الكوارث الإنسانية/ القدس العربي/ نزار بدران

بعد سلسلة الكوارث «الطبيعية « الأخيرة في بلادنا- المغرب وليبيا وقبلهما سوريا- تفاجأنا بحجم الدمار، والتأثير على حياة الناس والحيوانات والمحاصيل.
الكارثة الطبيعية هي في الحقيقة كارثة بمقدار ما تعني من نتائج سلبية على البشر؛ وإلا فإنها أحداث طبيعية، مهما كبرت، موجودة منذ وجد الخلق أي منذ أربعة عشر مليار عام. مثلا لو حدث زلزال قوي في صحراء بلا سكان؛ لما تكلم أحد عن كارثة.

الفكر الإنساني

مقابل أحداث الطبيعة؛ هنالك الكوارث الإنسانية، فالحروب قتلت ملايين البشر، وهدمت مدنا بأكملها، يكفي أن ننظر في زمننا هذا الأخير إلى دمار حلب أو غروزني في الشيشان، أو قبلهما محو هيروشيما ونغازاكي في اليابان من الوجود؛ بالقنابل الذرية الأمريكية.
أخطر إنتاج الفكر الإنساني الكارثي؛ كان اختراع وسائل الدمار الشامل بكل أشكالها (الفيلسوف الألماني جنتر أنديرز).
ونحن لسذاجتنا وتعودنا عليها، نعتقد أننا بعيدون من التأثر بها، رغم إدراكنا التام لخطورة نتائجها؛ وكأن العلم والتكنولوجيا في أياد أمينة.
هؤلاء الذين يخترعونها لا يسألون أنفسهم عن مدى خطورة ما يفعلون. وهل رجال السياسة قادرون على تمييز النووي لتدمير الحياة، من الآخر المنتج للكهرباء، وهل سيكتفون فقط بإنتاج الكهرباء. ومن يضمن لنا أن لا ينتهي الأمر كله بدمار الإنسانية، فما تملكه روسيا وأمريكا يكفي لتدمير العالم عدة مرات.
الإنسان هو إذن الكارثة الحقيقية التي ابتليت بها الطبيعة، وليس أشكال الحياة الأخرى؛ من حيوانات وجراثيم ونباتات؛ التي تتعايش بشكل متكامل ومتوازن فيما بينها. الإنسان لأول مرة في التاريخ لم يربط حريته مع مسؤوليته، هذه العلاقة التي تميز إنسانيته، وتعطي تفسيرا وحجة لامتلاكه الوعي. ما يعتبره سموا على عالم الحيوانات!.

التلوث البيئي

التلوث البيئي الذي بدأ في القرن التاسع عشر في أوروبا؛ أعطى ثماره السوداء، وغطى بدخانه سماء العالم؛ تحت مسمى التغير المناخي. نتقاسم جميعا مسؤوليته.
فأوروبا تستورد البترول والفحم والمعادن التي تنتجها دولنا؛ من الخليج إلى العراق وليبيا والجزائر؛ ونحن سعداء بذلك لأنه يغني قادتنا وأمراءنا وجنرالاتنا في الحكم، وتعطينا إمكانية شراء البضائع والسيارات والهواتف الذكية التي نفتخر بامتلاكها.
لكن الكارثة الإنسانية التي حلت بشعوبنا العربية كافة واختصت بها عن بقية شعوب العالم؛ هي هذا النظام السياسي؛ والذي لا يرى في الأرض العربية إلا مرتعا لخيله؛ وأمكنة لتأكيد عنجهيته وتسلطه، وبيع ثروات البلاد، من أجل حياة الرفاهية التي ينعم بها، ومن يحيطون به من ميليشيات وعسكر.
وإن احتج الشعب، أدخل في حرب دائمة لا تبقي ولا تذر، كما نرى الآن في سوريا وليبيا والسودان. عندها يكون الاهتمام بشأن سدود درنة شيئا لا لزوم له. وتحسين الطرق وحياة سكان الجبال النائية في جنوب المغرب لا فائدة منه، ونحن نراهم على شاشات التلفزيون وكأنهم قادمون من عالم آخر.
إعصار دانييل، مر على اليونان وتركيا وبلغاريا، ولم تكن له نتائج على حياة الناس، أما في ليبيا فقد كان وبالا ودمارا، ليس لأنه ازداد قوة؛ بل لأنه وقع داخل دولة؛ لا يهم قادتها إلا الاقتتال الداخلي للاستحواذ على أموال النفط، ودفع معاشات المرتزقة القادمين من روسيا وغيرها. لم يكن من يراقب سدود درنة معينا بسبب كفاءته؛ والذي لم يفعل شيئا لصيانتها منذ عشرات السنين، وإنما بسبب ولائه للسلطة الفاسدة، فنحن نطبق قاعدة الرجل غير المناسب؛ في المكان غير المناسب.
نحن في دولنا، نعيش في حالة استعجال، مثل مريض في قسم الانعاش؛ فإما أن تقدم له العناية الضرورية وإما أن يموت. أظن أننا الآن ننتظر الموت بشكل أو بآخر؛ إلا إذا صحا شباب الأمة، وأخذوا من جديد؛ أمور أنفسهم بأنفسهم.

كاتب فلسطيني

د. نزار بدران

الغرب والكيل بمكيالين

نزار بدران القدس العربي ٢٣ أيار ٢٠٢٣

هناك العديد من المراقبين والمحللين وهم على حق، من يلاحظ أن الدول الغربية تكيل بمكيالين، عندما يتعلق الأمر بالقضايا العربية، وخصوصاً القضية الفلسطينية. النموذج الأوكراني واضح جداً، فقد وضعت أمريكا وكافة الدول الغربية، بمفهومها الحضاري (الغرب الشامل)، كل إمكانياتها وعلى مدار أكثر من عام، للوقوف إلى جانب الشعب الأوكراني في محنته، وإعطائه وسائل النصر على المُحتَل الروسي.

الحق الفلسطيني

هذا ما لم تفعله تلك الدول، مع الحق الفلسطيني، بل على العكس، ذهبت في معظمها إلى منحنى دعم المحتل الإسرائيلي. لذلك حق لنا أن نحتج ونعلن على الملأ، أننا مظلومون.
هذه الفكرة، إن أخِذت مجردة عن الوقائع التاريخية، وكذلك ما يُسمى الجيوسياسية، هي فكرة صحيحة. لكنها مجرد وهم وكلام لا فائدة منه، عندما نأخذ بالحسبان وجود مجموعات بشرية على وجه الأرض ذات أنظمة اجتماعية وتواريخ مُتباينة، إن لم نقل مُتَضاربة.
ما يجمعنا جميعاً، هو معيار الحضارة الإنسانية، أي حقوق الإنسان، والذي يبقى إعلانها الرسمي من الأمم المتحدة، هدفاً بعيد المنال، في أماكن كثيرة من العالم، وبشكل خاص تلك البلدان البعيدة عن مفهوم حقوق الفرد. تصبو لها الشعوب قاطبة، دون أن تصل إليها، هي الأفق الذي نود جميعاً التوجه إليه والاقتراب منه.
المُقارنة الحقيقية التي يجب أن ننظر إليها، عندما نتحدث عن الكيل بمكيالين، هي كيفية تعامل دول الغرب الشامل لحل أزماتها الداخلية، وكيفية تعامل دول الشرق لحل المشاكل نفسها ، وليس أن ننظر فقط للمجموعة الغربية كمالكة وحيدة للمكاييل، إن لم تكن أصلاً طرفا في النزاع.

أوكرانيا جزء من الغرب

أوكرانيا إن أردنا أو لم نُرد، هي جزء من الغرب، وكل الشعب الأوكراني يُعلن ذلك، ويعمل جاهداً للانضمام الرسمي للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. هل الشعب الفلسطيني، جزء من الغرب، ويبحث عن الانضمام بدوره للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؟
بالطبع لا، هو جزء من المكون الشرقي، وعلى دول هذه المجموعة، أي الدول العربية أولاً، والمسلمة ثانياً، العمل كما يفعل الغرب مع أوكرانيا؛ أي الوقوف كرجل واحد مع الشعب الفلسطيني، ودعمه بكل وسائل تحرره، وفي كل الميادين.
الواقع هو العكس، فهذه الدول في معظمها، إن لم نقل جميعها، تقف على الحياد، أو مع الطرف المُحتل، أي إسرائيل، وتطبيع بعض دول الخليج وشمال إفريقيا وجنرالات السودان مع إسرائيل، هو واضح بشكل كاف.
قبل أن نطلب من الغرب والعالم أجمع، الوقوف معنا، علينا أن نقف مع أنفسنا، وبفعالية، كما تفعل دول الغرب مع أوكرانيا.
وصول اللاجئين الأوكرانيين إلى الدول الأوروبية، لم يُثر أي زوبعة داخلية لشعوب تلك الدول، بل على العكس، قُدمت لهم كافة التسهيلات.
المطلوب منا هو ليس الاحتجاج على الغرب، لعدم فعل الشيء نفسه مع اللاجئين العرب أو الأفارقة (حتى ولو كان ذلك صحيحا)، بل هو ماذا نفعل نحن في دولنا لحل مشاكل اللاجئين؛ اللاجئ الفلسطيني أو السوري في لبنان، عبء لا يُطاق، والحملة الانتخابية في تركيا بجناحيها، تُدغدغ مشاعر المواطن التركي، بحلم إعادة الملايين الثلاثة من السوريين إلى وطنهم، عند نظام بشار الأسد، أو في بعض الأحيان استعمالهم في سياسة تركيا الخارجية مع الاتحاد الأوروبي، وكأنهم ورقة تجارية رابحة.
يجب النظر إلى كيفية تعامل الدول الغربية مع مشكلة لاجئيها، ومقارنتها مع كيفية تعامل دولنا وحتى شعوبنا مع المشكلة نفسها (نموذج تونس الحديث)، وليس البكاء الدائم على الكيل بمكيالين.
نحن لا نتوقف عن نقد التاريخ الاستعماري الغربي، وما أدى إليه من كوارث وبشكل خاص في فلسطين وأماكن أخرى، وأهمها التجزئة العربية، ولنا الحق في ذلك، وفي الوقت نفسه نطلب منهم استقبال لاجئينا الذين يموتون في البحر لوصول أوروبا، هرباً من الفقر والحرب، بدل أن ننظر إلى أنفسنا ونعمل على تغيير أوضاعنا الكارثية، وإزالة الضيم والظلم، الذي نمارسه بأنفسنا على أنفسنا، قبل أن يُمارسه الآخرون علينا.
الحقيقة التي لا تقبل النقاش، هو أن معيار الغرب في وجه أي مشكلة تخصه، ليس هو معيار الشرق، في مواجهة نفس المشاكل. هنا يمكننا القول أننا حقاً نكيل الأمور بمكيالين.

