إسرائيل وفن بناء الجدران

 إسرائيل وفن بناء الجدران

 

د. نزار بدران

كلنا نعلم، أن الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، ليس مقبولاً ولا مُعترفا به، من الشعوب العربية، فرغم اعتراف دول عربية عديدة، بهذا الكيان، الا ان التطبيع الاقتصادي والتجاري والسياحي، وشراء البضائع الإسرائيلية، ليس مرغوبا به بين أبناء الأمة العربية من قاصيها إلى دانيها.

أكثر من خمس وثلاثين عاماً من التطبيع الإسرائيلي مع مصر، ولا نرى أبناء الشعب المصري، يتهافتون لشراء تلك البضائع، هذا الرفض للوجود الإسرائيلي ناجم عن شعور أبناء الوطن العربي، بانتمائهم إلى أمة واحدة، ذات مصالح موحدة متكاملة، ووجود الحدود التي تمزقهم إلى قطع صغيرة، لا تمنع هذا الانتماء النفسي للأمة.

تدرك إسرائيل ذلك تماماً، وتعلم أن ضمان وجودها لمئات السنين، بحاجة لجدران عديدة وسميكة، تحيطها حتى تُبعد تأثير هذا الرفض العارم من الشعوب العربية لوجودها، وتحوله إلى قوة حقيقية، واقتصادية وسياسية وعسكرية، بناء الجدار الفاصل بالضفة الغربية، أو على الحدود مع الاردن أو حفر الخنادق مع لبنان، وبناء الأسوار مع مصر وسوريا، هو تعبير مادي مباشر عن هذا الخوف.

الجدران الحقيقية التي بنتها إسرائيل، والوحيدة ذات الفعالية والتأثير، هي تلك التي صنعتها بيننا، وفي معظم الأحيان بأيادينا. فكان أول جدار هو التجزئة العربية، والتي تقطع أوصال الأمة، وتمنع تطورها الاقتصادي والحضاري، هذا الجدار بنته الدول الراعية لإسرائيل، وبدأت بإقامته منذ عشرينات القرن الماضي.

الجدار الثاني هي أنظمة الاستبداد، التي تقمع أي تحرك شعبي ضد التجزئة، والعمل باتجاه الوحدة، فهي تُجاهد لإزالة المناعة الطبيعية للشعوب العربية نحو الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، فتارة تفتح الأسواق لبضائعها، وتارة تتبادل الزيارات، وأخرى تقوم بالتحالف معها، وحديثاً “تهذيب” مناهجنا الدراسية لحذف كل المضادات الحيوية الطبيعية من عقول أطفالنا.

الجدار الثالث هو ترعرع الطائفية داخل وخارج دولنا، فلم نبق سوريون، لبنانيون أو عراقيون، بل أصبحنا شيعة وسنة ويزيديين وعلويين وما إليه. هذا الجدار الأخير، يحول كل شعوبنا إلى مجموعات متناحرة متقاتلة، أخرجنا من المفهوم الحضاري الإنساني المعاصر، الذي كنا نتوق إليه. الإنسان في هذه الطوائف لم يعد له رأي أو شأن، بل أصبح أداة في أيدي المتسلطين عليه باسم الدين أو الطائفة، حقوقه مهضومة تحت شعار “الدفاع عن الطائفة والموت من أجلها”، وهنا حل فكر القطيع مكان فكر المواطنة.

الجدار الرابع هو التغلغل الفكري السلفي الغيبي، الذي ينفي أي حق أو استقلالية للفكر البشري، ويحولنا بذلك إلى أدوات سهلة الاستعمال، يمكن تفجيرها بعمليات انتحارية إذا اقتضى الأمر، أو يدفعنا لقتال من نعتبرهم كفاراً وأعداء الله، حتى لو كانوا أبناء الوطن نفسه, ويحول الانسان الى وسيلة عسكرية بدل ان يكون هدف كل شيئ.

هذه الجدران كلها، تحمي إسرائيل من النهضة العربية، وعودة الأمة إلى رشدها وانتمائها المشترك. وقد ادرك مفكرو الصهيونية، أن وجود إسرائيل كوجود نظام الفصل العنصري بجنوب إفريقيا، لا يمكن أن يعيش في جو ديمقراطي حضاري إنساني، حيث يتعايش الإنسان مع أخيه الإنسان، مهما كان لونه ودينه وعرقه، له نفس الحقوق ونفس الواجبات. يدرك هؤلاء المفكرون، أن انطلاقة شرارة الربيع العربي من تونس، قد حركت مارداً يجب القضاء عليه قبل أن يستيقظ كلية وبشكل كامل.

للأسف فهذه الجدران، من صنع أياد عربية، وبغفلة من شعوبها، وخصوصاً بغفلة أو حتى سكوتا من مفكريها، إن لم نقل في أكثر الأحيان، تقاعسهم عن دق ناقوس الخطر، فنحن لا نرى إلا من يكتب ويغرد ضد الربيع العربي، ولبقاء أنظمة التجزئة والاستبداد، والذين تحت وهم الحفاظ على السلم الاجتماعي، الذي دمرته الأنظمة، يحاولون أن يقنعوننا بالعودة إلى بيت الطاعة.

حان لأبناء الربيع العربي، في كل مدن وعواصم العرب، أن يستيقظوا من جديد، ليؤكدوا للعالم أننا لسنا بناة جدران الانعزال عن بعضنا البعض وعن الآخرين، بل دعاة للانفتاح والانضمام من جديد لكوكبة الحضارة. بهذا نكون قد بدأنا بناء أنفسنا، وأفسدنا على إسرائيل ومفكريها خططهم القديمة/الجديدة، لبناء مزيد من الجدران ومزيدا من الخنادق.

