وجيهة من منظار السلطة لعمل كهذا؟ ، هل يشكل نزار بنات خطرا داهما على سلامة الوطن والمواطنين، مثلا كما نرى مع المستوطنين، ام هي بوادر فزع رجال السلطة بأن الزمن قد تغير، وهو ما رأينا بوادره مع إلغاء الانتخابات.

إسكات النشطاء السياسيين بكل الوسائل بما فيها القتل يذكرنا بما تفعله مليشيات الحشد الشعبي التابعة لإيران مع الحراك الديموقراطي بالعراق، مئات الاغتيالات دون أن تجد الحكومة أو القضاء والشرطة أي مجرم. هل السلطة  هي بطريقها إلى التحول إلى حشد فلسطيني؟

مقدار عنف أي سلطة هي بمقدار شرعيتها وقوة وتعاضد المنظومة الحقوقية التي تُبْنَى عليها. السلطة القوية متسامحة مع معارضيها لأنها لا تستشعر الخطر من الشعب الذي نَصَّبَهَا، وإنما من الأعداء، السلطة الشرعية لا تخاف النقد بل تبحث عنه. هذا هو عكس السلطة الضعيفة التي لا تستقي شرعيتها من المواطن بل من الداعم الخارجي لوجودها، مختبئة خلف العنف وكأنه سيحميها ممن تعتقد أنهم لم يعودوا أداة تجديد شرعيتها. الشرعية حتى ولو كانت حقيقية لا تعني أن تفعل ما تشاء وانما ان تفعل ما يريده هؤلاء الذين خوَّلوكَ بتنفيذ إرادتهم.

ممن تخاف السلطة الفلسطينية، من خطر الاستيطان الداهم والذي قَطَّع أوصال مشروع دولة أوسلو العتيدة، ام من انتفاضة القدس والأقصى والتي لا تقع تحت نفوذها؟. ممن تخاف السلطة الفلسطينية من إسرائيل ومشاريعها بتهجير بقية الشعب الفلسطيني أم من حراك أهلنا داخل الخط الأخضر وهم يُغَيِّرُون قواعد اللعبة لصالح الشعب الفلسطيني؟  ممن تخاف تلك السلطة، من دول التطبيع أم من فقدان الدعم المادي الخليجي والأمريكي؟ ممن تخاف من نتائج حصار وحروب غزة على معذبو القطاع أم من تقوية قبضة منافسها عليهم؟ 

ها نحن بفلسطين ندخل مع هذه الجريمة بعالم الربيع العربي، فمن يطالب بالحرية والديمقراطية يحصل على البراميل المتفجرة بسوريا والتدمير بليبيا أو اليمن، من يطالب حتى ولو بالخبز يحصل على السجون المظلمة، ومن يتجرأ على النقد الموضوعي والمطالبة بالحقوق يحصل على الإغتيالات كما نرى بالعراق ولبنان وسابقا بالسودان. لا أمل ممكن مع هذا النظام العربي بكل أشكاله. كنا نعتقد بفلسطين أن الاحتلال يحمينا من هذا المطب، فكلنا ضحايا محتلون حكاما ورعايا، وكما لا يستطيع المواطن التنقل إلا بإذن سلطات الاحتلال كذلك المسؤول مهما علا شأنه.

لماذا إذا هذا الهراء وفقدان الصواب من كلمة هنا ورسمة كاريكاتير هناك.

الكلمة الفصل تبقى ملك الشعب الفلسطيني، فتحالف قواه الشبابية الديمقراطية بكل مكان مهما كانت ضعيفة ستفرض بالنهاية رؤيتها، فلا أحد يستطيع أن يهزم تحالف الضعفاء مهما امتلك من قوة. يجب إعادة بناء حركة وطنية على قواعد استرداد الحقوق وأولها الحق بحرية الكلمة والتعبير، واحترام الشعب الفلسطيني بكل أماكن تجمعه ورفض مصادرة حقه الأصيل بالاختيار ممن ظنوا أنهم أوصياء عليه، الشرعية هي فقط تلك التي تأتي من المواطن وليس من غياهب ذكريات الماضي وبطولاته الخيالية. نحن لا نوافق نزار بنات كل ما يقول خصوصاً وقوفه على ما يبدوا مع سفاحي الشعب السوري، لكنا هنا ندافع عن حق الجميع بالمعارضة والتعبير الحر. سياسة التخويف تعكس عدم إدراك بطبيعة المرحلة وتنم عن فزع من يمارسها ضد معارضيه، وتخلف واضح بالقيم التي يحملها، ويحكم على نفسه بالخروج من مستقبل الشعب الفلسطيني، أي مستقبل حر دون خوف.

