صفقة الأسلحة الإماراتية الفرنسية… المال لا رائحة له. نزار بدران القدس العربي 14/12/2021

صفقة الأسلحة الإماراتية الفرنسية… المال لا رائحة له

من نافل القول التذكير أن الصناعة العسكرية، في الدول الغربية وروسيا، تُشكل أحد أعمدتها الاقتصادية.
صفقة الغواصات الفرنسية مع أستراليا، وما أحاط هذه العملية من غموض، مع اتهام أوروبا لأمريكا بسرقة أسواقها العسكرية، إلا الدليل على ذلك.
أن تبيع فرنسا، وهي ثالث بلد بحجم التجارة العسكرية في العالم، بعد أمريكا وروسيا وقبل الصين، بضاعتها إلى الدول الأوروبية، وهي أول مُستورد لها، أو حتى أمريكا وبعض الدول الديمقراطية في العالم، أو بيعها لجيشها الوطني، كما تفعل أمريكا بشكل خاص، فهذا لا يعنينا كثيرا، فكل دول العالم في حاجة للتسلح، فنحن لم نصل بعد إلى السلم العالمي، الذي قد يلغي يوماً الحاجة إلى السلاح.

إلى من تذهب الأسلحة؟

ما يهمنا كشعوب عربية، هو إلى من تذهب الأسلحة المباعة لحكوماتنا وبأي هدف. هل هو للدفاع عن شعوب هذه الدول وحمايتها وتأمين حريتها. أم هو العكس تماما ، أي تدميرها وقصف مدنها وتهجير أبنائها وتيتيم أطفالها، كما نرى مثلاً في اليمن وليبيا وسوريا ودول عديدة أخرى.
نحن كشعوب عربية لن نسأل حكوماتنا ماذا ستفعل بهذه الأسلحة، فقد رأيناه في جلدنا ودمنا وبيوتنا وحياتنا وهجرتنا وتشريدنا وتجويعنا. ما نسأله هو للدولة الفرنسية، والتي يتبجح رئيسها بإعلان من السعودية قبل بضعة أيام، باهتمامه الشديد بحقوق الإنسان.
الشعب الفرنسي، حسب استطلاعات الرأي، أظهر بنسبة 75 في المئة رفضه لبيع أسلحة لأنظمة شمولية تقتل شعوبها، وقد عبر عن ذلك مراراً من خلال مظاهرات عدة، وفي بعض الأحيان إعاقة إخراج الأسلحة من مواني البلاد. لكن هذا الرأي مُغيب. فبيع السلاح ليس موضوعاً فرنسياً مطروحاً للنقاش العام أو النقاش البرلماني، هو فقط من شأن رئيس الوزراء.
هناك مبادرات مثل مبادرة “أسكت فنحن نسلح” لمنظمة العفو الدولية، تعمل لإيصال هذه الأنشطة لمجالها الطبيعي، أي الرأي العام، وليس فقط ألعوبة بيد مجموعة ضغط أصحاب الصناعة العسكرية من طائرات حربية وأسلحة أخرى.
هذا ما نراه مثلاً في دول غربية مثل هولندا وحتى بريطانيا. مع العلم أن فرنسا هي إحدى الدول الموقعة على الإتفاقية الدولية لتجارة السلاح، يُمنع بموجبها بيع هذه الأسلحة إلى بلدان متهمة بانتهاكات لحقوق الإنسان. بدل ذلك، تدعي فرنسا، أن تسليح بلد مثل الإمارات العربية هو من أجل الدفاع عن سلامة المواطنين الفرنسيين، وذلك من خلال الحرب على الإرهاب، وكأن هذه الطائرات تُحارب الإرهاب حقاً وليس المدنيين العُزل، يكفي أن نسأل أطفال اليمن عن ذلك.