كاتب فلسطيني

اليوم العالمي للفلسفة… أفكار عن الحرب والسلم. القدس العربي 21 نوفمبر 2022

اليوم العالمي للفلسفة… أفكار عن الحرب والسلم

 د. نزار بدران 

تشكل الحرب مصدر حيرة بالنسبة للفيلسوف، فهو على طريقة كانط الفيلسوف الالماني، في كتابه «نحو السلام الدائم» عام 1795 يفضل التفلسف في مجال السلام. هذا الأخير هو موضوع واضح، مقارنة بضبابية الحرب. رغم ذلك فهناك من الفلاسفة من حاول وضع مفهوم للحرب. أول من فكر في ذلك هو الفيلسوف اليوناني أفلاطون، والذي اعتقد أن الحروب بين المدن الإغريقية كان شيئا طبيعيا مفيدا، بهدف الحفاظ على مفاهيم الشجاعة والشهامة والفروسية والتي بنيت عليها أخلاقيات ذلك الزمن.
الحرب هي اختراع إنساني بحت، فالحيوانات لا تعرفها، كانط فسر ذلك بإرادة الطبيعة والتي وضعت في الجنس البشري قاطبة وسائل البقاء وليس في الأفراد كما فعلت مع الحيوانات. الصراع عنده (كتاب: ما هي الأنوار) هو وسيلة الطبيعة لدفع البشر وضع قوانين مقيدة للحرية حتى يتمكنوا من الحياة، وإلا لأفنوا بعضهم بعضا. لذلك فهو يعتقد أن الإنسان يسير ولو بعد زمن طويل جدا نحو السلام الدائم. هذا السلام قد يتحقق داخل المجتمعات أي داخل الدول لكن تحت طائلة القانون، لكننا نبقى بعيدين جدا من تمكن وضع الدول نفسها تحت حكم القانون والذي هو شرط السلام، فهي تحتكم فقط إلى توازن القوى محولة فكرة السلم الدائم إلى أطروحة وهمية وفكرة ساذجة، رغم وجود منظمات وقوانين دولية عديدة لتنظيم الإنسانية، لكن سيادة الدولة تبقى لحد الآن أعلى من القانون الدولي.
قليلة هي الدول كما هو الحال في الولايات المشكلة للولايات المتحدة الأمريكية أو دول الإتحاد الأوروبي، التي تقبل الانتقاص الطوعي من سيادتها في مجالات محددة لصالح المجموعة، مثل إلغاء الحدود والعملات الوطنية أو توحيد الأنظمة الاجتماعية الداخلية.
ابتداء من القرن السادس عشر، قام الفلاسفة بتحديد أنواع الحروب، فهناك مفهوم الحرب العادلة، وأهم مؤسسيها الفيلسوف الألماني ليبتز في القرن السابع عشر، تلك التي تهدف إلى استعادة حق منهوب وإعادة الوضع كما كان سابقا، أو معاقبة المعتدي عليها «حرب الحقوق» وهنا توضع القوة في خدمة القانون. وهناك الحرب المؤسسة، تلك التي تهدف إلى إقامة وضع حقوقي جديد «حرب التأسيس» ومن المدافعين عنها الفيلسوف الإنكليزي هوبز في القرن السادس عشر، وهنا يوضع القانون في خدمة القوة. هذان مفهومان متضاربان، الحرب على العراق وضعها الأمريكيون في خانة الحرب العادلة لأنها كانت تهدف لاستعادة السيادة الكويتية، أما الثورة الإسلامية والحرب مع العراق وضعها الإيرانيون في خانة حرب مؤسسة أي تهدف لإقامة نظام حقوقي جديد.

حروب العرب حروب أهلية داخلية عبثية، مرتبطة بوضع تاريخي مهلهل منذ قرون، وهو غياب الدولة والتي هي الوحيدة التي تحمي السلم الاجتماعي، وهذا الوضع لن يغيره حرب ولا سلم

اختلاف طبيعية الحروب عن بعضها البعض، وعدم خضوعها لقوانين ثابتة، يدفعنا للتكلم عن «فلسفة زمن الحرب» وليس عن فلسفة الحرب. بمعنى فلسفة العلاقة بين الحضارة والحرب، وانعكاسات تلك الأخيرة على المجتمعات على المدى الطويل، وما تخلقه أولا من تجارب فكرية خصوصاً في المجال الثقافي وما تثيره من نزعات قومية شوفينية مع ظهور الانعزالية أو العدوانية، كما حصل في أوروبا في بداية القرن العشرين أو ما نرى حاليا في الحرب بين أرمينيا وأذربيجان (مسلم ضد مسيحي مع غطاء قومي). كذلك ثانياً التغيرات التي تدخلها الحرب على رؤيتنا للتاريخ، وإمكانية تصحيح أو تغيير مجراه كما رأينا مثلا مع انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، أو قبل ذلك حرب الاستقلال الجزائرية. أو أخيرا ما تلهمه الحرب للبحث عن فلسفة جديدة للسلام، بعد أن يتعب المقاتلون، كما حصل مع إقامة السلام داخل الدول الأوروبية بعد قرون من حروب مدمرة. وذلك من خلال اتحاد الأطراف المتقاتلة بعد انتهاء الحرب، مظهرا بشكل واضح عبثية تلك الأخيرة، واضعة السلم كهدف وتحد جديد أمام الجميع، أكبر وأهم كثيرا من الحرب، فالسلام لا يمكن أن يكون مقبولا من طرف المتقاتلين إن كان يعني التراجع والجبن والمذلة.
جعل أرسطو عندما قال: « نحن نقوم بالحرب حتى نعيش في سلام»، السلام كالهدف الوحيد للحرب، لكن ذلك يستثني حروب الإبادة، فسلام المقابر ليس سلاما. يمكننا إذا أن نجعل الهدف النهائي لأي حرب، العيش في سلام وعدالة.
هذا المنطق الذي يربط الحرب بالسلم، هو من أسس لمفهوم الحرب العادلة، وكان رجل الدولة الروماني شيشرون (106-43 قبل الميلاد) أول من قنن الحرب واضعا سبع نقاط، ما زالت ليومنا هذا ملهمة لقوانين الحرب المتعارف عليها، وهي:
الحرب لها سبب عادل؛ الدفاع عن النفس أو عن الآخر
لها هدف وحيد شرعي وهو السلام
لا تحدث إلا بعد فشل كل الوسائل الأخرى
تقررها سلطة شرعية
تعلن على الملأ وبشكل رسمي
تمارس باعتدال وبشكل متناسب
تقارن بعناية فوائد قيام الحرب أو عدمه، لتسمح بتقدير الدمار والمعاناة الناتجة عنها، وأن ذلك لا يتجاوز الأذى الذي يراد محاربته.
لو طبقنا هذه القواعد القديمة على حرب بوتين في أوكرانيا، فإننا سنجد أنها لا تتطابق ولا حتى مع نقطة واحدة. من المفارقة ملاحظة أن كل الحروب تجد لتبريرها تعليلات أخلاقية لتحميلها معايير الحرب العادلة، رأينا ذلك مع أكاذيب الأمريكيين في حربهم على العراق، وكذبة أسلحة الدمار الشامل، أي كونها حربا عقابية مشروعة. كما نرى اليوم تعليل بوتين لحربه كونها تهدف إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس جديدة أكثر عدلا، وكأنها حرب تأسيسية، بينما لا تهدف في حقيقتها إلا تثبيت حكمه الديكتاتوري، وانهاء أي خطر من عدوى ديمقراطية قادما من كييف.
أين تقع حروبنا العربية الداخلية من مفهوم الحرب، كما نرى في سوريا او اليمن وليبيا، هي ليست حروب تؤسس لشيء جديد، فالربيع العربي اختار طريق السلمية في نضاله وليس الحرب، وهي ليست بهدف استرداد حق مفقود، وهذه الأخيرة كثيرة ولا يحارب من أجلها أحد كما نرى مثلا في فلسطين. هي فقط كعادة العرب حروب أهلية داخلية عبثية، مرتبطة بوضع تاريخي مهلهل منذ قرون، وهو غياب الدولة والتي هي الوحيدة التي تحمي السلم الاجتماعي، وهذا الوضع لن يغيره حرب ولا سلم

حرية التعبير والتفكير مقابل حرية التقديس والتكفير

نزار بدران. القدس العربي 29/08/2022

على هامش محاولة تنفيذ فتوى الإمام الخميني بحق الكاتب البريطاني الهندي سلمان رشدي بسبب رواية كتبها قبل أكثر من ثلاثين عاما لم يعجب عنوانها غلاة التدين الإسلامي، فلا أظن أنهم قد قَرَأوها، فهم غير معنيين أصلا بالأدب العالمي، لكنهم وصموها بالكفر، وحق إذن قتل الرجل دون أدنى محاكمة، بالإضافة إلى الأعمال الإرهابية التي حصلت في السنوات الأخيرة في أوروبا ضد دعاة حرية الفكر والتعبير، واستمرارها في بلاد عديدة من بلاد المسلمين كأفغانسان والعراق، وما يواكبها من قتل للمدنيين الأبرياء، والمدافعين عن الحق بحرية الرأي والإيمان. كذلك تراجع الهيئات الرسمية الدينية عن دورها بالاستنكار وإخراج القتلة من دائرة الإنسانية، والاكتفاء باعتبارهم فقط فئة ضالة نرجو من الله عودتها للطريق الصحيح، ظهر للمجال العام إشكالية حق التعبير الحر وحدوده، هل هناك أشياء يمكن التفكير والتعبير عنها وأشياء أخرى لا تقبل ذلك.

