مفهوم الأمة القومية
28 – يناير – 2021

حجم الخط
تطالب قوى الثورة والتغيير بالدول العربية، منذ نهاية 2010، بإسقاط النظام وتحقيق العدالة الاجتماعية والحصول على الحرية، كل شعب يسعى عن طريق النضال السلمي، مُعتمداً على حشد جماهيري كبير، إلى الوصول إلى هذه الأهداف. هل سقوط النظام الاستبدادي، سيُعيد تلقائياً حلول نظام توافقي مدعوم من كافة أطياف المجتمع، وهل يمكن بناء السِلم الاجتماعي بمجرد سقوط النظام.
هذه الأسئلة وغيرها، تُرسلنا إلى مفهوم الجمع الاجتماعي والرغبة بالعيش المشترك، فتحت الأنظمة الديكتاتورية تجمد المجتمع، نجاح الثورة يُنهي حالة التجمُد هذه، ويُظهر تناقضات لم تكن مرئية في بعض الأحيان.
سقوط النظام الشيوعي
النموذج الأكبر لذلك، هو سقوط النظام الشيوعي بيوغوسلافيا، والتي حل محلها فوراً تقسيم البلاد حسب الأديان، بين الأرثوذكس والكاثوثيك والمسلمين (صربيا، كرواتيا، سلوفانيا والبوسنة) أي العودة إلى زمن ما قبل وصول الحكم الشيوعي، وهذا أدى إلى حروب طويلة بين هذه الشعوب دون طائل، تهدف إلى الحصول على النقاء العرقي والديني لكل بلد، وهو ما لم يمنع من عودة الأمور بمرحلة أخرى إلى التقارب تحت سقف الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، الذي لا يعترف بالتمييز العرقي أو الديني.
النموذج الآخر المُغاير، هو جنوب إفريقيا بقيادة نلسون مانديلا، والتي انتقلت إلى الديمقراطية دون أي تفسخ للمجتمع، فلم تُقسم البلاد بين البيض والسود، ولم يتم مُصادرة أملاك وأراضي البيض، لصالح السود، ولم يُدعى إلى طرد البيض وعودتهم لأوروبا ( كما حدث مثلاً في زيمبابوي أو الجزائر) قريباً منا نرى أن انهيار نظام صدام حسين الاستبدادي في العراق، تبعه تدخلات غربية عديدة وصراعات داخلية على مبدأ الانتماء الديني مؤدياً إلى دمار البلاد. هذه أسئلة تُطرح على الشباب الثائر، والساعي لإسقاط الأنظمة الاستبدادية، إلى أين أنتم سائرون، والى أي مجتمع أنتم تسعون؟
تجارب الأمم المختلفة في العالم، منذ الثلاثة قرون الأخيرة، أي منذ سقوط الإمبراطوريات ونشأة الأمم، وانتهاء الشرعيات المُستمدة لصالح سيادة الشعب، تُظهر أن مفهوم الأمة ووحدتها ومبرر وجودها، يختلف من أمة إلى أخرى، ومن مفهوم فلسفي إلى آخر، وذلك مرتبط بشكل خاص، بتاريخ وظروف كل أمة أو كل شعب.
هناك بشكل عام ثلاثة تصورات لمفهوم الأمة، وعلى شعوب الدول العربية، وقادة ثوراتها، أن يُحددوا أي نموذج يختارون.
النموذج الأول، وهو النموذج المبني على العنصر الثقافي العرقي، أي الانتماء إلى لغة وثقافة واحدة، وعنصر عرقي واحد، وهو تقريباً النموذج الذي بُنيت عليه ألمانيا، والذي أدى إلى اعتبار كل مجموعة سكانية، تتكلم اللهجات الألمانية، كجزء من ألمانيا والعنصر الآري، وأسس لحرب 1870، ثم الحرب العالمية الاولى والثانية، يتناسى المُدافعون عن هذا المفهوم، أن المناطق المُتكلمة باللغة الألمانية في دول الجوار لألمانيا، تحتوي أيضاً على سكان يتكلمون لغات أخرى، وهو مدعاة لطرد هؤلاء أو التنكيل بهم -.هذه هي التجربة الأوروبية وأحد أسباب الكوارث التي عمت القارة، بالنصف الأول من القرن العشرين، بعد انتشار التصور العرقي الثقافي للشعوب.
النموذج الثاني، يذكرنا بقيام دولة اليونان، أو بعض دول أوروبا الشرقيه، ومؤخراً دولة الاحتلال الإسرائيلي. هذا النموذج مرتبط بثلاثة عناصر، وهي وحدة اللغة، وحدة الدين ووحدة الأسطورة الوطنية المؤسسة.
