إسرائيل وحداثة القرن التاسع عشر
29 – أغسطس – 2019

د. نزار بدران
اسرائيل وحداثة القرن التاسع عشر
تصر إسرائيل ومنذ نشأتها، وبتزايد مضطرد، إلى الذهاب باتجاه دولة الفصل العنصري، على عكس دول العالم الأخرى التي سارت في الاتجاه المعاكس، وقد كانت آخر دولة فصل عنصري هي جمهورية جنوب إفريقيا التي انتقلت إلى نظام تعددي، يساوي بين الأجناس منذ ثلاثة عقود.
لم يبق إذا على وجه الأرض، إلا الشعب الفلسطيني، ليحافظ على هذا الإرث الكفاحي التاريخي للإنسانية، في مواجهة نظام كولونيالي قائم على الاستيطان والتمييز والفصل العنصري، والذي لن يدخل اليونسكو كانجاز للبشرية بأي عصر كان.
لائحة حقوق الإنسان
الكل يعلم وضعية الفلسطينيين داخل وخارج أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 أو ما أطلق عليها «الخط الاخضر»، كذلك وجود ملايين اللاجئين الفلسطينيين عبر العالم، وما تنص عليه قوانين الأمم المتحدة ولائحة حقوق الإنسان، التي أكدت وتؤكد على حقهم الدائم والفردي بالعودة إلى ديارهم.
السؤال المطروح: لماذا تصر إسرائيل وكل ساستها منذ البدء على هكذا نهج، وهل هذا النظام له مستقبل ممكن بين الأمم؟. الجواب الطبيعي الذي يقدم دائما هو الحفاظ على «الهوية اليهودية» للدولة الكولونيالية الإسرائيلية، وهي التي أنشئت أصلا كما يدعي مؤسسوها لحمايتهم من الاضطهاد.
على أن القبول بهذه الفكرة، قد يوحي بالغاء حق العوده للاجئين، لكن ذلك لا يفسر الإصرار على سياسة تمييزية داخل الكيان نفسه، إلا إذا كان هناك هدف آخر، ألا وهو تشريد ما تبقى من الفلسطينيين داخل الخط الاخضر، وطرد البقية الباقية من أراضي فلسطين المحتلة عام 67. وإلا لماذا لا تعطي إسرائيل للفلسطينيين الحاملين الهوية الإسرائيلــــية نفـــس حقــــوق اليهود بالدراسة والعمـــــل والبناء وما إليه، وبشهادة بعــــض المؤرخين الإسرائيليين، ولماذا تضـــيق الخناق وتمارس العقاب الجماعي على سكان غزة والضفة الغربــــية، مع أن قيادات فلسطينية رفعت رايات السلام، وأعلنت قبولها بأقل القليل؟
الوريثة الشرعية الوحيدة
الحقيقة برأيي أن هذه الأوضاع، ليست سياسات مختارة يمكن تغييرها، فهي تمثل طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، حيث لا يمكن فهم هذه السياسات إلا من منظار النظام الاستعماري الاستيطاني الذي ساد العالم خلال القرن التاسع عشر، كما رأينا مثلا بالجزائر أو دول إفريقية عدة. إسرائيل برأيي هي الوريثة الشرعية الوحيدة على وجه الأرض، لهكذا نظام أكل الدهر عليه وشرب.
بني النظام الاستعماري بكل دول العالم، على مبدأ تقسيم المجتمع المستعمر إلى ثلاث طبقات: طبقة العبيد أو ما شابه، وهم السكان الأصليون، وطبقة المستعمرين المستوطنين الأثرياء أصحاب السلطة، وبينهما طبقة وسطى صغيرة من السكان الأصليين، تعلمت وتطورت قليلا لتصبح الوسيط والمنفذ على الأرض للأمور الإدارية.
وكل طبقة لها مجالها الخاص وحقوقها المميزة، بحيث يستمر الفصل القانوني والإنساني بين الأسياد الغربيين وسكان البلاد الأصليين.
هذا النظام ازدهر واثبت فعاليته بزمنه لصالح المستعمر وبأقل التكاليف. فالأسياد المستوطنون كانوا قليلي العدد، ولكنهم يمسكون بدفة الأمور بواسطة الطبقة الوسيطة المحلية، والتي لها مصلحة ببقاء الأوضاع على حالها.