المساحة المفتوحة للرأي

في بلادنا من النادر أن نجد من يطرح السؤال عن كيفية تحديد تلك المساحة المفتوحة للرأي والنقاش والتعبير، وتلك المغلقة، وهل هذه المساحات ثابتة مع الزمن وهل هي نفسها عند كل شعوب الأرض.
بداية سأعطي تعريفا للمصطلحات وبعض المفاهيم .
أولا: حرية التعبير هي إمتداد لحرية التفكير فالكتابة أو الكلام أو الرسم أو السينما هي إمتداد لفكرة أو معتقد داخل الدماغ ، التفكير يسبق إذا التعبير وحرية الأول يحدد حرية التالي والعكس صحيح.
ثانياً: في المقابل فالمقدس هو ما يرفض أن يكون موضع نقاش وهو مرتبط عضويا بمفهوم التكفير فمثلا وجود الله أو الجنة وأشياء أخرى كثيرة هي رمز واضح لما هو مقدس عند المسلمين، الشيء نفسه عند المسيحيين كاليسوع أو الصليب، الشيء نفسه عند الهندوس والبوذيين الذين يقدسون تماثيل بوذا وأشياء أخرى عديدة. لكن استعمال الدين كمصدر للسياسة والتقنين المجتمعي أضفى على تلك القوانين ثياب القدسية وأخرجها من دائرة الفكر والنقاش العام، وسمح بفرض ما تشاءه السلطة من نوعية وشرعية وأساليب الحكم تحت غطاء القدسية وبدون الرجوع إلى النقاش الاجتماعي، الخروج عنها أصبح تحت طائلة التكفير والعقاب وليس إبداء رأي مخالف.

تتسع حرية التعبير عند اتساع دائرة حرية التفكير، وتتراجع المقدسات، والعكس صحيح، فكلما زاد المنطق الغيبي المبني على ما يعتبره المدافعون عنه مُقَدَّسا، تتراجع حرية التفكير وتكبر دائرة التكفير.
هذا ما حصل في أوروبا في الثلاثة قرون الأخيرة، وهو إخراج الدين من السياسة والعمل المجتمعي، وهو ما سمح بوضعهما في إطار النقاش العام، وتحديد القدسية بحيز صغير.

إعمال العقل

هذا كان فكر إبن رشد او ما يقال عن المعتزلة ومبدأ الشك الذي تبنوه، إعمال العقل في كل شيء وحرية الاختيار بعيدا عن المقدسات والمحرمات.
في العالم الإسلامي يُرْفَض القبول بالتفكير بأهم ثلاثة أشياء:
أولاً: قدسية الدين مع أنه في الوقت نفسه يقنن حياة الناس أي الشريعة، فالمقدس هو بالتعريف خارج النقاش لذلك لا تُعَلَّم الفلسفة في المدارس لأنها لا تقبل الغيبيات والمقدسات.
ثانياً: السياسة لأنها حكر على السلطة وَيُعَلِّمُوا أطفالنا دائما عدم الحق في التدخل في السياسة، فشرعية الحاكم جزء من الأشياء المقدسة، وفي معظم الأحيان يحكم بإسم الدين.
ثالثا: الْمُحَرَّم الكلام فيه نهائيا هو الجنس، فنعيش في أوهام طبيعة الجنس الآخر، وما يحق ولا يحق دون أدنى دراية مما يزيد الكبت والتحرش، وانتقاص حقوق الأضعف أي المرأة. في بلاد المسلمين حرية التعبير هي بمستوى حرية التفكير المسموح بها، هي إذا شبه معدومة، إلا إذا عشنا في بلاد الغرب لنتمكن من الكلام. جزء كبير من وسائط الإعلام العربية تصدر من الدول الغربية، بما فيها الإعلام القريب من الفكر الإسلامي. عندما نكون هكذا، يخرج المحرومون من حق التعبير والتفكير في بلادنا، الملتزمون فقط بالمقدسات الدينية أي التي يمنع التفكير بها، يخرج هؤلاء ليشرحوا للغرب منابع وأساليب التعبير السليم، نحن حقا نعيش في عالم وحدنا، وكأن الإنسانية لم تقاتل وتضحي منذ قرون لاسترجاع حقها باعتبار حرية الفكر المستقل خارج الأطر الغيبية، كان إبن رشد ومدرسته تدافع عن ذلك في القرن الثاني عشر ودفع الثمن لشيوخ زمنه وتم نفيه. ولكن فكره هذا عندما وصل أوروبا بعد سقوط الأندلس، مَكَّنَهَا من البدء بزمن التنوير، وهي التي كانت في القرون الوسطى تعيش ويلات الحروب الدينية.

الفكر النَّيِّر

هل سنسترجع فكر إبن رشد أم سنستمر برفضه كما نفعل منذ ثمانية قرون. إن أردنا ذلك فهذا الفكر النَّيِّر هو ما نراه اليوم في الغرب وفي جزء كبير من دول العالم المتحضر، واسترجاعه هو حق أصيل لنا، فنحن من ترجم أرسطو ومن فسره للغرب، وَطَوَّرَه على يد وفكر العلامة إبن رشد وآخرين.
عندما توضع المقدسات والمحرمات مكان الفكر، يصبح التعدي والقتل أحد وسائل التعبير الحر، كما عشناه على أجساد أبنائنا وأهالينا مع التنظيمات المتطرفة كداعش والقاعدة في سوريا والعراق وغيرها، أو كذلك منع الرسم الحر، وناجي العلي كان نموذجا لذلك. هذا الخلط وعكس المفاهيم المنطقية واضح للأسف من كلام وكتابة العشرات من كتابنا الذين يتفهمون دوافع الجريمة تحت حجة تعبير «أدين الجريمة ولكن…» هكذا يعطى المجرم أو أي مختل شرعية عمله وتشجيعها، لأنه يعتقد أنه يقوم بعمل نيابة عن ملايين المسلمين فيصبح أمام نفسه بطلا، ويعتبره كذلك آلاف الناس ألبسطاء. يكفي أن نتابع وسائل التواصل الاجتماعي لنرى الكم الهائل من رسائل الدعم والتفهم والتشجيع لهذه الأفعال المشينة.
مسؤولية من يعتبر نفسه مؤثرا في الرأي العام كبيرة جداً، ويجب أن لا نكتب ما يمكن فهمه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كتشجيع وتشريع للقتل. في آخر تغريدة لمهاتير محمد رئيس ماليزيا السابق ذي الشعبية الساحقة عند المسلمين، بعد مقتل أستاذ فرنسي على يد شاب شيشاني داعشي، لم يتوان عن تشريع قتل ملايين الفرنسيين، هو نموذج لهذا الانحراف الذي يسقط به بقصد أو غير قصد قادة الرأي العام.
الإمام الخميني ملهم الثورة الإسلامية عاش عشرين عاما في فرنسا حليفة الشاه في زمنه ولم يمنعه أحد من نشر فكره المحرض على الثورة، بينما كان إصدار فتوى إعدام سلمان رشدي من أول قراراته بعد عودته لإيران وما تلاه من اجتثاث أقرب المقربين له مثل الرئيس الأول لإيران أبو الحسن بني صدر لعدم امتثالهم التام لمقدساته.

تحطيم الوجدانية أو الضربة القاضية /القدس العربي 26/07/2022

تحطيم الوجدانية أو الضربة القاضية

 د. نزار بدران

هناك الكثير ما يمكن قوله بشأن فوائد التجمع على التفكك والوحدة على التمزق؛ المصالح الاقتصادية ، تكاتف الإخوة لحماية الديار، فتح الحدود لعبور الأفراد والبضاىع، حرية العمل والتعلم ، حرية الاستثمار، بناء السلم والسلام، واشياء عديدة جدا تفسر تماما لماذا تجمعت سبع وعشرون دولة لإقامة الاتحاد الأوروبي ، كذلك تجمع دول أمريكا الجنوبية أوتجمع دول أمريكا الشمالية.

إقامة تكتلات واسعة

نحن إذا أمام ظاهرة لإقامة تكتلات واسعة، وما دعم الغرب لأوكرانيا بالمال والسلاح إلا أحد ظواهره. الاسباب الوجيهه تبدو كالشمس ليست في حاجة إلى شرح وتبرير.
العرب يشكلون في هذه الظاهرة استثناء عجيبا ، فهم بالإضافة لكل ما ذكرنا من أسباب، تجمعهم أيضا عوامل إضافية مهمة جدا، في غالبيتهم الساحقة تجمعهم وحدة اللغة ، ووحدة التاريخ ، وللغالببة العظمى وحدة الانتماء الديني، هذه العوامل الأخيرة لا نجدها في مناطق أخرى في العالم ، فدول أوروبا تتكلم لغات عدة، حتى أن في داخل بعض دولها مثل بلجيكا أو سويسرا يتكلم الناس لغات مختلفة.
ولكن أهم شيء يميزنا هو ما أسميه وحدة الوجدان. وحدة الوجدان هذه تعني أنني أشعر بالآخر وكأنه جزء مني وأنا جزء منه ، نحب ما يحب ونكره ما يكره ، يترجم ذلك بحبنا كلنا للغناء والموسيقى العربية من أي قطر أتت ، نحب كلنا الأكل العربي مهما كان موطنه، نحب الأدب والشعر العربي، نحب الهندسة المعمارية العربية.
نحن أصدقاء لشعوب عديدة مثل الأتراك أو الإيرانيين ونتمنى لهم كل خير، ولكن لا تجمعنا معهم وجدانية مشتركة.
لكن أوضح شكل لهذه الوجدانية هي تضامننا كشعوب عندما يعتدى علينا ، لن تجد من سيقف مع المعتدي من أبناء الأمة ( باستثناء الأنظمة).
كنا كلنا لبنانيين عندما غزت إسرائيل جنوب لبنان ، وعراقيين عندما كان المعتدي إيران أو الولايات المتحدة.
وكلنا فلسطينيون في حروب غزة المتعددة، كل إنسان في هذه الأرض العربية الواسعة يرى أن تضامنه الوجداني العاطفي مع فلسطين هو حاصل تحصيل وليس بحاجة لشرح الأسباب والعلل لذلك ، الوجدانية ليست بحاجة لتبرير ومصالح مشتركة ، هي مثل الحب تعبير مباشر من القلب، وما إقالة الوزيرة الأميرة التي رفضت لقاء المسؤولين الإسرائيليين في البحرين إلا أحد مظاهره المشرفة.