  غزة بين حق البقاء وحد الواجبات الملحة

24/07/2015الواجبات الملحة

وحدّ الواجبات الملحة

غزة بين حق البقاء

د. نزار بدران

تحل الذكرى الأولى للحرب العدوانية الإسرائيلية ضد قطاع غزة صيف العام الماضي، في وقت ما زال سكانه يعانون الأمرين؛ بعيدا من أمل الإعمار، والحد الأدنى من العيش الكريم. بينما انتصرت المقاومة بصدها للهجوم الإسرائيلي، وإفشال أهدافه بتدميرها أو استسلامها، ولكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها برفع الحصار، أو دفع العالم للتنديد به، والضغط باتجاه رفعه؛ لا من الغريب ولا من القريب، ولا حتى من أقرب المقربين. بل وزادت مصر إمعانا بحصار القطاع، وتدمير الأنفاق، في تنسيق واضح ومُعلن، وإن لم يكن مباشرا مع العدو الإسرائيلي.

نُدرك تماماً مصلحة إسرائيل في خنق القطاع، وندرك كذلك سكوت دول عديدة غربية على ذلك، تحت ضغط اللوبي الصهيوني، وقد نُدرك قليلاً مصلحة النظام المصري بالتواطؤ؛ فهو يقوم بالدور المُناط به، موضوعيا، وبتوجه واع ومدرك من قبله بالتواطؤ مع الساسة الإسرائيليين وداعميهم الغربيين ثمناً لدعم بقائه، واستمراره في خنق الربيع العربي.

ما ندركه ولا نفهمه، هو مصلحة الفلسطينيين بالاختلاف والاقتتال منذ سنوات، فالمنطق يذهب باتجاه التوحد أمام الاعتداء والحصار، وهو ما لا يحدث. فمنذ البداية كان مطلب الشعب الفلسطيني يتركز حول توحيد الصف، ولكن لا من مُجيب.

السؤال الذي لا يطرحه أحد؛ هو عن أهلية الطبقة السياسية الفلسطينية بكل أطرافها، لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية. فنحن الوحيدون وسط عالم النضال من أجل التحرر، الذي له برنامج سياسي وقيادات لا تتغير منذ عشرات السنين، وحدنا في العالم ما زلنا نبحث عن الاستقلال الوطني، في وقت نجح وينجح الآخرون في نيل الحرية والاستقلال وبناء أوطانهم.

قد يُخطىء الإنسان أو الحركة السياسية، مرة أو مرتين أو حتى ثلاثة، ولكنها في الأساس ينبغي لها أن تمتلك من الآليات ما يجعلها تصحح أخطاءها، أو تنجح في أحايين كثيرة، أما أن لا نرى إلا مجرد مسلسل أخطاء وكوارث، ولا نطرح السؤال الوجودي عن سبب ذلك، الكامن فينا نحن، وليس دائماً بسبب مؤامرات الآخرين، وقُدرة إسرائيل على حشد الدعم لصالحها، وتواطؤ الغير المُزمن معها، هذا منطق لا يستقيم وواقع الأمور على الدوام. لذا لا يكفي أن ترفع حركة أو حزب سياسي شعارات، وتضع سياسات، بدون أن تحدد سبل ووسائل تحقيق تلك السياسات والشعارات، وإلا أصبح ذلك لُغواً وخداعاً للناس.

النظام السياسي الفلسطيني للأسف وبكل أعمدته؛ بالضفة أو قطاع غزة، أو حتى بالخارج؛ وضع نفسه في موقع المغلوب على أمره، وأفقد نفسه مقومات وجوده المستقل، الأمر الذي يستوجب العودة إلى استقلالية قراره السياسي، بعيدا عن تدخلات إقليمية ودولية، لا تعرف ولا تريد أن تخدم سوى مصالحها.

إن استعادة استقلالية القرار السياسي والسيادي، تحتم أولا التأكيد على أهمية الاستقواء بالشعب الفلسطيني، وذلك عبر انتخابات حرة ونزيهة، والتي على ما يبدو تم نسيانها تماماً. واستعمال أسلوب الاستفتاء عند الحاجة، كما فعل رئيس الحكومة اليونانية مؤخراً في مواجهة أوروبا، وهذا ما لم نفعله أو نقدم عليه أبداً، خاصة وأن لنا مبررات مصيرية، هي بالقياس ربما تبدو أكثر أهمية من الأزمة الاقتصادية اليونانية، مثل أهمية الصراع والتناحر مع الاحتلال، ومآلات اتفاقيات أوسلو، أو اتفاقيات المصالحة الوطنية والتي وُقعت عدة مرات. وهذا ما يستوجب العودة للرأي العام الفلسطيني لطرح أي حل لمشكلة اللاجئين وحقهم الراسخ بالعودة إلى قراهم ومدنهم وحقولهم.

وثانياً بناء مقومات وجود اقتصاد وطني مستقل، يبتعد تدريجيا عن الارتباط مع الاحتلال، وليس فقط الاعتماد على دعم الداعمين الأجانب بشروطهم، وبناءً على أجندتهم ومصالحهم. وذلك عبر العمل على إقامة قواعد اقتصاد إنتاجي صناعي وزراعي، بدل اقتصاد الإستيراد لكل شيء، وتحويل الدعم المادي المقدم من الغرب بشكل عام إلى البنية التحتية الانتاجية، وليس فقط لدفع معاشات الموظفين وشراء السلع المستوردة.

وثالثاً العمل لوضع مقومات حماية هذا القرار السياسي، المُدعوم والمحصّن شعبياً واقتصاديا، وذلك عبر توجه برنامجي عماده تطوير مقاومة الاحتلال، وعزله عالمياً، وإظهار الفكر الصهيوني كفكر عنصري، وإسرائيل كدولة أبارتهايد. كذلك دعم كل الحركات الفلسطينية والعربية والعالمية العاملة بجهد لمقاطعة إسرائيل اقتصادياً وعلمياً، وهو ما بدأ يعطي ثماره حالياً بالغرب، وبدأ بزعزعة “التلاصق” الفكري والاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا, ونحن في أوروبا بدأنا نشعر بتضامن شعوبها معنا بشكل واسع.