استطاع سكان اليونان، بالثلث الأول من القرن التاسع عشر، زمن ما يسمى بالثورة اليونانية، تحديد هوية وطنية، عن طريق الربط بين الدين الأرثوذكسي واللغة اليونانية، وأيضاً إعادة الارتباط بالأسطورة التاريخية لماضي اليونان المجيد، بعصر الحضارة اليونانية القديمة، بفضل الاكتشافات العلمية بزمنه.
نرى شيئاً قريباً من ذلك، في بولندا ورومانيا ودول شرق أوروبا، والتي أدت مثلاً في بلاد البلقان، إلى حروب متعاقبة، مما أدى إلى مفهوم البلقنة، أي التجزئة على مبدأ الدين واللغة، وهذا ما رأيناه أيضاً في حروب البلقان بعد سقوط الشيوعية.
نشأة دولة باكستان بعد استقلال الهند، وانتهاء الهيمنة الاستعمارية البريطانية، اعتمد نفس المنطق، أي الدين المشترك واللغة المشتركة ومحاولات لإيجاد قصة تاريخية مشتركة.
ضرورة تواجد العناصر الثلاثة لنشأة الدول الحديثة، أجج الحروب في كثير من المناطق بالعالم، فالانتماء لنفس الدين، لا يعني تشكيل أمة واحدة، والتكلم باللغة نفسها لا يمنع التمايز، وحدها النقطة الثالثة، أي الأسطورة المشتركة، من يُعطى النقطتين الأوليتين فاعليتهما لإيجاد الأمة.
من هذا المنظار نفسه، أُسست دولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تمكنت من جمع جزءاً مهماً من يهود العالم داخل فلسطين، لا يجمعهم حقيقة، إلا عنصر الدين المشترك، فالعنصران الآخران، أي اللغة والقصة المشتركة، تم تكوينهما بشكل يتناقض مع التاريخ الحقيقي، فاليهود في دول العالم، ما كانوا يتكلمون اللغة نفسها، فاليهودي الأثيوبي أو البولندي أو العربي، يتكلمون بلغات بلادهم الأصلية، تمكنت إسرائيل من إعادة الحياة للغة العبرية، حتى أصبحت اللغة المشتركة لسكان إسرائيل، وهو ما حقق لهم العنصر الثاني لتكوين الأمة. عنصر الأسطورة المشتركة، وجدوه عن طريق العودة للأسطورة التوراتية الدينية والوعد الإلهي، هذه القصة المشتركة ليس لها بُعد تاريخي حقيقي، كما كان مثلاً مع نشأة الأمة اليونانية، والعودة لأمجاد أرسطو وأفلاطون وألكسندر المقدوني.
إعطاء بُعد تاريخي لمقولة دينية لإنشاء دولة، فيه طبعاً الكثير من التناقض، مع الطبيعة المُعلنة لدولة إسرائيل، وهي العلمانية، إي إبعاد الدين عن السياسة والقانون، ولكنهم لم يستطيعوا اعتماد القصة المشتركة الحقيقية، وهي موجودة تاريخياً، وأقصد بها المذابح والجرائم التي اُرتكبت بحق اليهود في أوروبا وروسيا، عبر قرون خصوصاً مع مذابح النازية، هذه القصة الحقيقية، هي جزء من التاريخ الحقيقي، وليست تاريخ اللاهوتي المُتخيل، ولكنها لا تعطيهم في حالة تبنيها، الحق بإقامة دولة بفلسطين بالتحديد، ولهذا تم استبعادها، كأحد عناصر مفهوم الأمة اليهودية عند الحركة الصهيونية.
النموذج الثالث من تكوين الأمة، هو ذلك الذي يُبنى على عنصر التاريخ المُشترك أي الماضي، والمشروع المُشترك أي المستقبل، والمُعتمد على الاختيار الحُر والإرادة الحرة لكل مواطن. هذا التصور الذي رأيناه مطبقاً مثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية، أو حديثاً دولة جنوب أفريقيا، لا يتبنى مفهوم العرق أو الدين أو اللغة المشتركة، كأساس لتكوين الأمة، ولا حتى الحدود الطبيعية، أو مفهوم المصلحة الاقتصادية البحتة.
هذا التصور هو الأكثر قرباً حالياً، لتشكيل الدول الديمقراطية الحديثة، مهما كان التصور الذي أسسها سابقاً، فلم يعد مكان بالدول الغربية مثلاً، لاعتماد الدين أو العرق، لتحديد الهوية الوطنية.
فقط الماضي المشترك بأمجاده وانتصاراته، ولكن أيضاً وبشكل أكثر تأثيراً، مآسيه وهزائمه والمعاناة المشتركه، من يحدد الانتماء للامة، والرغبة باستمرار ذلك المشروع التاريخي، من يُؤكد البقاء به.