الأنظمة العربية

قد يسأل القارئ لما هذا الإصرار على هذا الجانب ونحن نريد أن نحكم العقل أولا. الجواب أن الأنظمة العربية حطمت كل عوامل الوحدة التي ذكرناها في البداية، وتفرض علينا التفرقة والتناقض وتقوي كل أشكال الطائفية والنزاعات الداخلية، فلا اقتصاد ولا حدود نحميها بل دول على شكل سجون. لكنها لم تستطع أن تحطم وتجزئ وجدانيتنا الواحدة.
هنا اكتشف أنني كنت مخطئا في تقديري هذا، لأن قيادات الشعب الفلسطيني وفئات من مثقفيه والذي هو مركز هذه الوجدانية لم تجد حرجا في وضعنا خارج الوجدانية العربية تحت حجج واهية ، ماذا يعني العودة لحضن الأسد ، وهل هذا ما ينتظره الشعب السوري من أخيه الفلسطيني، قبل ذلك الارتماء باحضان النظام الإيراني.
أليس ذلك هي أحسن وسيله لتحقيق أمل إسرائيل بإبعاد الشعوب العربية عن الشعب الفلسطيني ، ألا تفسر هذه اللامبالاه بآلام إخوتنا في سوريا او مناطق اخرى ابتعادهم عنا ، هل التنسيق الأمني مع إسرائيل من جهه ومع القوى الفاشية في المنطقة من جهة أخرى، والوقوف مع الأنظمة ضد الشعوب أليس ذلك سببا بانهيار شارع الدعم العربي لفلسطين ، لم نر أحدا ما عدا القلة القليلة تحتج في العاصمة المغربية على زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي ، ولا الزيارات المتعددة لمسؤولين إسرائيليين للدول المطبعة، ونحن كنا أول من ذهب ليهنئ ويدعم الوزير الأول المغربي حين وقع اتفاقيات التطبيع برعاية أمريكية، في محاولة فاشلة لانقاذه عن طريق تفعيل الوجدان الفلسطيني للشعب المغربي.
الوجدان المشترك هو كالإسمنت يلصق قطع الطوب بقوة لنبني بيتنا الواحد، هذا واضح جدا في الوجدان الأمريكي وما يعطي القوة لهذا البلد ، كل الأمريكيين فخورون للانتماء لهذا البلد مهما اختلفت ألوانهم، وينحنون أمام علمها، هو الوجدان المشترك من ينقص حاليا في أوروبا ويجعل بناءها هشا رغم نجاح الاتحاد الواضح في المجال الاقتصادي ، كما رأينا مع انسحاب بريطانيا.
هو حالياً يعود للحياة مع الاعتداء الروسي على أوكرانيا وتهديد أمن اوروبا، والذي أعطى الشعور للمواطنين الأوروبيين أنهم في قارب واحد.
الوجدان الواحد يقوى أمام الأزمات والحروب في كل بلاد العالم ، إلا على ما يبدو في بلادنا ، فكلما اعتدي علينا وسرقت أراضينا وهجرت شعوبنا ، كلما زدنا فرقة.
نحن نعيش الآن محاولة جادة وتنفذ بأيدينا لتدمير الوجدان العربي المشترك، والذي كان آخر مظهر من مظاهر التضامن، تشارك فيها ليس فقط الأنظمة المستبدة ولكن أيضا من يدعون الدفاع عن فلسطين وشعبها، هو كمن يحل الصمغ أو يزيل الإسمنت، والذي دونه لن نستطيع بناء أي شيء صلب ودائم.

طفولة الشعوب. القدس العربي 17/07/2022

طفولة الشعوب

طفولة الشعوب
نزار بدران

لم يكتف مؤسس علم النفس الحديث سيجموند فرويد بشرح أعماق النفس البشرية وما تحتوي من تناقضات، بل وسع ذلك إلى المجتمعات وليس فقط الأفراد. حاول فرويد إسقاط مفهوم طفولة الأفراد وتطورهم التدريجي نحو البلوغ على المجتمعات الإنسانية، ما يميز الطفل عن البالغ هو الحرية التي يتمتع بها هذا الأخير والمسؤولية التي تنبثق عنها ، أي المقدرة على تحديد ما يريد بنفسه والعمل الجاد على تحقيقه. الطفل لا يمتلك هذه الإمكانية، هو تحت رقابة والديه اللذان يحددان له ما يجب أن يفعل أو ما يجب الامتناع عنه. لذلك هو فاقد للحرية وبنفس الوقت لا يحمل أية مسؤولية. والداه يجازيانه إن نجح ويعاقبانه إن فشل. مقابل ذلك فهما يؤمنان له الحماية وكل مقومات الحياة.
طفولة الشعوب عند فرويد تعني عدم تمكن شعب ما من تحمل مسؤولية حياته، هو يبحث دائما عن أب يحميه ويتحمل مسؤولية ما يحصل له. فرويد يفسر هكذا كثيرا من المعتقدات الغيبية، والتي تحدد للانسان ما يجب أو ما لا يجب عمله، دون الحاجة إلى تحمل عناء التفكير بنفسه، مع ما يتبع ذلك من جزاء أو عقاب. بدأت طفولة الشعوب هذه بالانحسار في الأزمنة الحديثة، بعدما سادت البشرية قرونا طويلة، وبدأت شعوب كثيرة تصل إلى مرحلة البلوغ. هذا يعني أن هذه الشعوب بدأت تحصل على حريتها، وما ينتج عن ذلك من تحمل مسؤولية نفسها. هي تقرر مصيرها ولا تنتظر عقاب أو جزاء أحد، ولم تعد تبحث عن أب يحميها ويتحمل مسؤولية فشل أعمالها.

هل وصلت الدول العربية إلى هذه المرحلة؟ وهل تحررت من مرحلة الطفولة، هل استرجعت حريتها وواجب تحمل مسؤولية نفسها. لو أردنا استكشاف ذلك مما يكتبه الذين يعتبرون أنفسهم مفكري الأمة وممثليها على المستوى الثقافي والفكري والسياسي ، فإننا قد يراودنا بعض الشك.
مثلا لا حصرا ، بعد ستين عاما من استقلال الجزائر، وطرد المستعمر إلى لا عودة، ما زالت السلطة الجزائرية تحمل فرنسا بشكل خاص مسؤولية فشلها الاقتصادي وفقر حال المواطن، وتتهمها بالوقوف وراء الاحتجاجات الشعبية التي عمت البلاد. في المقابل نرى قوى المعارضة السياسية تتهم السلطة بدورها التبعية لفرنسا. وما زال الشعب الجزائري يحاول بنفسه مباشرة استرجاع حقه بتحمل مسؤولية نفسه ، والشعوب قادرة على ذلك. نفس الشيء تقريبا نجده في أماكن متعددة حتى أن جزءا من الطبقة السياسية اللبنانية لم يتوان عن طلب تدخل فرنسا المستعمر السابق لحل مشاكله مع شعبه، معلنا بهذه الطريقة تصرفا طفوليا غير مسؤول. هذه الوضعية تناسب بكل تأكيد اطراف السلطة أولا ، لأنها تبعد عنهم مسؤولية الدمار الذي يحل في بلادنا بسببهم، فدمار سوريا ليس نتيجة براميل النظام ، وإنما بسبب المؤامرات التي حاكها المستعمرون.

في المقابل لو قرأنا قليلا عن الهند، والتي عانت من الاستعمار البريطاني لقرون طويلة (1757–1947) ، فإننا لا نرى أحدا يتهم بريطانيا بمآسي الهند الحالية ولا حتى تقسيمها عند الاستقلال، هي الآن أحد دول مجموعة العشرين وتعرف أعلى معدل نمو بينها منذ عام 2014. الصين أيضا تم استعمارها من قبل دول غربية عدة ، ومن اليابان. لا أظن أنني بحاجة لاذكر القارىء بمكانة ونضج الصين حاليا والتي تعامل اعتى الدول من مفهوم الند. على مستوى أقل، دولة مثل فيتنام ، وهي تشبه بحجمها كثيرا من دولنا العربية، عانت كثيراً من الاستعمار الفرنسي ثم الحرب الأمريكية لسنوات طويلة، هذا لم يمنعها من أن تدخل مجموعة ما يسمى نمور آسيا الناشئة ، معظم إنتاجها يصدر للولايات المتحدة عدوها السابق ، ومعظم قطاعها السياحي المزدهر موجه للسياحة الأمريكية، لا أحد في فيتنام يضيع وقته بتوجيه اللعنات والدعوات بالموت لأمريكا.
هذه علامات نضج الشعوب وبلوغها سن الرشد. تلك التي تخرج من عباءة المحتل لتبني نفسها، وتتحمل مسؤولية ذلك ، نحن خرجنا من السيطرة الغربية (باستثناء فلسطين)، ولكن بقينا اطفالا، نفتقد الشعور بالمسؤولية تجاه أنفسنا، ونكتفي بالشكوى والعويل.
هذا لا يعني ان ننسى تاريخ الماضي، وما يعلمنا من عبر، ولكن لا يصح استعماله فقط من أجل التهرب من مسؤوليتنا في أزمات تاريخنا الحاضر.