على أن حماية القرار السياسي، تتم أيضاً عن طريق إعادة القضية الفلسطينية إلى حضن الأمة، وذلك بالتضامن مع كل حركات وحراكات الشعوب العربية التواقة للحرية والعدالة، وليس الإنجرار وراء أنظمة الاستبداد، كما فعلنا طوال الستين عاما الماضية. فهذه الأنظمة التي تُدمر مدنا على رؤوس سكانها، لا يمكن أن يُعول عليها لحماية الشعب الفلسطيني واستعادة حقوقه.

إن مراقبة الأحداث الجارية حولنا، والمُتغيرات السريعة والمتلاحقة، تفرض على شبابنا وطبقتنا المثقفة أن تبدأ بطرح وضع الحقوق الأساسية للإنسان الفلسطيني في المرتبة الأولى، قبل أي حق أخر: الحق بالعيش الكريم، الحق بالتنقل والعمل داخل وخارج وطنه، حق اللاجئين بالعودة إلى قراهم ومدنهم والعمل والتنقل في أماكن وجودهم الحالية، مع الاحتفاظ بحقوقهم المدنية المُتعارف عليها دولياً، والحق في التملك والبناء والتوريث، (وبشكل خاص بالنسبة للاجئي لبنان)، وحق المواطن الفلسطيني بانتخاب ممثليه، والحق في رفض العيش في أُطر فصل عنصري، والحق بالخروج والدخول إلى قطاع غزة والضفة ومخيمات اللاجئين، والحق بالحماية للمدنيين العزل في سوريا وفلسطين وغيرهما ومتابعة المجرمين. والحق في التعليم والصحة، وكل ما له علاقة بالحقوق الإنسانية الطبيعية, وليس تلك السياسية المُسجلة بلوائح القوانين الدولية، وهي مما ليست في حاجة إلى معاهدات جديدة، ولكنها في حاجة لمن يرفعها ويُدافع عنها بجدارة؛ ونموذج نلسون مانديلا بجنوب أفريقيا، أكبر دليل على نجاعة ذلك.

نأمل أن تكون هذه الذكرى هي الأخيرة لحصار أهلنا في غزة، وتعرضهم في شكل دوري للاعتداء والقتل والتدمير، ولن يتم ذلك إلا إذا استفاقت عقولنا، واتجهنا نحو الحفاظ على قيم الوحدة والحرية، والنضال من أجلهما.