كاتب ومحلل سياسي فلسطيني

هؤلاء لا يمثلونني

هؤلاء لا يمثلونني

نزار بدران

عندما ينقطع الحاكم عن الشعب، فاقدا شرعيته الوحيدة، تلك التي يعطيها له هذا الشعب، يعتقد أنه يستطيع الاستمرار بالتبجح بتمثيله والتكلم باسمه، لكنه بالواقع العملي أبعد ما يكون عن ذلك. الانتخابات الأخيرة بفلسطين تعود لعقود، وتلك التي اتفق على إجرائها تم الغائها تفاديا لمفاجآت متوقعة. في هذه الفترة يحدث اعتداء اسرائيلي على سكان القدس، يتبعه اعتداء على أهلنا بغزة، الذين وقعوا دون سابق إنذار تحت القصف بالطائرات التي لا تميز البشر عن الحجر.

لم تجد القيادة الفلسطينية بالضفة والقطاع وعديد من الفصائل والأحزاب اليسارية وقياداتها المتحجرة أفضل من تلك الفترة الصعبة من إعلان شكرها وامتنانها للدعم أللامحدود لبشار الأسد وأسياده بطهران، الذين اكتفوا بمشاهدة المنظر الفلسطيني بدون أي حراك، وهم يتبجحون بالمقاومة منذ بدأ الكون، وينتظرون اللحظة المناسبة والحاسمة، لحظة القدس لكي يصلوا فرادى وجماعات كالاعصار لاقتلاع الاحتلال. أتت لحظة القدس ولكن لحظة محور المقاومة لا تأتي أبدا. هي مرتبطة بمقدرته على دعك وتدمير شعوبه وليس تحرير فلسطين أو الاهتمام بمآسيها.

رغم ذلك يخرج علينا السياسيون القادة الملهمون الفلسطينيون يعلنون انتصارهم الساحق، ومن يستحق الشكر والثناء على ذلك، طبعاً محور المقاومة.

ماذا سنقول اليوم وغدا لأبناء سوريا، ونحن الشعب الفلسطيني جزء منه، لم يجزئنا إلا المستعمر الفرنسي والبريطاني. ماذا سنقول للقتلى والمشردين، ماذا سنقول للأمهات الثكالى، ماذا سنقول لحجارة حلب وحماة وحمص، لم نركم، كما فعلنا دائما، نغطي رؤوسنا بالرمال ونشكر ونهنئ المجرم على تفضله بدعمنا، وهو الذي تهاجمه اسرائيل بشكل شبه يومي دون أدنى حراك أو رد.

هذه القيادات المفترضة، الفاقدة لاية شرعية لا تمثلني، ولا تمثل جماهير الشعب الفلسطيني والذي كان وما زال بجانب اخوته من الشعب السوري، ضحية هذا النظام الفاشي، داخل مخيماته مثل مخيم اليرموك رمز دمار الوجود الفلسطيني بسوريا.

قليل من الحياء لن يضركم، نحن ننتظر حقا تلك اللحظة التي نستطيع فيها أن نقول كلمتنا ونختار قياداتنا، حتى لا نهزء أمام جماهير أمتنا، والتي هي صاحبة القضية الفلسطينية الحقيقية. 