لتوضيح ماهية النضج وماهية الطفولة، يكفي أن نقارن كيفية تعاملنا وتعامل الدول الناضجة في مواجهة نفس النوع من الأزمات. النموذج الأول هو إشكالية اللجوء. كيف تصرفنا نحن دولا وشعوبا مع اللاجئين أبناء جلدتنا ولغتنا وديننا، الهاربين من جحيم الحرب في سوريا والعراق مثلا أو الهاربين من الفقر والبؤس في دول أخرى، وكيف تصرفت الدول الغربية وشعوبها مع اللاجئين القادمين بظروف مشابهه تماما من اوكرانيا، هم لاجئون أوروبيون ينتمون للثقافة والفكر الغربي في جميع نواحي حياتهم مرشحين للالتحاق بالاتحاد الأوروبي. تصرفنا مع لاجئينا كان هو حجزهم وإخراجهم من سوق العمل، وحتى وضعهم داخل مخيمات أقرب للسجون ، تنتظر المعونات الدولية ، من استطاع هرب وذهب بأي وسيلة إلى دول الغرب. أما الدول الغربية مع اختلاف لغاتها وأوضاعها الاقتصادية فقد استقبلت اللاجئين الأوكرانيين كأبنائها. ومنحتهم الحق في الإقامة والعمل ، بالإضافة للدعم المادي وادخال أبنائهم المدارس وغير ذلك كثير. كيف ينظر المواطن اللبناني إلى أخيه اللاجىء السوري أو الفلسطيني، ينظر إليه كمنافس خطير على لقمة العيش، بلا أدنى حقوق إنسانية، والدولة اللبنانية لا ترى فيه إلا خطرا على التوازن الطائفي.
النموذج الآخر هو كيف تصرفت الدول الغربية مع الهجوم المدمر الروسي على أوكرانيا، وكيف تعاملت الدول العربية مع نفس الهجوم الروسي على سوريا. كثيرا من المواقف العربية الرسمية ومجموعة كبيرة من دعاة الفكر والأدب وحتى افرادا بسطاء وقفوا إلى جانب المحتل في موقف غريب جداً, بينما تقف كل الشعوب الأوروبية دون استثناء وبكل مكوناتها واتجاهاتها الفكرية من أقصى اليسار الى اقصى اليمين وحكوماتها مع الشعب الأوكراني، وتزوده بكل ما يحتاجه.
أخيرا كيف تتعامل الدول العربية مع الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تهم المواطن العربي، وكيف تتعامل الدول الغربية في ظروف مشابهة. في أوروبا يجري توحيد الطاقات كما رأينا مع جائحة كورونا، الحدود الداخلية لدول الاتحاد مفتوحة دائما، توحيد سوق العمل وقوانينه، لا حدود أمام من يود الاستثمار العمل أو التعلم. مقابلها في بلادنا، حدود حديدية لا يمكن تجاوزها، وما يؤدي ذلك من استحالة إقامة أي مشاريع مشتركة واضاعة ملايين من فرص العمل.
أن ننتقد الغرب لأنه لم يستقبل اللاجئ السوري أو العراقي أو الأفغاني بنفس الطريقة التي استقبل بها اللاجئ الأوكراني، هو ناتج عن عقدة عربية خاصة بنا دون غيرنا، وهي أن على الغرب مسؤولية حل مشاكلنا وليس مسؤوليتنا نحن،. الحرب في أوكرانيا هي حرب في أوروبا ويتحمل الغرب المسؤولية في التعامل مع نتائجها، وهو يقبل من أجل ذلك ان يدفع الثمن من رفاهيته ومستوى معيشته. علينا نحن كشعوب وحكومات أن نواجه مشكلة الحروب الداخلية واللجوء والهجرة في بلادنا ، وليس الاكتفاء فقط بتصديرها إلى أوروبا.
حياة الأمم مثل حياة الأفراد تمر دائما بمرحلة طفولة، قد تطول أو قد تقصر، ولكن يجب أن تنتهي. معظم شعوب العالم حولنا نماذج لما وجده فرويد في علمه، ودليل على صدق استنتاجاته.








اليوم العالمي للفلسفة… نيتشه وأخلاقيات الضعيف

مقالات

اليوم العالمي للفلسفة… نيتشه وأخلاقيات الضعيف

 د. نزار بدران 

لا يُشكل اليوم العالمي للفلسفة، الذي يُصادف الثامن عشر من شهر تشرين الثاني- نوفمبر، حدثاً مهماً، مُقارنة بالاحتفالات الأممية الأخرى. فهو يمر عادة دون أن ينتبه إليه أحد. ما زالت تُعتبر الفلسفة في وطننا العربي، مجالاً يتناقض مع حاجاتنا الأساسية، المبنية كلها، على البحث عن مقومات العيش الكريم، من عمل وصحة وتعليم وتربية.
ما بدا تناقضاً، هو في الحقيقة، عدم دراية كافية بدور الفلسفة، فهي الوجه الآخر لهذا العيش الكريم. فعندما يُحقق الإنسان مقومات حياته المادية، فهو يقوم بتحقيق شروط البقاء، مثله مثل كافة أشكال الحياة الأخرى. وحده الوعي الإنساني، ما يُميزنا عن باقي الكائنات الحية، هذا الوعي هو مصدر الفلسفة، لأنه يُحاول الإجابة على الأسئلة التي نطرحها عن مآلات وجودنا وكيفية حياتنا.

استعمال العقل

تنطلق الفلسفة من استعمال العقل كشرط ضروري، وهي النقطة المشتركة مع العلوم، لكن هذا الاستعمال يتجه نحو الذات، بينما العقل العلمي، يتجه نحو الطبيعة باحثاً عن قوانينها.
قد يُهم القارئ العربي، معرفة رؤية الفيلسوف الألماني نيتشه (1844-1900) لأوضاعنا العربية حالياً، لو كان ما زال حياً بيننا، وذلك من خلال تحليله لمفهوم الخير والشر، في كتابه أصول الأخلاق.
من خلال رؤيته العميقة لما يُسميه أخلاقيات العبيد وأخلاقيات الأسياد، نستطيع اكتشاف أنفسنا ورؤية ذاتنا وكيفية تكوين أحكامنا على الأشياء، وهو ما يُساعدنا على فهم واقعنا وسُبُل تغييره.
يَعتقد نيتشه أن الحياة مبنية على الصراع بين الإرادات وبشكل دائم وذلك في إطار ما يسميه إرادة السيطرة. القوي يبطش بالضعيف، فهو يملك القوة. أخلاقيات القوي تختلف جذرياً عن أخلاقيات الضعيف، فهذا الأول يُمَجد القوة، بينما الآخر الضعيف لا يستطيع إلا استجداء القوي لوقف بطشه، لذلك فهو الذي وضع مفهوم الخير والشر، فالخير هو ما يمنع القوي من استعمال قوته والشر هو عكس ذلك.
تهدف أخلاق الضعيف إذاً إلى خلق نوع من تأنيب الضمير والشعور بالذنب عند الأقوياء، وما تقوم به الأديان هو تأكيد ذلك عن طريق تطوير مفهوم الخطيئة والفضيلة والتلويح بعذاب الآخرة بحق هؤلاء.
داخل حدود الدول، قد يكون ذلك هو من أسس للقوانين والعقد الاجتماعي، لمنع تحكم الأقوياء بالضعفاء. لكن لو أخذنا ذلك على مستوى العلاقات الدولية، فإن القوانين الدولية، لم تزل غير مُلزمة لأحد، لذلك فهي ما زالت مبنية على أخلاقيات القوي وأخلاقيات الضعيف، أو تصارع إرادة القوة مع إرادة الضعف.
يُعطي الفيلسوف الألماني نموذجا على ذلك، بسرد قصة الصقر والحمل. فالحمل يرى نفسه طيباً ويرى الشر كله في الصقر الذي يتربص من السماء . يوافق الصقر بدوره الحمل، على وصف نفسه أنه طيب، فهو لذيذ الطعم، لكنه لا يوافقه على وصفه بالشر، فهو فقط يمارس إرادة القوة التي يملكها، عندما ينقض عليه، أي يُمارس ما أعطته له الحياة، ولا يجد سوءاً في ذلك.
لو أردنا إسقاط ذلك على واقعنا العربي، فإننا سنجد أننا نحن من يحمل أخلاقيات الحمل الضعيف وإرادته، بينما إسرائيل وأمريكا ودول عديدة، تتصرف من منطق إرادة القوة وأخلاقيات الصقر. هذه الدول لا تقول شيئاً، بل تكتفي بممارسة قوتها. فعندما ترسل أمريكا أساطيلها إلى الخليج ومناطق أخرى، وجيوشها هنا وهناك، فهي لا تفعل إلا ممارسة إرادة القوة التي تملكها، وليست بحاجة لتبرير وتفسير ذلك، فهو يبدو لها طبيعياً، ولا تُمضي وقتها بانتقاد تلك الدولة أو الأخرى، بل تذهب للعمل فوراً، فهي تملك وسائله.