طبيب عربي مقيم في فرنسا

حقوق المرأة العربية في مرآة ربيع الشعوب د. نزار بدران Aug 24, 2017 أثارت تصريحات الرئيس، الباجي قائد السبسي، بشأن حقوق المرأة التونسية بالمساواة بالإرث، وبحق الزواج بمن تشاء، وحتى من غير المسلم، ردود فعل عديدة في وسائل الإعلام المختلفة، كل أدلى بدلوه في شأن أولوية أحقية النص الديني أم العقل الإنساني بالإتـباع، وما إلـيه من نقـاش يدور في بلادنا، مـنذ أكـثر من 14 قرنـاً، ولم يُحسـم بعد. ما يهُمني في هذا المقال هو العلاقة الجدلية القائمة والمفترضة، بين حقوق المرأة بشـكل عـام في بلادنا، وحقنا كأمة بالتحرر من التخـلف الفكري، والأنظمة الاستبدادية والإنغلاق الديني. ولا يخفى على أحد، أن الربيـع العـربي الذي بدأ في تونس بنهاية عام 2010، لم يكن يرفع أي شعار ديني، وإنما الانتمـاء إلى الحضارة الإنسانية، عن طـريق الحصــول على الديمقراطية كنظام حكم، وأولـوية الإنســان التونسي والعربي، بتقرير من يحـكمه وكــيف؟. لم يكن هذا الحراك الشعبي، فقط رد فعل على موت البائع المتجول، أو مرتبطا بحدث مُحدد بزمنه، في بلاد الربيع العربي، بل كان تتويجاً لتطور اجتماعي عميق، بدأ منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وأدى إلى وجود طبقة مثقفة من الشباب، وحتى ولو كانت قليلة عددياً، لكنها لم تعد تقبل، مسلمات الماضي والتبعية للزعيم أو العادات والتقاليد والحكم العائلي والقبلي، بدأت المرأة في الانعتاق من الظلم الاجتماعي، رويداً رويداً، ودخلت المدارس ثم الجامعات، حتى أنها أصبحت تُشكل في كثير من الدول العربية، غالبية الطلبة في الكليات المختلفة. لم تعد تقبل أن تبقى قابعة في بيتها تنتظر الزوج، وتتأهب لإنجاب عشرة أولاد. (حيث مُعدل الإنجاب حالياً في الدول العربية، أصبح بالمستويات العالمية نفسها، إن لم يكن أقل من ذلك في أكثر من دولة). هذه التحولات الاجتماعية، ترافقت مع ثورة العولمة والأنترنت، فاستطاعت هذه الطبقة الوسطى الصغيرة، أن تتصل بالعالم وتتعرف على ما يدور خارج أسوار أوطانها العالية، الفاقدة سابقا لأي نافذة لرؤية الآخرً. لم تعد تقبل الاستمرار كما فعل آباؤها وأجدادها، بالتسبيح بحمد الزعيم، وانتظار المعجزات الدينية وإنجازات الحزب الحاكم. ووجه ذلك بسخط كبير وعنف أكبر، من قِبل الأنظمة المُستبدة على امتداد الوطن العربي، والذي أسال الدم في رابعة العدوية وحمص وحماة وحلب وعدن وصنعاء والمنامة وغيرها، ودمر مدناً بأكملها، فقد أظهر الحراك الشبابي حقيقة الأنظمة التي تحكمنا منذ عشرات السنين، وعدم أهليتها ولا بأي شكل من الأشكال، لحكم البلاد والعباد. في تحالف موضوعي غير مباشر توغل الإسلامويون المتطرفون، بعد موجة إسلاموية تبعت الثورات العربية، بهدف طمس أي فكر حداثي، ومحاولة بائسة للأنظمة لإنهاء الربيع بإغراقه بالطائفية والصراعات العقيمة والفكر المُتخلف، وهو ما نجحت به نسبياً، لأنها استطاعت أن تُثبت نفسها وتستعيد زمام المُبادرة في كثير من الأماكن. لكن الربيع العربي ليس فقط حراكا جماهيريا يقتصر على المظاهرات السلمية، وإنما تطور عميق للبيئة الاجتماعية، يستطيع أن يُطل برأسه بأشكال أخرى، مثل الماء الجارف، لا يمكن لشيء وقفه، ولو تم تحويل اتجاهه لفترة من الزمن. مُقترحات الرئيس السبسي في تونس، ولكن أيضاً تصويت البرلمان اللبناني، على إلغاء المادة 522 من قانون العقوبات الذي يعفي المغتصب من العقوبة في حالة زواجه من الضحية؛ بعد ضغط شعبي مدني كبير، وما حدث في السياق نفسه في الأردن، وقبله في المغرب بشأن إعطاء الجنسية، يدل على أن مفهوم الحداثة والحق الإنساني والفردي، يبقى مطلب الطبقة الواعية التي قادت الربيع العربي، وليس طبعاً مطلب عُتاة قوى الإسلام السياسي بكل أطيافهم، المعروض علينا بديلاً للأنظمة. لقد أثبتت المرأة الأردنية واللبنانية والمغربية والتونسية ونساء أُخريات كُثر، أنهن بحق معيار الحداثة والحقوق ورفع قيم الربيع العربي. لا يجب أن نرى ذلك كظاهرة مستقلة عن الأحداث الجارية منذ سبع سنوات، بل هو امتداد لها، نصف المجتمع المكون من النساء، أخذ وسيأخذ زمام المبادرة لإعادة الروح للفكر الثوري الحضاري، ودفع ظاهرة زحف الحداثة وعودة الارتباط، بين الأمة والحضارة الإنسانية، بما تعنيه من المساواة بين الناس، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو اللغة أو العرق، كذلك أولوية الشعب بتقرير التشريعات التي تحكمه، عن طريق أنظمة ديمقراطية منتخبة، حيث يُشرع البرلمان قوانين تتوافق مع روح العصر وحاجات هذا الزمن، وعودة شيوخ الدين إلى المساجد وابتعادهم عن السياسة بشكل كاملً، وإن تدخلوا فهو فقط لتوفير الغطاء الشرعي عند الحاجة لتشريعات البرلمان وليس لمنعها، وبهذا المجال، أعطانا مُفتي الديار التونسية الشيخ عثمان بطيخ، والشيخ عبد الفتاح مورو، المرجعية الدينية لحزب النهضة ونائب الرئيس، المثال والنموذج الذي يجب أن يُحتذى، عندما دعموا بشكل واضح مقترحات الرئيس السبسي، والذي للأسف لم تُنتقد إلا من أحزاب اليسار، التي عودتنا منذ بداية الثورات على التبعية للأنظمة وتبرير سيطرة الجيش، كما هو الحال في كل من مصر وسوريا. تحية إكبار لنساء تونس، ولكل نساء الوطن العربي، وقد رفعن بدورهن الراية عالياً لعودة الروح إلى المشروع الوطني. طبيب عربي مقيم في فرنسا

إيران وإسرائيل اختيار المواجهة أم التحالف القدس العربي ٢٢ أيار ٢٠١٨

لم يكن تراجع الرئيس دونالد ترامب، عن اتفاق سلفه أوباما النووي الإيراني، والذي شاركت به أيضاً مجموعة (5 + 1) عام 2015، المرفوض إسرائيلياً، إلا بهدف جر إيران لاتفاقيات جديدة، بشأن أسلحتها البالستية الصاروخية، وسياساتها الخارجية التوسعية بالمنطقة، وقد لمح الرئيس حسن روحاني بالموافقة على ذلك.
نحن إذن قد نكون على عتبة مفاوضات جديدة، ليس على البرنامج النووي، والذي لم يعد موجوداً، ولكن على موضوع جديد، هو السياسات الخارجية لإيران ونوعية تسليحها التقليدي.
برأينا أن النظام الإيراني لم يقرأ جيداً السياسة الأمريكية الإسرائيلية منذ البدء، وارتكب بذلك حماقات عدة، أدت إلى الوضع الراهن.

– أولا: هو أصلاً دخول إيران بمشروع نووي، في عالم تسيطر عليه قوى عظمى لن تقبل بذلك، وتُرينا التطورات الجديدة في كوريا الشمالية، وما سبق وحدث في ليبيا القذافي، وتفكيك ترسانة الأسلحة النووية لجنوب أفريقيا، المؤشر الأقوى والدليل الأبرز على ذلك.

– ثانياً: إن المال والجهد اللذين بُذلا لذلك، ذهبا أدراج الرياح، بدل تطوير البُنى التحتية للدولة الإيرانية، وتوفير فرص العمل لأبنائها ومحاربة الفقر، هكذا سياسة ما زالت مستمرة، عن طريق الحروب الخارجية المُكلفة، وخصوصاً بعد التراجع عن المشروع النووي، معمقة التناقضات الداخلية في إيران.