السياسات الغربية

السؤال الأهم بالنسبة لي، هو كيف لنا كشعوب عربية أن نقف أمام هذه السياسات الغربية الداعمة للأنظمة الديكتاتورية بحجج واهية.
هل يكفي الصراخ والاحتجاج، أم يجب العمل في اتجاه تعميق الحراك الديمقراطي العربي؟
بدايات الثورة التونسية في العام 2011 تُذكرنا بذلك. في حينها، وقفت وزيرة الدفاع الفرنسية -أليو ماري- إلى جانب الرئيس بن علي وزودته بأدوات القمع، قبل أن تنعكس هذه السياسة رأساً على عقب، وتستقيل الوزيرة المذكورة أمام إصرار الشعب التونسي على إسقاط هذا النظام الديكتاتوري.
وحده العمل في اتجاه التحول الديمقراطي الكامل، من سيحمينا من شر هذه الأنظمة ومن شر من يدعمها، وحده هذا النضال من سيدفع بالسياسات الغربية الحالية، وخصوصاً الفرنسية، في اتجاه مُغاير.
تدعي فرنسا ليلاً نهاراً، أن الخطر الأساسي عليها، الآتي من جنوب البحر المتوسط، هو خطر الهجرة غير الشرعية، وخطر الإرهاب والتطرف. هذه أخطار حقيقية لا نُجادل بها. لكن كيف لفرنسا أن تتجنب هذه الأخطار، هل هو بتسليح الأنظمة المُستَبدة أم بالدفع نحو الانفتاح الديمقراطي والحكم الرشيد، كما أعلنه بزمنه الرئيس فرانسوا ميتيران، عندما توجه بخطابه إلى أفريقيا.
وحده ذلك الحكم الرشيد، وما يتبعه من انفتاح وتكامل اقتصادي، من سيتمكن عن طريق التنمية، بعد القضاء على الفساد وإهدار المال العام وسرقة الثروات، لصالح الأقلية الحاكمة، من سيتمكن من وضع الدول العربية على طريق التطور والخروج من التخلف الاقتصادي والفقر وما يتبعه من ظواهر التطرف الديني والعنف السياسي، والهجرة بكل الوسائل إلى أوروبا، وهي الأخطار التي يدعي الرئيس الفرنسي محاربتها، ببيعه الأسلحة المُدمرة للإمارات المتحدة.

طريق التغيير

السياسة الفرنسية الحالية، تبدو لي قصيرة النظر، أو حتى عمياء، فهذه الأمة العربية المعذبة، قد وضعت نفسها، منذ عشر سنوات على طريق التغيير، وشبابها سيستمرون بالعمل والنضال في البصرة وبيروت والخرطوم، وكل مدن وقرى الوطن المُمتَد من المحيط إلى الخليج.
هذا الحراك رغم ضعفه، ورغم عنف القوى المعادية، وتسليحها من طرف فرنسا وغيرها، لن يهدأ ولن يختفي، بل سيعود ويعود، كما رأينا في السودان، إلى أن تجد الأمة طريق الخلاص والخروج من هذا النفق الأسود. حينها قد تكون فرنسا ومن دعم هذه الأنظمة، بوضع لا يُحسد عليه، ذلك عندما تُوضع مشاريع التنمية وما تستوجب من تقنيات ورؤوس أموال، تتجاوز بكثير، الستة عشر مليار دولار، ثمن طائراتها المُقدمة للإمارات، أو ما جنته من بيع الأسلحة لمصر والمملكة العربية السعودية.
ما نأمله من الحكومة الفرنسية هي أن تقف الى جانب قوى التغيير العربية فهي تحمل مستقبل الأمة ومستقبل العلاقات بين دول شمال وجنوب المتوسط، مواقف وسياسات شجاعة تكون متلائمة مع قيم الجمهورية الفرنسية ومع قيم الشعب الفرنسي الصديق ومصالحه المستقبلية الحقيقية.