المنظمات الدولية

الطرف الضعيف، يفعل العكس، فهو يُعلن فقط أن القوي قد اعتدى عليه وسلبه حقوقه، ويُطالب مجلس الأمن والأمم المتحدة وجميع المنظمات الدولية والقوانين العابرة للحدود، لأن تُعلن معه أن القوي قد ظلمه وانتهك القانون الدولي، هادفاً بذلك إلى دفع القوي للشعور بالذنب وتأنيب الضمير لسوء فعلته. هذا ما نراه مثلاً مع القضية الفلسطينية منذ أكثر من قرن.
تكدست القرارات الدولية بالمئات، ولم يحصل شيء لصالح الحق العربي، بل العكس، كلما مر الزمن كلما تراجعنا إلى الخلف وخسرنا حقوقاً أكثر ولم نسترد شيء. تمارس إسرائيل الاستيطان في الضفة الغربية وتضم القدس وتُهود باقي فلسطين، ونحن نطالب الأمم المتحدة بإدانة ذلك بأقصى العبارات.
تقوم إسرائيل بالغارات شبه اليومية، على مواقع تمركز القوات الإيرانية في سوريا، أو ضربها حتى في إيران، واغتيال شخصيات علمية وتفجير مراكز استراتيجية إيرانية، ولا نرى من الطرف الإيراني إلا الجعجعات المستمرة والتنديد بالعدوان، إن اُعترِف به، نحن نعيش قصة الحمل والصقر.
لن تستطيع الدول العربية منفردة وممزقة وضعيفة اقتصادياً وسكانياً، ومليئة بالنزاعات الداخلية، الحصول على أية حقوق، إلا إذا تمكنت من امتلاك وسائل القوة، أي استبدال إرادة الضعف التي تحملها حالياً بإرادة القوة. هذا لن يتم إلا إذا نظرنا أولاً إلى أنفسنا وأسباب انتمائنا إلى إرادة الضعف، رغم كل وسائل القوة المتواجدة في بلادنا فوق الأرض وتحتها.
المراقب لما يكتبه الكتاب والمثقفون العرب وكذلك السياسيون، يرى أن معظم ما يُقال ويُكتب ويُنشر في وسائل الإعلام يدور حول أخلاقيات الضعفاء التي نحملها، أي الإصرار على إظهار مدى استهتار دول العالم الغربي بحقوقنا، والمطالبة الحثيثة بتطبيق القرارات الدولية، وكأن هناك من يسمعنا أو يقرأنا، بدل العمل على البحث عن وسائل القوة الكامنة فينا، للوصول إلى أخلاقيات الأقوياء. فالاستبداد الذي يعم كل دولنا، التشرذم والانقسام المستمر في كل مكان، التراجع الفكري والثقافي لصالح العنف لحل أي إشكالية، الانقسام الطائفي المزمن، العيش في عالم الأوهام والأحلام والماضي المجيد. كلها من صفات الضعيف، هي التي بحاجة للكشف والتغيير. وكما يقول نيتشه فلن يُجدينا شيء أن نتهم الصقر أنه شرير، إذا قبلنا أن نبقى حملاً ضعيفا في هذا العالم المتصارع، بدل التحول إلى ذئب ذي أنياب حادة.

المثقفون والسلطة القدس العربي 31/10/2021

المثقفون والسلطة

نزار بدران

نستغرب كثيرا عندما نقرأ ما يكتبه بعض المفكرين، مبررين ما يقوم به عتاة الطغاة. المثال السوري أو الإيراني واضح تماما، فتدمير بلد كامل وتهجير نصف سكانه وتجويع الجميع، لم يكن كافيا لرفع الغشاوة عن عيون الكثيرين ممن يدعون الوقوف ضد الامبريالية والصهيونية.

مثال ذلك أيضا من دعم وما زال دكتاتورية صدام حسين وانظمة مشابه لم تبنى إلا على قتل كل معارض.

على مستوى العالم هناك احباء الرئيس الفنزويلي السابق هوجو شافيز، أو الرئيس الكوبي الراحل فيديل كاسترو، وأيضا ماو تسي تونغ في الصين أو ستالين في روسيا. في حقبة سابقة كان هناك من المفكرين الغربيين من وقف مع النازية والفاشية.

نحن طبعا لا نقصد كل المفكرين، فهناك من قضى نحبه دفاعا عن الديمقراطية ولم يحد يوما عن العمل ضد الظلم مهما كان مصدره، نذكر منهم الراحل ميشيل كيلو والمهدي بن بركة في المغرب وكثير من الشعراء والادباء، الذين قضوا سنوات طويلة في سجون هذه الديكتاتوريات أو ماتوا فيها. نحن نركز فقط على هذه الشريحة والتي رغم صغرها إلا أنها تملأ الدنيا ضجيجا. مثلا هذه النخبة من مفكري الفصائل الفلسطينية من يمينها إلى يسارها، وهم لا يرون بسبب عماهم الأيدلوجي ما يحدث في مجموعة من الدول التي تحكمها أنظمة تَدَّعِي ممانعة الاستعمار والصهيونية وأمريكا.

في احسن الاحوال، لو اعتبرنا أن هذه المواقف تنبع عن حسن نية، هؤلاء المفكرون خاطئون في تحليلاتهم، والوقائع على الأرض تثبت ذلك. هم ينطلقون من مبادئ عفى عنها الزمن منذ انتهاء الحرب الباردة. 

في كتابه الذي صدر عام 2017 “من بنيتو موسوليني إلى هوجو شافيز” أظهر المنشق الهنجاري السابق واستاذ العلوم الاجتماعيه في الولايات المتحدة، “پول هولاندر”، لماذا يدعم وبشكل علني كثير من المفكرين زعماء أنظمة شمولية، وما يشعر به هؤلاء ويفسر انجذابهم، رغم معرفتهم التامة للجرائم والفظاعات المرتكبة، تبقى هذه العلاقة بين الحاكم المستبد ورجل الفكر ظاهرة مبهمة.

على عكس ما قدمته الفيلسوفة الالمانيه آنا ارنت من أن الجهل هو ما يدفع أجزاء كثيرة من المجتمع للانجرار وراء اوهام القادة الاقوياء والمستبدين، كما رأينا مثلا مع جمال عبد الناصر او الإمام الخميني، فإن دراسة بول هولاندر أظهرت أن نسبة المثقفين المنجرين وراء الدكتاتوريات بالنسبة لعددهم الإجمالي هو أعلى من تلك النسبة بين عامة الناس.

يمكننا ملاحظة ذلك بوضوح مع الربيع العربي، فعدد المثقفين ووسائل الإعلام ألتي إبتعدت عن دعم الشباب المحتج تتزايد مع تقدم قوى الثورة المضادة، هذا ما رأينا في مصر وسوريا وغيرها، بينما أبناء الربيع العربي في لبنان والعراق والسودان والجزائر ما زالوا متمسكين بمواقفهم ويزيد عددهم يوما بعد يوم.

يذكر المؤلف تعريف ادوارد سعيد لشخصية المثقف  ” شخص قادر على قول الحقيقة ، شخص شجاع وغاضب ، لا توجد قوة دنيوية بالنسبة له أكبر من أن تُنتَقد وتُسأَل بوضوح.  المثقف الحقيقي هو دائمًا غريب ، يعيش في منفى فرضه على نفسه على هامش المجتمع”

نحن عندما ننظر حولنا إلى مثقفينا نفهم تماما عزلة ادوارد سعيد النفسية.

يعطينا بول هولاندر في كتابه ما يعتقده الأسباب وراء انبهار هولاء المثقفين، هي ليست مادية أو منفعية دائما، أو ضعف فكري أو غشاشة مؤقته. يذكر المؤلف شخصيات مهمة أمثال الفيلسوف الالماني هيدجر وعلاقته بالنازية او الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مع ماو تسي تونغ وستالين، وكتاب غربيون كبار آخرون.

النوع الأول برأيه هم هؤلاء الذين لم يستعملوا قدراتهم النقدية، فوقعوا في الجهل، ولحسن الحظ فهم يغيرون موقفهم بمجرد معرفة الحقيقة

النوع الثاني هم الانتهازيون الراكضون وراء منافع السلطة، هم حماة النظام  ومنظريه واشد منتقدي معارضيه. هذا النوع منتشر بشكل واسع حالياً في بلادنا العربية، ويستعملوا كل الوسائط الحديثة.

النوع الثالث هم هؤلاء المثاليون والذين يرفضون ما يرون وينكرون الحقيقة، كل جريمة هي خبر كاذب أو من صنع الضحايا. هم يظنون أن القائد الملهم سيسير في اتجاه ما يحلمون به من إقامة نظام حداثي أو اشتراكي او العكس ديني، فسقف توقعاتهم عاليا جداً. هذا النوع رأيناه مثلا مع وصول السيسي وطرد الإسلاميين.

النوع الرابع هم هؤلاء الذين يجرهم النظام جرا عن طريق كيل المديح والتبجيل بهم، ليضمن وقوفهم معه، خصوصاً الذين يتمتعون بشعبية كبيرة، مثال بعض الشعراء او شخصيات فنية مرموقة في سوريا، وحتى في مصر، شهرتهم تستعمل هنا لأهداف سيئة.

النوع الخامس هم هؤلاء الذين يعترفون بطابع النظام الاستبدادي ولكنهم يقارنون دائما بين السيئ والاسوأ، يتسائلون هل نظامهم أفضل من نظامنا، الكل سيء لكنا أقل سوأ. هم يفتقرون إلى المقدرة على تمييز الأبعاد الأخلاقية.

النوع السادس من المثقفين، هم المهتمون بتوافق سياسة النظام مع المعايير العلمية، هي أسس النظام النازي او قبله الاستعماري والذي جَيَّر البحث العلمي لصالح نظريات عنصرية، كذلك النظام الشيوعي وحتمية وصول الطبقة العاملة للسلطة كما نَظَّرَ لها ماركس. ما يحدث من عنف هو جزء من النظرية العلمية.

النوع الاخير هم هؤلاء المبهورون بكاريسما الزعيم بعيدا عن أي تفسير عقلاني وحبهم للشخصية السلطوية، مثال فيديل كاسترو او هيجو شافيز، فهم أحسن الموجود.

كل هؤلاء يقبلون عنف السلطة، ويعتبرونها ضرورية للتقدم، وكما قال المفكر والتر دورانتي فإننا “لا نستطيع أن نعمل عجة دون كسر بيض”. لا يتغير معظمهم حتى ولو عرفوا حقيقة وبشاعة الجرائم المرتكبة، وحده انقلاب الرأي العام عند ادراكه لذلك، من يجبرهم الى تبديل ارائهم، خوفاً من فقدان جمهورهم.