– ثالثاً: إن الظن بأن الاتفاق الموقع مع الدول الغربية والصين وروسيا بفينا، سيُعيد إيران إلى وضعها السابق، قبل البرنامج النووي، هو خطأ واضح، لأن أمريكا وإسرائيل، لا تهدفان فقط إلى إعادة إيران إلى نقطة الصفر، وإنما إلى أكبر مسافة ممكنة تحت الصفر، كما حدث مع صدام حسين في العراق.

– رابعاً، الاعتقاد بإمكان تطوير إيران، لبرنامج تسليح تقليدي وبالستي صاروخي، للتعويض عن المشروع النووي، وهو ما رأينا نتائجه في سوريا واليمن ولبنان، الاعتقاد أن هذا مسموح به، بنص الاتفاق النووي الإيراني، كان تصوراً خاطئاً. المُعضلة بنظام ديكتاتوريي الملالي، أنه لا يعي ما تخطط له إسرائيل وأمريكا لإيران على المدى الطويل، وهو العودة للتحالف مع إسرائيل، كما حدث زمن الشاه، مع أو بدون النظام الحالي.
لن يُفيد إيران شيئاً تحالفها مع روسيا، وأظهر بوتين تقارباً أكبر مع إسرائيل، وسكوتاً تاماً عن كل ما تفعله ضد إيران في سوريا، مليون مواطن روسي في إسرائيل، ومنهم وزير الدفاع الحالي، هم ضمان حلف قوي بين الدولتين.
أما التواجد العسكري خارج حدودها لدولة مثل إيران، بدون حلفاء أقوياء يدعمونها، هو مصيدة لتشتيت قواها، وإهدار طاقاتها، وليس عنوان قوة.
إسرائيل وأمريكا تضعان سياسات للتنفيذ التدريجي، وليس حلولاً لمشاكل تعترضهما في المنطقة، وهما تُغيران الواقع ليتناسب مع سياساتهما بالهيمنة، وأي اتفاق يوقعانه، هو ضمن هذا المفهوم والإطار، لهذا لم يؤد أي اتفاق بين إسرائيل مثلاً والفلسطينيين، إلا إلى ضياع أكبر لأراضيهم وحقوقهم، ولم يحل لهم أي مشكلة. الاتفاقيات بالمنظور الأمريكي الإسرائيلي، هي وسيلة لتنفيذ سياسات مرسومة مُسبقاً، وليس لحل أي إشكالية مع أي طرف.
ليس المطلوب حل مشكلة البرنامج النووي أو البالستي الإيراني، كما يتصور النظام، والذي لن يُسمَح بهما مطلقاً، وإنما كما تُخطِطُ له سياسات نتنياهو، الارتماء بأحضان إسرائيل، والمشاركة بحصار الوطن العربي، خصوصاُ بعد اندلاع حركات شعبية واسعة، والرفض الدائم المستمر للشعوب العربية للانفتاح وتقبل إسرائيل والتعامل معها، وما يُشكله ذلك من خطر وجودي، ولو بعيد المدى لهذا الكيان.
المطلوب إذن أن تقبل إيران بهذا التحالف كثمن لرفع الحصار، وهذا ليس بالمستحيل، عندما نرى كيف تتصرف الأنظمة الديكتاتورية الفاقدة للشرعية الشعبية لاستمرار وجودها، فهي مستعدة لأي شيء حتى تبقى بالسلطة، كما حصل سابقاً مع معمر القذافي، حين تخلى عن برنامجه النووي بعد الحرب العراقية، وكما نرى هذه الأيام، ما يفعله الرئيس الكوري الشمالي، من انقلاب تام بسياساته والاتجاه نحو التحاور مع أمريكا، بعد كل هذا الصخب النووي والتهديدات لأمريكا، والتي كانت مبنية على إمكانية حقيقية، وليس وهمية كإيران.
لا يجب أن نستبعد إنقلاباً بالسياسة الإيرانية في نفس الاتجاه، للحفاظ على الملالي بالسلطة، وخصوصاً وأن الشعب الإيراني، بنسائه ورجاله، أظهر معالم واضحة، من خلال عدة حراكات شعبية، للتخلص من هكذا نظام.
وحدها الأنظمة الديمقراطية من تكون عصية على التبعية والشراء، لأنها تُعبر عن إرادة حقيقية للشعب، ولا تسعى للبقاء بالسلطة كهدف بحد ذاته. إزاء مثل هذه الأنظمة لا تستطيع الشعوب الحرة، سوى التصدي لسياسات إسرائيل وأمريكا، وذلك هو الهدف وليس البحث عن حلول لمشاكل وهمية.
لكن الأنظمة الاستبدادية لا تقوى إلا على شعوبها، وهي لينة بيد الأعداء والأنداد، وهذا ما أتوقع حدوثه مع ملالي إيران.

قطر ووهم النجاح الاقتصادي والاستقلال

قطر ووهم النجاح الاقتصادي والاستقلال

نزار بدران

الحصار الذي تفرضه السعودية، ومن دار حولها على قطر، قد يكون له أسبابه، معلنة أو خفية، وقد يكون أيضاً، وسيلة للوصول لأهداف لم تستطع السياسة الهادئة تحقيقه، نذكر منها مثلاً، الرغبة بإحكام السيطرة على وسائل الإعلام الخليجية، وقد يكون أيضاً الانتقام من الدولة العربية ألوحيدة التي لم تقف ضد الربيع العربي بتونس أو مصر عام 2011.

ولكن التغييرات التي حدثت بالسياسة ألقطرية بعد تراجع الربيع العربي، وتقدم الثورة المُضادة بقوة، كان يجب أن يشفع لهذه الدولة، فالأمير ألأب قد أُخرج من المسرح السياسي، وقناة الجزيرة الحرة، لم تعد كما كانت، والرأي والرأي الآخر، لم يعد شعاراً يُناسب توجهاتها، وقد أحجمت تماماً عن انتقاد الحرب السعودية باليمن، وخصوصاً الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان بتلك الحرب، والتي أشارت إليها تقارير عدة لمجلس حقوق الإنسان، ومنظمات غير حكومية عديدة.