اليوم العالمي للفلسفة… نيتشه وأخلاقيات الضعيف

مقالات

اليوم العالمي للفلسفة… نيتشه وأخلاقيات الضعيف

 د. نزار بدران 

لا يُشكل اليوم العالمي للفلسفة، الذي يُصادف الثامن عشر من شهر تشرين الثاني- نوفمبر، حدثاً مهماً، مُقارنة بالاحتفالات الأممية الأخرى. فهو يمر عادة دون أن ينتبه إليه أحد. ما زالت تُعتبر الفلسفة في وطننا العربي، مجالاً يتناقض مع حاجاتنا الأساسية، المبنية كلها، على البحث عن مقومات العيش الكريم، من عمل وصحة وتعليم وتربية.
ما بدا تناقضاً، هو في الحقيقة، عدم دراية كافية بدور الفلسفة، فهي الوجه الآخر لهذا العيش الكريم. فعندما يُحقق الإنسان مقومات حياته المادية، فهو يقوم بتحقيق شروط البقاء، مثله مثل كافة أشكال الحياة الأخرى. وحده الوعي الإنساني، ما يُميزنا عن باقي الكائنات الحية، هذا الوعي هو مصدر الفلسفة، لأنه يُحاول الإجابة على الأسئلة التي نطرحها عن مآلات وجودنا وكيفية حياتنا.

استعمال العقل

تنطلق الفلسفة من استعمال العقل كشرط ضروري، وهي النقطة المشتركة مع العلوم، لكن هذا الاستعمال يتجه نحو الذات، بينما العقل العلمي، يتجه نحو الطبيعة باحثاً عن قوانينها.
قد يُهم القارئ العربي، معرفة رؤية الفيلسوف الألماني نيتشه (1844-1900) لأوضاعنا العربية حالياً، لو كان ما زال حياً بيننا، وذلك من خلال تحليله لمفهوم الخير والشر، في كتابه أصول الأخلاق.
من خلال رؤيته العميقة لما يُسميه أخلاقيات العبيد وأخلاقيات الأسياد، نستطيع اكتشاف أنفسنا ورؤية ذاتنا وكيفية تكوين أحكامنا على الأشياء، وهو ما يُساعدنا على فهم واقعنا وسُبُل تغييره.
يَعتقد نيتشه أن الحياة مبنية على الصراع بين الإرادات وبشكل دائم وذلك في إطار ما يسميه إرادة السيطرة. القوي يبطش بالضعيف، فهو يملك القوة. أخلاقيات القوي تختلف جذرياً عن أخلاقيات الضعيف، فهذا الأول يُمَجد القوة، بينما الآخر الضعيف لا يستطيع إلا استجداء القوي لوقف بطشه، لذلك فهو الذي وضع مفهوم الخير والشر، فالخير هو ما يمنع القوي من استعمال قوته والشر هو عكس ذلك.
تهدف أخلاق الضعيف إذاً إلى خلق نوع من تأنيب الضمير والشعور بالذنب عند الأقوياء، وما تقوم به الأديان هو تأكيد ذلك عن طريق تطوير مفهوم الخطيئة والفضيلة والتلويح بعذاب الآخرة بحق هؤلاء.
داخل حدود الدول، قد يكون ذلك هو من أسس للقوانين والعقد الاجتماعي، لمنع تحكم الأقوياء بالضعفاء. لكن لو أخذنا ذلك على مستوى العلاقات الدولية، فإن القوانين الدولية، لم تزل غير مُلزمة لأحد، لذلك فهي ما زالت مبنية على أخلاقيات القوي وأخلاقيات الضعيف، أو تصارع إرادة القوة مع إرادة الضعف.
يُعطي الفيلسوف الألماني نموذجا على ذلك، بسرد قصة الصقر والحمل. فالحمل يرى نفسه طيباً ويرى الشر كله في الصقر الذي يتربص من السماء . يوافق الصقر بدوره الحمل، على وصف نفسه أنه طيب، فهو لذيذ الطعم، لكنه لا يوافقه على وصفه بالشر، فهو فقط يمارس إرادة القوة التي يملكها، عندما ينقض عليه، أي يُمارس ما أعطته له الحياة، ولا يجد سوءاً في ذلك.
لو أردنا إسقاط ذلك على واقعنا العربي، فإننا سنجد أننا نحن من يحمل أخلاقيات الحمل الضعيف وإرادته، بينما إسرائيل وأمريكا ودول عديدة، تتصرف من منطق إرادة القوة وأخلاقيات الصقر. هذه الدول لا تقول شيئاً، بل تكتفي بممارسة قوتها. فعندما ترسل أمريكا أساطيلها إلى الخليج ومناطق أخرى، وجيوشها هنا وهناك، فهي لا تفعل إلا ممارسة إرادة القوة التي تملكها، وليست بحاجة لتبرير وتفسير ذلك، فهو يبدو لها طبيعياً، ولا تُمضي وقتها بانتقاد تلك الدولة أو الأخرى، بل تذهب للعمل فوراً، فهي تملك وسائله.