هؤلاء المعجبون بالدكتاتور، لا يهمهم تناقضه مع لائحة حقوق الانسان، او معايير الديمقراطية والحضارة الحديثة. ما يخطؤون به دائما هو أن الديكتاتور لن يحقق لهم احلامهم واوهامهم، والنموذج المصري شديد الوضوح.

عندما يُغَيِّب المثقف معايير الحقيقة فإنه يصبح هشا وقابلا للجذب من قبل السلطة. هؤلاء لم يعودوا مثقفين او مفكرين بل مجموعة من المبهورين، خانوا أنفسهم قبل شعوبهم.

لينين أطلق عليهم عند وصوله للسلطة إسم “الحمقى المفيدون”

المجتمع مصدر العمل السياسي. القدس العربي 02/07/2021

 د. نزار بدران 

أي نشاط سياسي داخل المجتمع المدني يواجه في معظم الدول العربية بالتجريم، وأي انتقاد للسلطة بالعنف وفي بعض الأحيان بالقتل، وكأن هناك محرمات، لا يحق لأحد خارج من ظنوا أنفسهم ملاك العمل السياسي، الاقتراب منها.
من ناحية أخرى لا نجد الكثير بين العاملين في المجال السياسي من مسؤولين ومتعلمين من يستعمل الأدوات العلمية لذلك، ومن ينطلق حقا من الجمهور الواسع باحثا عن المعطيات الاجتماعية الضرورية لذلك.

النشاط الإنساني

السياسية ، ذلك الجزء من النشاط الإنساني المهتم في الشأن العام وإدارته، كانت وقبل أن تنتمي إلى مجال العلوم الإنسانية محل تفكير الفلاسفة، لكنها حتى ظهور توماس هوبز الفيلسوف الإنكليزي في بداية القرن السابع عشر، لم تكن تعني إلا المفكرين وأصحاب السلطة أو رجال الدين. الجمهور لم يكن إلا موضوع هذا النشاط وليس بأي شكل من الأشكال مُلهِمَه، ولا حتى المشارك بانتاجه.
هوبز دون أن يغير هذه المعادلة، حول هذه السياسية إلى نوع من التعاقد مع الجمهور والذي يتخلى عن حقوقه لصالح القائم على السلطة، واضعا سياسات مصدرها السماء أو السلطة نفسها، فالهدف هو إنهاء اقتتال الكل ضد الكل كما كان يعتقد ، فالناس بطبيعتهم أشرارا.
لم يظهر مفهوم أحقية الشعب بممارسة السياسة إلا مع فكر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، حيث عكس الصورة ووضع مفهوم الجمهور كمصدر السياسة والسلطة المُنتخَبة أداة لتنفيذها (الانقلاب الليبرالي).
القرن الماضي أعاد من جديد ظهور السياسة الفوقية خصوصا في الاتحاد السوفييتي ومناطق نفوذه. لكن انهيار هذا التكتل أدى إلى عودة العمل السياسي إلى أصحابه الشرعيين أي المواطنين العاديين الذين وبشكل عفوي عكسوا الصورة من جديد، فالسلطة عادت وسيلة للعمل السياسي الآتي من الجمهور وليس مصدرها.

نظام الفصل العنصري

انتشر ذلك النموذج سريعاً بنهاية القرن الماضي، منهيا نظام الفصل العنصري في دولة جنوب أفريقيا، ثم اتساع الرقعة إلى معظم بقاع الأرض، مثل أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.
آخر اللاحقين بعكس الصورة السياسية ومصدرها كانت البقعة العربية انطلاقا من تونس بنهاية 2010، مع نتائج ما زالت ضبابية، لكن التاريخ بدأ بالتحرك والتململ.
ما هي وسيلة دارسي العلوم السياسية لفهم الحدث السياسي أو حتى توقعه ؟
سؤال تصعب الإجابة عليه، فلم يستطع أحد أن يتوقع أحداثا مهمة جداً بحجم انتهاء الحرب الباردة وأشياء كثيرة أخرى، مرد ذلك أن المجال التجريبي في العمل السياسي هو التاريخ، وتجاربه تستغرق عقودا طويلة، لذلك وجب الإستعانة بأدوات إضافية في محاولات توقع المستقبل، وكما نَظَّر له المؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل فإن ذلك هو مجال ما يسميه التاريخ الشامل.
فبالإضافة لدراسة الأحداث يجب دراسة التغيرات الاجتماعية مثل الديموغرافيا والتطور البيئي وحتى الوضع الجيولوجي.
نحن في البلدان العربية بحاجة لأن نعطي السياسة والعلوم السياسية بعدها الديناميكي أي التاريخ الشامل، فلا مجال لفهم أوطاننا من خلال تحليلات ودراسات فوقية تُعْنَى فقط بأصحاب الشأن السياسي الرسميين على أهميتها، بل علينا إضافة الأبحاث الاجتماعية، خصوصا التركيبة المجتمعية وتطوراتها البطيئة على مدار عقود، مثل مستوى التعليم خصوصاً عند النساء، التغيرات في مستوى الخصوبة المرتبط بمستوى تعلم النساء وحصولهن على مجموعة من الحقوق، تطور طبقة وسطى ومطالبها بالتعبير والحرية والتحديث الديمقراطي، أو انتشار الترابط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأشياء كثيرة جداً مثل التغير المناخي والترابط والتداخل الاقتصادي وسوق العمل، كل ذلك يجب أن يوضع بخدمة السياسية حتى تصبح حقا ملتصقة بالواقع وقادرة على فهم وتوقع المستقبل ولو مع هامش خطأ كبير.

إدارة شؤون المدينة

السياسة بمفهومها النبيل هو إدارة شؤون المدينة، وقد حددت الفيلسوفة الألمانية انا ارنت أسس هذا العمل القادم من القاعدة من خلال طرحها لمفهوم “الفضاء العام”، وأهلية الكل للمشاركة في العمل السياسي بشكل علني شفاف، واعتبرته الشكل الوحيد الذي يخرج الفرد من تقوقعه ويربطه بالآخرين. عكس المهن، العمل السياسي لا يتم إلا من خلال العلاقات الاجتماعية .
على السياسة وعلومها أن تخرج من قاعات المحاضرات وصالات المكتبات المغلقة لتذهب نحو موضوعها السليم والذي وجدت من أجله، وهو جمهور الناس بأماكن عملهم وحياتهم، فهؤلاء كما رأينا هم من يحدد عاجلا أم آجلا وبشكل غير متوقع في أغلب الأحيان قواعد الفعل السياسي .
للأسف فكثير من الفاعلين السياسيين ما زالو يرون كما كان زمن هوبز الجمهور أو الشعب كمفعول به سياسيا، بينما تبقى السياسة حكرا على السياسيين والمثقفين.
منذ الصغر نتعلم أن نبتعد عن السياسة وكأنها خطر على مستقبلنا، بينما الحقيقة أنه لا يوجد مستقبل بدون مشاركة الناس بأمور حياتهم.
علينا إذا أن نتجه إلى مصدر السياسة الحقيقي، ونعمل على تفعيله وإعادته للحياه، ونحن نعيش الآن مرحلة تاريخية استثنائية معقدة ستحدد مستقبلنا لعشرات السنين، فهل سنكون على مستوى المسؤولية ؟

القبلية بين السلطة والمجتمع، ليبيا والسودان نموذجا. نزار بدران القدس العربي 16/12/2020

هل النزعة القبلية، عائق أمام الثورات؟ هذا سؤال يُطرح دائماً، عندما نتكلم عن ثورات الربيع العربي، فنحن نعتبر كشيء مُسَلم به، أن البُعد القبلي في المجتمعات العربية، يُعيق تطورها، خصوصاً تلك البلدان المحكومة بعائلات عريقة، بناء على مفهوم العصبية الأقوى. هذا سؤال واضح ومشروع، والإجابة المُتوقعة عليه، هو بالإيجاب.
عُقدت في معهد العالم العربي في باريس، ندوة حول هذا الموضوع، شارك فيها مختصون في الشأن العربي الاجتماعي، وخصوصاً ليبيا والسودان. أظهرت أن الإجابة على السؤال المطروح، ليست بالسهولة المُنتظرة، وككل المسائل الاجتماعية، هناك احتمالات مختلفة، وإجابات متعددة، وليست إجابة واحدة. بهذا المقال نود أن نضيف البعد النظري لما طرح في الندوة وما جادت به تحليلات الأكاديميين بشكل مختصر واعطاء بعض الأمثلة.

الإبستيميا

من الناحية النظرية، فقد حدد علم الاجتماع لتعريف مفهوم القبلية، مجموعة من المعطيات، تشرح تطور العلاقات بين البشر منذ القِدم. المُعطى الأول، هو البُعد العصبي لهذه المجموعات البشرية، بمعنى تعاضدها وتكاتفها، ويُبنى على وحدة المفهوم الثقافي، الهوياتي، أو ما يوصف بالإبستيميا Episteme، حسب نظرية ميشيل فوكو، الفيلسوف الفرنسي الشهير.
نُعَرِّف الإبستيميا، «مجموعة المفاهيم المُتفق عليها، والتي لم تعد مجالاً للنقاش». هي تلك المفاهيم والمعايير، التي اكتسبناها منذ الطفولة، والتي شربناها مع حليب أمهاتنا، هي مجموعة التقاليد والعادات، والانتماء الديني أو المذهبي.
هذا النوع من الثقافة الثابتة، يختلف عن الثقافة المُكتسبة، والتي هي نتاج التَّعَلُّم والمعرفة العلمية. نتيجة لذلك، فإن الفرد في هذا النظام الاجتماعي، مُغَيَّب لصالح المجموعة. الوحدة الأساسية للتركيبة الاجتماعية، هي إذاً «القبيلة» والتي تنظر دائماً إلى الماضي لإعادة تكراره، وهو ما يُسمى بالمجتمعات التقليدية المحافظة، وتفتقر نتيجة لذلك لأي رؤية مستقبلية.
مُقابل ذلك، فإن المجتمعات الحديثة، والتي تجاوزت البُعد القبلي، هي بشكل عام، تلك الدول والمجتمعات، التي تمكنت من بناء مفهوم المُواطن والمُوَاطنة، أي أن الوحدة الأساسية للمجتمع، هو «الفرد» ولكن بمفهومه التاريخي، أي ذلك الفرد الذي ظاهرياً، يقوم بتحديد قوانينه بنفسه، ويعمل لمصلحته الخاصة، بينما يَصُب ذلك بالحقيقة، بالعملية التاريخية المُشتَركة، لكل المجتمع، فهؤلاء الأفراد يصنعون التاريخ سوياً.
تنظر هذه المجتمعات، عكس المجتمعات القبلية، إلى المستقبل، وتتناسى الماضي، هي إذاً مجتمعات مشروعاتية، أي لا ترى الحاضر إلا من منظار المشاريع الموضوعة دائماً للمستقبل.