انحازت قطر الحاكم الجديد الإبن للسعودية، بالواقع والملموس، فلماذا هذا الهجوم وهذا الحصار، حتى موقفها من إيران، لا يُبرر برأينا ذلك، فقطر شاركت إلى جانب السعودية بالحرب على الحوثيين، حلفاء إيران وذراعها باليمن، موقف قطر من الإخوان المسلمين وحماس، أصبح متذبذباً، وفقد من صلابته السابقة، كما حصل بتركيا.

ولكن لو ربطنا زيارة ترمب، ومئات مليارات الدولارات، التي حصل عليها من دول الخليج، وخصوصاً السعودية، مقابل حماية أنظمتها من ربيع مُحتمل، قد يكون هو السبب الحقيقي. فقد يكون الحكم بقطر، قد رفض الانصياع التام، لدفع الجزية المفروضة، لاعتقاده أن له حصانة شعبية محلية وعربية وعالمية. موقف ترمب الداعم للسعودية أولاً، بتغريداته المُتعلقة بربط قطر بالإرهاب، قد تسير بهذا الاتجاه، على قطر إذن أن تدفع الكثير كغيرها، لسيد المنطقة، وإلا فلا مستقبل لها.

التهديد المفاجيء والغير متوقع لقطر، يضع اقتصادها ومستقبلها بمهب الريح، وكل ما بنت وعمرت، ومليارات الدولارات المصروفة، لبناء اقتصاد متنوع، أو المُبذرة (98 مليار) للتحضير للالعاب الأولومبية وغيره.

هل تستطيع حقاً دولة كقطر، أن تبني وتنجح، بشكل دائم ، وهل هناك شروط لم تتحقق بالنموذج القطري لاستمراريته. أظن أن التجمعات الاقتصادية العالمية الكبرى، لم توجد عفواً، ولكنها كانت الوسيلة لحماية الدول المشاركة، من خلافاتها الداخلية أولاً، ومن التهديدات الخارجية ثانياً، اقتصادياً كانت أو عسكرياً، لذلك نجح تجمع الاتحاد ألأوروبي بتأمين السلم والأمن والتضامن الداخلي، وحماية نفسه من أطماع الدول الكبرى الأخرى.

لماذا لم ينجح مجلس التعاون الخليجي، كما نجحت أوروبا، ولو على مستوى أقل بكثير، ولماذا لم يحمي المجلس قطر، وتحول بالعكس، إلى خطر وُجودي لها. السبب هو أن التجمع بنفسه لا يكفي، فهو يجب أن يُبنى على أُسس ديمقراطية، تضع مصلحة شعوبه أولاً بالمنظار، هذه البُنية الديمقراطية، توفرت بأوروبا، وانعدامها كان سبب زوال حلف وارسو الشيوعي على عظمته، هي ليست متوفرة بدول المجلس، والتي لم تُقيم تجمعها، إلا بهدف حماية الأنظمة المُشكلة لها، وليست حماية هذه الشعوب، من الأخطار الداخلية والخارجية.

لن تستطيع أي دولة عربية حقيقة، أن تبني نفسها بمنأى عن الدول الأخرى، ولن يستطيع أي تجمع عربي، اقتصادي أو سياسي النجاح، إلا إذا بُني على أُسس ديمقراطية.

المثل اللبناني واضح بذلك، فتلك الدولة، والتي بناها الرئيس رفيق الحريري، عى مدى عشرين عاماً، بعد انتهاء الحرب الأهلية، دمرتها إسرائيل عام 2006 بشهر من الغارات الجوية، وأطاحت بكل نجاحات الحريري والشعب اللبناني الاقتصادية رغم أن الرئيس الحريري، لم يكن معروفاً عنه عداءه الشديد لإسرائيل أو الغرب، بل كان صديقاً لأمريكا وأوربا الحميم.

لن يحمي قطر أو لبنان أو غيرها، إلا تجمعات عربية ديمقراطية، تستطيع أن تدافع وتحافظ على إنجازاتها، وتمنع الخلافات العقيمة بينها، فمثلاً لا يُتصور أن يعتدي أحد على البرتغال، أو حتى إمارة موناكو أو لوكسمبورغ بأوروبا، مهما كانت هذه الدول صغيرة، ولا أحد يستطيع يوماً، الاعتداء على هونج كونج الصينية، أو أي مدينة بالهند.

التكامل الاقتصادي والسياسي للدول العربية، وبناء أنظمة مبنية على الديمقراطية والخيارات الشعبية ولصلاحها هي الوحيدة ألكفيلة بحماية الانجازات الاقتصادية وغيرها، وتمنع كائن من كان من التفكير بالاعتداء عليها، أو على أي عضو منها.

الهجمات الغربية في سوريا عقاب أم رفع عتب؟ د. نزار بدران Apr 17, 2018 القدس العربي