الإرادة الحرة للأفراد والمجموعات، بما فيها حق تقرير المصير للشعوب، هي حجر الأساس لبناء هذه اللأمم، وكما يقول إرنست رنان، الفيلسوف الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر، الأمة هي استفتاء يومي لإظهار الانتماء المشترك للمجموعة (الإرادة الحرة لأفرادها بأن يبقوا جزءاً منها).
أي نظام سياسي ديمقراطي حديث، يبني أمته على أسس العرق أو الدين أو اللغة، يضع بنفس الوقت وسائل هدمه ودماره، من القوى الداخلية والقوى الخارجية؛ نموذج جمهورية الصرب، برئاسة ميلوزيفتش، بعد انهيار يوغوسلافيا الشيوعية، كان نظاماً منتخباً من الشعب، ولكنه بنى تصوره للوطن على العرق الصربي والدين الأرثوذكسي واللغة الصربية، وهو ما أدخله ضد كوسوفو والبوسنة أو كرواتيا الكاثولوكية، وأدى بالنهاية لحروب دامت سنوات، قبل عودة الشعب الصربي، لمفهوم أكثر حضارية، بدل البحث عن دولة النقاء العرقي.
انفصال جنوب السودان المسيحي، كلف أكثر من مليوني قتيل، لرغبة الرئيس المعزول عمر البشير ونظامه، اعتماد الدين الإسلامي بالهوية الوطنية والنظام السياسي، متناسياً أبناء الجنوب واختلافاتهم العرقية والدينية عن الشمال.
الانتماء الطائفي المعلن، كهوية في العراق وسوريا ولبنان وإيران ودول أخرى، هو تهديد مباشر لوحدة هذه الدول ونموها.
انغلاق إسرائيل على مفهوم الدين كهوية للدولة والمواطن، يحرم أكثر من مليون ونصف فلسطيني، داخل الخط الأخضر، من حقوقهم الأساسية بالمساواة، ويغلق الباب نهائياً لأي حل سلمي للقضية الفلسطينية، مبني على حق العودة للاجئين الفلسطينيين، حتى لا يُهدد الفلسطينيون الطابع الديني اليهودي للدولة الإسرائيلية. وللأسف نجد بالغرب، وبأعرق الدول الديمقراطية، من يُدافع عن هكذا تصور (تحت ضغط اللوبي الصهيوني) رغم تناقض هذا الموقف الواضح، مع القيم التي بُنيت عليها هذه الدول.
النموذج المُنفتح
يمكننا إعطاء أمثلة كثيرة عن فشل النموذج القومي، المبني على خصوصيات مستقلة عن الإرادة الحرة للأفراد، فالعرق واللغة والدين، هي أشياء مفروضة علينا وليست اختياراً لأي فرد، وحده النموذج المُنفتح ذا البُعد التاريخي والإرادة الحرة، من يتجاوب برأيي، مع مفاهيم وأسس الحضارة الإنسانية الحديثة.
قد يقول قائل، أن هذا النموذج الثالث، المبني على حرية الاختيار، قد يؤدي إلى تفكيك الدولة وخروج أجزاء منها، هذا لم نره يحدث بأي مكان، إن حُفظت حقوق الناس، وأُكد مبدأ المساواة بينهم، فالإنفصاليون لا يبررون عملهم دائماً، إلا باستعادة حقوقهم الأساسية.
شباب الثورات العربية، وهم يبنون دولهم الديمقراطية، عليهم أن يطرحوا هذا السؤال بصراحة، أي أمة تريدون أن تبنوا، وبأي وطن تريدون أن تعيشون. الجواب سهل نظرياً، لكن من يسمع ويقرأ ويرى ما يحدث على امتداد الأرض العربية، ويُتابع سياسات الأنظمة، الجارية وراء السيطرة والبقاء، والتي توقد النار دائماً، للتناقضات الاجتماعية، العرقية واللغوية والدينية، لتؤمن بقاء سيطرتها. الذي يراقب ذلك يعرف أن الطريق ليس سهلاً، وأن الانتماءات العرقية والدينية، ما زالت بأوج عنفوانها.
على شباب الأمة وثوارها، أن يعملوا للإنتقال من معطيات لتحديد الأمة، مأخذوة من أشياء ورثناها بلا أدنى إختيار، إلى تشغيل العقل والعمل لبناء أمة متسامحة، تُعامل أبناءها جميعاً، بنفس المقدار من المساواة والاحترام، مهما اختلفت أديانهم ولغاتهم وأجناسهم. لو نظرنا حولنا بالدول الأخرى، فسنرى أن النجاح هو فقط حليف هذا النوع من الأمم.
كاتب ومحلل سياسي