الإشباع والتبلور

من ناحية أخرى، فإن المجتمعات المحافظة، ذات النظرة التقليدية الثابتة، نحو الماضي (السلف، التقاليد..الخ) تتغير هي أيضاً بشكل بطيء غير ملحوظ، وهو ما يُفسر عدم بقاء الإنسان على حاله منذ آلاف السنين، يحدث هذا نتيجة التراكمات الصغيرة، والكثيرة المتتابعة، والتي تصل بالنهاية، لوضعية ما يُسميها عالم الاجتماع الأمريكي، من أصل روسي، بيتريم سوروكين، «بالإشباع» والذي يؤدي إلى تغيرات نوعية، للتركيبة الاجتماعية، ناتجة عن تبلور الأوضاع في اتجاه جديد، بسبب عامل داخلي أو خارجي، قد يكون صغيراً.
نظرية الإشباع والتبلور، تنطبق أيضاً على كافة المجتمعات بما فيها تلك الحديثة، فأي وضع ما، عندما يطول كثيراً، يؤدي إلى انفضاض الناس، وحتى دون سبب واضح، دافعهم البحث عن التجديد.
ما هي العلاقات التي تربط قبائل وأطراف المجتمع القبلي، حسب الباحثين بالأمر، فإن العلاقات بين هذه المجموعات البشرية، تُبنى على مفهوم القبلية الاجتماعية، أي المرتبطة بالوظيفة المُناطة بهذه المجموعة أو تلك، وهو ما يؤدي إلى تكاملها وتعاونها، وليس بالضرورة تصادمها، هنا نرى مثلاً، قبائل الرعي أو قبائل الصيد، المزارعين أو صيادي الأسماك، سُكان الجبال أو السهول، التمايُز إذاً، هو بنوع الوظيفة، وليس مبنياً إضطرارياً على عِرق أو لغة أو دين.
هذا ما كان عليه الوضع على ما يظهر في ليبيا والسودان، حتى وصول المستَعمِر الإيطالي من جهة، والإنكليزي من جهة أخرى، أو بشكل أقل وضوحاً، بدول شمال أفريقيا، قبل الوصاية والاحتلال الفرنسي.
تمخضت قريحة المستعمر، لإحكام قبضته على الشعوب المُستَعمَرَة، عن تحويل القبلية الاجتماعية الوظيفية، إلى قبلية عرقية. ورسم خطوطا على خارطته، ليُحدد لكل قبيلة مكاناً وموطناً، وهذا أدى عن طريق الزبائنية الاقتصادية، إلى إيجاد صراعات داخلية، مزقت هذه القبائل، على الأُسس الجديدة. وأوضح مثال على ذلك اختلاق المستعمر البلجيكي عِرْقَيْ التوتسي والهوتو بروندا وهما ينتميان لللغة والدين نفسيهما ويعيشون على الأرض نفسها.
كلمة «إثني أو إثنية» هي بالأصل غير موجودة باللغات المحلية، وتم إيجادها من طرف المُستعمر الأوروبي، حيث أنها ظهرت لأول مرة، عام 1896، في كتاب «انتقاءات اجتماعية» لعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي، جورج فاشير دو لابوج، حيث وسع مفهوم الأجناس (الانتقاء الطبيعي لداروين) من البيولوجيا إلى الأشياء الاجتماعية. بدوره قام الطبيب جورج مونتاندون، عام 1935 بتعريف الإثنية «كتجمع طبيعي، يحتوي على كل الصفات الإنسانية، بمعنى البيولوجية والاجتماعية» وذلك في كتابه، «الإثنية الفرنسية».
نحن إذاً أمام محاولة لإعطاء غطاء علمي، لوضع إنساني عنصري، وبأهداف السيطرة الاستعمارية.

الحس الوطني

رغم ذلك، فإن الحس الوطني الجامع، لهذه القبائل، لم يمنعها كما يريد المستعمر، من التمرد والنضال، من الحصول على الاستقلال. ولكن للأسف، فإن الأنظمة التي حكمت الدول حديثة الاستقلال، استغلت الإرث الاستعماري، عن طريق الاستمرار بمفهوم القبلية العرقية، لتتمكن هذه الأنظمة، البعيدة عن المفهوم الديمقراطي، من السيطرة كما كان عليه الوضع، زمن الاستعمار، وفي أحيان أكثر من ذلك.
نحن إذاً، أمام استعمالات مختلفة لمفهوم القبلية، تبدأ بالتوزيع الوظيفي والتكامل في سوق مشتركة، لا تمنع الأفراد من تغيير انتمائهم القبلي، إلى مفهوم التسابق لإرضاء المستعمر، وفيما بعد، إلى مفهوم دعم الأنظمة الاستبدادية، وذلك للحصول على امتيازات زبائنية.
ليبيا: النموذج الليبي مثلاً، والذي وضع القبيلة كنقطة ارتكاز للمجتمع، لم يمنع مدن مثل بنغازي أو مصراتة، أن تكونا مدناً متنوعة الأجناس والأديان، ومتسامحة وناشطة جداً على المستوى الاقتصادي، قبل قيام الدولة الوطنية.
قبائل المناطق الثلاث الليبية، والتي يزيد عددها عن مئة، وجدت وسائل التكامل فيما بينها. الاستعمار الإيطالي، ومن قبله البريطاني والفرنسي، هو من شجع الخلافات بين مكونات ليبيا الاجتماعية، ذاهباً في اتجاه تفعيل التناقضات العرقية والدينية واللغوية (عرب طوارق أمازيغ التبو). وقد استمر ذلك بعد الاستقلال 1951 عن طريق الزبائنية السياسية والاقتصادية، والتي تبناها الحكم الملكي، للحصول على شرعيته ودعم القبائل له، وهو ما أدى إلى تزايد التناقضات بينها، بهدف الحصول على حصص من الثروة والسلطة.
انقلاب مُعمر القذافي 1968 وإرسائه نظاماً شمولياً، لم يزيد الوضع إلا سوءاً، حيث أجج هذا النظام الجديد الخلافات القبلية، مُعطياً قبيلته الخاصة أكبر الامتيازات، ومستعملاً العـنف والزبائنية لإرضـاخ ما تبـقى.
في هذه الظروف الصعبة لعبت القبلية في بعض الأحيان دور الحامي لأبنائها.
التغيرات الديموغرافية بدورها لم تعدل الانتماء والولاء القبلي، فرغم أن نسبة سكان الأرياف للمدن قد انقلبت تماما لصالح المدن (من 45٪ عام 1964 إلى 85٪ عام 1995) إلا أن هؤلاء القادمين من الريف أو الصحراء قد حملوا معهم ولاءاتهم، وهذا ما نراه حالياً في النزاع المسلح بين المسيطرين على شرق البلاد أو غربها. (هذه الظاهرة واضحة أيضا في مدن عربية عدة مثل عمان في الأردن أو المدن الخليجية الحديثة).
السودان: وكنموذج آخر، السودان دولة ذات أعراق ولغات وأديان متنوعة، ولم تكن هذه القبلية عائقاً أمام قيام تكامل بينها، ففي دارفور مثلا توجد قبائل عربية، وهم بشكل خاص رعاة وتجار إبل، ويقومون تايخياً بدور التاجر الوسيط، بين قبائل دارفور، والدول الإفريقية الأخرى المجاورة. في المقابل كانت هناك، قبائل أخرى غير عربية، تعيش من تربية المواشي، وخصوصاً الأبقار (البقارة). كما في النموذج الليبي، فإن الْمُسْتَعْمِر، ومن بعده النظام الإسلامي الاستبدادي، لعمر البشير، من حَوَّل هذه القبلية الوظيفية، إلى قبلية عرقية ولغوية (يوجد لغات عديدة في السودان) مُشعلاً الحروب الداخلية، مؤدياً مثلاً، إلى انفصال جنوب السودان المسيحي، ومذابح دارفور. وما اعتماد السلطات الجديدة في السودان، أولوية حل النزاعات الداخلية، وإنهاء العنف المسلح، ونجاحها بذلك، إلا دليل على سطحية هذه الخلافات، وارتباطها بشكل وثيق بالسلطة.
من هنا فنستطيع القول، أن القبلية لم تكن لتمنع قيام حس وطني شامل، والدفع في اتجاه التحرر والاستقلال بصورتها الطبيعة الوظيفية، في المقابل فهي تُستعمَل دائماً بصورتها العرقية المختلقة من طرف المُستعمِر، للسيطرة الكاملة على السكان والثروات، وتُستعمل عن طريق الأنظمة الاستبدادية، الآتية بعد الاستعمار، لتمكينها من البقاء.
إنتقال جزء كبير من البداوة إلى المدن ساهم بانفتاح تلك الأخيرة وتحررها تدريجيا من قيود التقاليد. وكما رأينا، في ثورة شباب ليبيا عام 2011، وشباب السودان عام 2018، فهي لم تمنع ظهور ظاهرة الإشباع الاجتماعي، فكانت الثورة التونسية المجاورة، نقطة البلورة لذلك.

 كاتب ومحلل سياسي