الهجمات الغربية في سوريا عقاب أم رفع عتب؟

د. نزار بدران


Apr 17, 2018

الهجمة الأمريكية بمشاركة أوروبية ضد المنشآت السورية المشتبه بها بتصنيع الغازات الكيميائية، هي أقرب لعملية رفع عتب أمام الرأي العام الغربي، من عقاب وردع حقيقيين للنظام السوري.
الواقع الإنساني منذ سبع سنوات، يبرر لشدة فظائعه، تدخل الدنيا كلها لوقف من قتل المدنيين بمئات الآلاف وهجر شعبا بأكمله، ودمر مدنا لها تاريخ منذ آلاف السنين، ولكن الذهن الرسمي الغربي لا يتحرك إلا عند نوع واحد من الإجرام، وهو فقط ما يحرك ذاكرتهم التاريخية، ويعيد لمخيلتهم أهوال الحرب العالمية الأولى، أي أهوال إستعمال الغازات السامة في ذلك الحين.
في المقابل فإن الحرب في سوريا تركت بالذاكرة السورية أهوال البراميل المتفجرة والتعذيب حتى الموت، وتجويع السجناء وعودة صور الهياكل العظمية بالآلاف. بالإضافة للموت المتكرر بالغازات السامة وصور الأطفال الموتى وتعميم اغتصاب النساء كسلاح..
لا ترى أمريكا وأوروبا، ولا تتحركان إلا في مواجهة من يحرك ذاكرتهما ومشاعرهما الآتية من تاريخها، لا لما يقوله الواقع اليومي للشعب السوري..
ليس لنا إذن أن ننتظر شيئا من هؤلاء، ولكن تعاسة الموقف الغربي الرسمي لا يعني أن ذلك يعبر عن الرأي العام، والعمل الدؤوب لديه هو أفضل وسيلة للضغط على المواقف الرسمية.
وحده صمود الشعب السوري بإنتظار المعجزة من سيغير المعادلة، المعجزة هي سقوط النظام الإيراني، وهذا الشعب علمنا أنه وإن تحمل الظلم؛ إلا أنه لن يقبل أن يبقى محكوما من الملالي، وله تاريخ ثوري عريق منذ إسقاط النظام الملكي إلى الثورة الخضراء عام 2009، والأحداث الأخيرة قبل ثلاثة أشهر.
المعجزة الأخرى هو تغير الوضع في روسيا، وظروف سقوط الإتحاد السوفييتي الذي لم ينتظره أحد، بدأت تجتمع من جديد من سباق التسلح المكلف مع الغرب، كما بزمن نهايات الحرب الباردة أو الحروب الخارجية كما حدث في أفغانستان وسقوط الحكم الشيوعي السوفييتي بوحل هذه البلاد، كما يحدث الآن في سوريا إضافة للفشل الاقتصادي وتوغل حكم المافيا.
وأخيرا معجزة الصحوة العربية الشعبية، وإن كان ذلك حاليا بأجواء الثورات المضادة المفرطة بالعنف، مستبعد الحدوث في وقت قريب، بسبب تكالب قوى الاستبداد العربية والعالمية، وغياب أي دعم من القوى الديمقراطية، إما بسبب ضعفها أو ضغط اللوبيات الصهيونية، فنحن نعلم أن إسرائيل ليس لها أي مصلحة بتغيير الأنظمة العربية حليفتها الأولى. ودعمها للانقلاب العسكري في مصر أوضح دليل على ذلك..
ومهما ازداد الظلام فهو لا يمنع ظهور الفجر، وخصوصا فجر المفاجآت المنتظرة، كما رأينا بكل مناطق العالم؛ من سقوط الأنظمة الشيوعية في آسيا وأوروبا الشرقية، أو العسكرية في أمريكا اللاتينية، أو حكم البيض العنصري في جنوب أفريقيا.

كاتب عربي مقيم في فرنسا

معايير الحضارة وحلم فيكتور هيجو نزار بدران

نشر بالعربي الجديد 21/01/2017

 

معايير الحضارة وحلم فيكتور هيجو

نزار بدران

 

قد يظن البعض أن الحضارات تتطور فقط بفعل الإنسان كفاعل مباشر وحيد، وذلك عن طريق التقدم العلمي أو الاجتماعي وغيره من الأنشطة الإنسانية النبيلة، ولكن الحقيقة أن هذه الأنشطة، هي نتاج للفعل الحضاري وليست سببا له. أسباب الحضارة أو شروطها، قد حُددت من قِبل المؤرخين، وخصوصاً من اهتم منهم بالتاريخ الشامل، أو ما يُسمى التاريخ طويل الأمد، والذي وضعت اُسسه في النصف الأول من القرن العشرين.

هذه الشروط لم توضع اعتباطياً، وإنما بعد دراسات تاريخية موثقة، عن كيفية إنشاء وإنتهاء الحضارات. وقد نذكر أن أول من اهتم بهذا الأمر، كان ابن خلدون، خلال القرن الرابع عشر الميلادي، عندما حدد أسباب نشوء وانهيار الأمم والإمبراطوريات.

مثل هذه الأبحاث والتحليلات التاريخية، ليست وُجهات نظر المؤرخين، وإنما هي حقائق علمية، ُثبت بالدراسة تكرارها، مما أكد حقيقتها. يذكر مؤسس التاريخ الشامل فيرنان بروديل، وهو الدارس للحضارات المتوسطية ومرجعيتها بالعالم، أن نشوء أي حضارة استوجب ثلاثة شروط، وهذا ينطبق على الإمبراطورية الرومانية والإسلامية وغيرها في الشرق الأقصى وباقي العالم.

أولى هذه الشروط، هو وجود أرض شاسعة واسعة متكاملة ومتناسقة، الشرط الثاني، هو وجود أناس بعدد كاف يسكنون هذه الأرض ويعملون بها، تجمعهم قواسم مشتركة، وثالثها مرور فترة زمنية كافية من السلم، حتى تستطيع شعوب هذه الأرض أن تبني حضارة مشتركة. هذه حقيقة أشياء بسيطة ومنطقية، ولا نحتاج لجهد كبير حتى نُقنع بعضنا بصوابها.

الآن لو أردنا تطبيق هذه الشروط على أوضاعنا العربية، لوجدنا أننا قد قمنا بأيدينا بإنهاء كافة هذه الشروط وتدميرها، وكأننا لا نريد أن ننتمي لأي حضارة، ولا نريد أن ينشأ عندنا أي مستقبل لأبنائنا. نحن في الوطن العربي لنا أرض شاسعة، متناسقة ومتكاملة وتحوي ثروات متنوعة، من المعادن والزراعة والماء والشمس والهواء وغيرها، ولكن هذه الأرض قُسمت إلى 22 قطعة، مُحاطة بحدود لا يستطيع حتى الذباب تجاوزها، بدون إذن وفيزا، وكأن هناك من يريد أن يمنعنا من الخروج من الأقفاص التي وُضعنا فيها.