كاتب ومحلل سياسي فلسطيني مستقل

النكبة بداية النهاية. القدس العربي

النكبة بداية النهاية

17 – مايو – 2021

النكبة بداية النهاية

 د. نزار بدران 

لن يكون لذكرى النكبة هذا العام الطعم نفسه، والألم المرتبط بالبؤس وعجز الحال.
لأول مرة يشعر الشعب الفلسطيني بشيء من الأمل. التخلص من الخوف أولا، وإعادة الوحدة لهذا الجسم الممزق. فالنكبة حولت شعبا واحدا إلى مجموعات إنسانية واجتماعية مقسمة بين الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وعرب الـ 48 واللاجئين في الدول العربية أو الجالية في العالم.
كل مجموعة منا بالإضافة لألمها وحسرتها على وطننا المشترك، لها مآسيها الخاصة وتخضع لقوانين وتصنيفات مختلفة تؤكد مع الزمن تمايزا متزايدا بين اللاجئ والنازح، وبين ابن القدس وغزة أو أبناء الجليل والنقب.
آلة الدهس والعصر والسحق

نكتشف أنفسنا من جديد شعبا واحدا، لم تتمكن آلة الدهس والعصر والسحق من تفتيته كما كان معتقدا، وكما بنى عليه زعماء دول التطبيع تقديراتهم، فهم اعتقدوا أن إسرائيل حية ترزق، وأن الشعب الفلسطيني أصبح في خبر كان. وهو ما فتح لأحلام سحق شعوبهم آفاق دعم الحليف الإسرائيلي.
أبناء اللد وحيفا والداخل الفلسطيني، عندما هبوا للدفاع عن القدس والشيخ جراح والمقدسات، فتحوا الباب أمام الوعي الجماعي. لا يوجد عرب إسرائيل بل يوجد فلسطينيون تحت الاحتلال، هو ما يجمعهم مع أبناء المناطق الفلسطينية الأخرى، فكلنا تحت الاحتلال، دون أي حقوق.
أهل غزة محاصرون، والضفة مقطعون بالمستوطنات، وقرى فلسطين التاريخية هي بين ممحية من الوجود أو محاصرة بالتمدد السكاني اليهودي، واللاجئون محرومون من حقهم الأساسي في العودة، هم أيضا تحت الاحتلال.

الثورات العربية

بعد عشر سنوات تمكن الشعب الفلسطيني من الالتحاق بركب الثورات العربية، بدل النظر إليها بتوجس، فالمطالبة بالحقوق هي نفسها هنا أو هناك.
الحروب في دول الربيع العربي أو الانتفاضات الجديدة في الجزائر والعراق ولبنان، تهدف كلها لنيل حقوق المواطن وكرامته. في فلسطين لا نطالب فقط بالاستقلال، ولكن أيضا بالحقوق الإنسانية والتي ليست مجال نقاش، فهي لب قيم الإنسان بهذا العصر، ومن أجلها ثارت شعوب بكل بقاع الأرض.
على شباب الانتفاضة الجديدة أن ينتبهوا لقوى الماضي ألتي تتبجح بتمثيلهم، هؤلاء الذين أعلنوا ملكيتهم للقضية الفلسطينية، وصادروا حق الشعب الفلسطيني بتحديد ما يريد حتى بانتخابات عادية، واستمروا بالتصارع وفضلوا ربط أنفسهم بقوى عربية وأجنبية، ليسوا مؤهلين لأن يصبحوا منارة للحراك الجديد، الذي بدأ بدونهم، رغم محاولاتهم الواضحة المكشوفة للحاق به.

سراب أوسلو

الاستمرار بالجري وراء سراب أوسلو وأحلام دعم أمريكا والغرب، أو ربط القرار الفلسطيني بأنظمة تدمر يوميا شعوبها كما نرى في إيران وسوريا، يبين قصر نظرهم وبعدهم عن أي مفهوم إنساني حقيقي. فالغرب لن يدعمنا إن لم ندعم أنفسنا أولا، ودول الديكتاتوريات الشرق أوسطية لن تستطيع الصمود أمام شعوبها إلى الأبد.
مستقبلنا إذا هو مع شعوب هذه الدول. البدء من الآن بفهم ذلك هو انقاذ لمستقبل الشعب الفلسطيني وحقه في العيش بحرية وسلام في منطقته التاريخية.
تحية لأبناء وبنات فلسطين أينما كانوا، فهم بعملهم العفوي، عكسوا معادلات ظنناها ثابتة لا تتغير، ووضعوا أسس حراك فلسطيني جديد بقيم وأهداف تتناسب مع زمن الثورات العربية.
عليهم الآن أن يترجموا ذلك على الواقع، وعدم العودة لحضن من أشبعونا بالأوهام مدى عقود طويلة.
كاتب ومحلل سياسي مستقل