لم تتغير الأشياء إلا عند الوصول إلى تغيير داخل الدول المستعمرة والمستعمـــرة (بالفتح والجـــر)، حتى ظهر في الدول التي كانت ضحية الإستعمار مــع الوقـــت خـــلال النصف الأول من القرن العشرين، من يطالب بالحقوق والحــــريات والمســـاواة وحق تقرير المصير، حــــتى من داخل الطبقــــة الوسيطة، تزامــــن ذلك مع تطـــور فكــــرة حقوق الإنسان والمساواة وحق تقرير المصـــير داخـــل الدول الغربــــية نفسها، فلم يعد مقبولا داخل الحراك الحداثي الغربي المعارض تجــزئة الحقوق حسب الأجناس، فكان الذين يصلون لأوروبا من الأفارقة مثلا، يستغربون لكـــونهم يعاملـــون بهــــذه الدول بشكل أفضل من معاملتهم بدولهم الأصلية، وبدأوا يطالبون بمساواتهم بالقانون، متهمـــين الغرب بعدم احـــترام القوانـــين التي يســنها (مثال كتابات الرئيس سنغور أو الكاتب الكاريبي إيمي سيزير).
يعني ذلك للساسة الأوروبيين إدخال ملايين البشر داخل دولهم، وهو ما لا يمكنهم قبوله، لأنه ينهي الصبغة الغربية المسيحية عن دولهم. في حين شكل الانسحاب من الدول المستعمرة وقبول استقلالها (وفي كثير من الأحيان تبعيتها لهم بدون كلفة إنسانية) اعتبر من البعض أقل شرا وضررا من البقاء. الاستقلال بمعظم الأحيان كان بسبب الضربات الموجعة من حركات التحرر وكلفتها العالية من جهة، ومن تحول الرأي العام الغربي من جهة ثانية.
دليل ذلك ان القلة القليلة من المستعمرات المتبقية بالعالم لفرنسا تعتبر قانونيا وشعبيا جزء من فرنسا، ولها نفس وضعية أي مقاطعة فرنسية بنفس الحقوق والواجبات، لا يوجد أحد تقريبا بجزر الكاريبي أو بعض الجزر الإفريقية من يطالب بالاستقلال، ولكن قلة عدد السكان لا يهدد الهوية الوطنية الفرنسية.
بالعودة لإسرائيل، فإننا نضعها في خانة القرن التاسع عشر، أي أن المواطنين والساسة الإسرائيليين، ما زالوا يحلمون بمجتمع الطبقات الثلاث السابقة الذكر، وهم الأسياد طبعا والعبيد الفلسطينيون العرب، وما بينهما من طبقة مثقفة وسيطة قبلت الدخول بمساومات وإدارة الشؤون العامة وتلعب دور الحلقة بين الطرفين لتثبيت الأمور وإدامة هكذا نظام.
ما لا يفهمه الإسرائيليون، أو ما لا يريدون فهمه، أن هذا النظام انتهى إلى زوال لعدم إمكانية دوامه، لو طبق النموذج الأوروبي بالنصف الأول من القرن العشرين على إسرائيل، فسيدفعها إما إلى إعطاء الفلسطينيين نفس الحقوق كباقي السكان اليهود، وهذا ما يهدد هويتهم الدينية، أو منحهم الإستقلال وحق تقرير المصير، أي شيء شبيه بحل الدولتين وعودة اللاجئين لديارهم مع إعطاء الفلسطينيين داخل الخط الاخضر كامل حقوقهم.
البعد القانوني الحقوقي
الدعم الغربي الحالي لإسرائيل، وخصوصاً الأمريكي، لن يغير شيئا من هذه الوضعية، فالمواقف الغربية لن تستمر طويلاً، خصوصاً مع ظواهر ومظاهر البدء بتفهم الرأي العام لهذا البعد القانوني الحقوقي، وأيضا لاندلاع الثورات العربية الحالية والمنتصرة بنهاية المطاف، والتي لن تقبل التخلي عن حقها بفلسطين.
الاصرار على نظام الفصل العنصري السائد حاليا، يدل على أن إسرائيل ساسة ومستوطنين، لم يفهموا أو لم يستوعبوا تاريخ الدول المستعمرة بالعالم، وكيف آلت إليه الأمور، وما زالوا قابعين بالقرن التاسع عشر.
هل تستطيع إسرائيل بساستها ومستوطنيها، قبول فكرة الإنتقال إلى القرن العشرين، أو الواحد والعشرين؟ لا أظن ذلك، فالتغيير في هذا الاتجاه بحاجة لموازين قوى جديدة، أي حركة وطنية فلسطينية قوية، وحركة داخلية إسرائيلية باتجاه المساواة واحترام حقوق الانسان، ولا أظن كليهما قريباً.
٭ كاتب و محلل سياسي مستقل
التعليقات