المنظمات الدولية

الطرف الضعيف، يفعل العكس، فهو يُعلن فقط أن القوي قد اعتدى عليه وسلبه حقوقه، ويُطالب مجلس الأمن والأمم المتحدة وجميع المنظمات الدولية والقوانين العابرة للحدود، لأن تُعلن معه أن القوي قد ظلمه وانتهك القانون الدولي، هادفاً بذلك إلى دفع القوي للشعور بالذنب وتأنيب الضمير لسوء فعلته. هذا ما نراه مثلاً مع القضية الفلسطينية منذ أكثر من قرن.
تكدست القرارات الدولية بالمئات، ولم يحصل شيء لصالح الحق العربي، بل العكس، كلما مر الزمن كلما تراجعنا إلى الخلف وخسرنا حقوقاً أكثر ولم نسترد شيء. تمارس إسرائيل الاستيطان في الضفة الغربية وتضم القدس وتُهود باقي فلسطين، ونحن نطالب الأمم المتحدة بإدانة ذلك بأقصى العبارات.
تقوم إسرائيل بالغارات شبه اليومية، على مواقع تمركز القوات الإيرانية في سوريا، أو ضربها حتى في إيران، واغتيال شخصيات علمية وتفجير مراكز استراتيجية إيرانية، ولا نرى من الطرف الإيراني إلا الجعجعات المستمرة والتنديد بالعدوان، إن اُعترِف به، نحن نعيش قصة الحمل والصقر.
لن تستطيع الدول العربية منفردة وممزقة وضعيفة اقتصادياً وسكانياً، ومليئة بالنزاعات الداخلية، الحصول على أية حقوق، إلا إذا تمكنت من امتلاك وسائل القوة، أي استبدال إرادة الضعف التي تحملها حالياً بإرادة القوة. هذا لن يتم إلا إذا نظرنا أولاً إلى أنفسنا وأسباب انتمائنا إلى إرادة الضعف، رغم كل وسائل القوة المتواجدة في بلادنا فوق الأرض وتحتها.
المراقب لما يكتبه الكتاب والمثقفون العرب وكذلك السياسيون، يرى أن معظم ما يُقال ويُكتب ويُنشر في وسائل الإعلام يدور حول أخلاقيات الضعفاء التي نحملها، أي الإصرار على إظهار مدى استهتار دول العالم الغربي بحقوقنا، والمطالبة الحثيثة بتطبيق القرارات الدولية، وكأن هناك من يسمعنا أو يقرأنا، بدل العمل على البحث عن وسائل القوة الكامنة فينا، للوصول إلى أخلاقيات الأقوياء. فالاستبداد الذي يعم كل دولنا، التشرذم والانقسام المستمر في كل مكان، التراجع الفكري والثقافي لصالح العنف لحل أي إشكالية، الانقسام الطائفي المزمن، العيش في عالم الأوهام والأحلام والماضي المجيد. كلها من صفات الضعيف، هي التي بحاجة للكشف والتغيير. وكما يقول نيتشه فلن يُجدينا شيء أن نتهم الصقر أنه شرير، إذا قبلنا أن نبقى حملاً ضعيفا في هذا العالم المتصارع، بدل التحول إلى ذئب ذي أنياب حادة.