عندنا أيضاً الشرط الثاني، أي الشعب الكبير العدد، والمتناغم اللغة والعادات، وأغلب الأحيان المُعتقدات، 400 مليون مواطن، ولكنهم قُسموا إلى شعوب وقبائل مُتنافرة، لا تستطيع الاتصال بفعل الحدود، بل تتقاتل فيما بينها، داخل أقفاصها الضيقة، لتأكل الفُتات. ولتثبيت هذه الحدود، وهذه الصراعات الداخلية، أوجدنا لأنفسنا حكومات وسلطات لا يهمها إلا نفسها، وتتصرف كأن الوطن الصغير لكل شعب، هو ملكها الخاص، تُغلق عليه كل النوافذ والأبواب.

الشرط الثالث للحضارة، وهو الفترة الطويلة للسلم، لست بحاجة للكتابة عنها، فنحن لم ننعم من أكثر من قرن بيوم واحد من السلام، فإما حروب بين هذه الدول المشكلة للأمة، وإما قمع عنيف لحراك جماهيرها، أو قتال مع الجيران، كما رأينا في الحرب بين العراق وإيران.

تتوفر إذن للأمة كل شروط الحضارة، ولكنها دمرتها بأيديها، وقد نقول أيضاً بسبب الاستعمار وتدخل إسرائيل والقوى الأخرى، ولكن هذا التدخل ما كان ليحصل، لو حققنا شروط الحضارة فيما بيننا، بدل التقاتل والتجزئة.

لو أخذنا مثال أوروبا، فسنرى أن الاتحاد الأوروبي، حقق الشروط اللازمة لبناء حضارة عريقة، فهناك الأرض الشاسعة، حتى ولو كانت أقل ملاءمة وتكامُلاً من الأرض العربية، وهناك 500 مليون مواطن، حتى لو كانوا أقل تناغماً وتشابهاً من الشعوب العربية، فهؤلاء يتكلمون لغات عديدة، وينتمون لحضارات مختلفة، ولكنهم أمنوا لأنفسهم الشرط الثالث: أكثر من سبعين عاماً من السلام الداخلي الدائم، بعد أن قسمتهم ودمرتهم الحروب العالمية الأولى والثانية وما سبقها، 1000 عام قبل تلك الفترة، لم تعرف أوروبا يوماً واحداً من دون حرب.

الولايات المتحدة الأمريكية، أمنت نفس الشروط الثلاثة، من شعب كبير 320 مليون، على أرض شاسعة وشعوبا مختلفة عرقياً ولغوياً، ولكنها تعيش بسلام داخلي منذ عشرات السنين. قد نرى الشيء نفسه إزاء الهند أو الصين الحديثة أو إزاء البرازيل.

لن نستطيع حقاً بناء أي حضارة، كل على حده، وداخل أقفاصنا الصغير، حتى لو امتلكنا البترول والذهب والفضة. لن نستطيع بناء شيء ذا معنى، إلا إذا جمعنا أرضنا بأرض واحدة، وشعوبنا بأمة واحدة، وإنهينا حروبنا الداخلية العقيمة، وأسسنا للسلم الداخلي، الدائم والطويل، المبني على العدل والمساواة بين الناس، مهما كانت طوائفهم ولغاتهم وأعراقهم.

الأوطان المُتحضرة الحضارية، تُبنى بسواعد أبنائها، خصوصاً الذين يُوفرون لها شروط نجاحها، كما فعل غيرنا رغم حروبهم السابقة، فنحن لنا الأرض الواسعة، التي باركها الله، ولنا أمة واحدة كبيرة، حتى لو اختلفت أديانها وأعراقها ولغاتها، وننتمي لحضارة واحدة، كانت في السابق قد حققت هذه الشروط الثلاثة، فمتى ستنتهي حروبنا الداخلية وصراعاتنا، التي لا تخدم إلا أعداءنا؟.

ولنذكر بالحلم الأوروبي لفيكتور هيجو، مؤلف “البؤساء” في خطابه أمام مجلس السلم العالمي بباريس، عام 1848، أي قبل أكثر من قرن قبل بناء الاتحاد، والذي تلته وسبقته حروب ضروس بين هذه الدول. قال الشاعر والكاتب العالمي، وأمام سُخرية البعض من الحضور: “إنكم تقولون اليوم وأقول معكم، كلنا هنا نقول لفرنسا وإنجلترا ولبروسيا وللنمسا ولإسبانيا وإيطاليا وروسيا، نقول لهم: سيأتي يوم تسقط فيه الأسلحة من أيديكم، يوم ستبدو فيه الحرب سُخف، وستكون مستحيلة بين فرنسا وبريطانيا، وبين سان بترسبورغ وبرلين، وبين فيينا وتورينو.

سيأتي يوم، لا تكون هناك ساحات قتال، وإنما أسواق مفتوحة، للتجارة وعقول تتفتح للأفكار، سيأتي يوم تُستبدل فيه القنابل والرصاص، بالانتخابات وبالإقتراع، بالتحكيم المُحترم لهيئة مُستشارين عُظمى، تكون بالنسبة لأوروبا، مثلما هو البرلمان بالنسبة لإنجلترا والمجلس التشريعي لفرنسا.

من هنا فإن هدف السياسة العظيمة، السياسة الحقة، هو الاعتراف بكل الجنسيات، وإعادة إحياء الوحدة التاريخية بين الأمم، وجمعها كلها في حضارة واحدة، هي حضارة السلام، جماعة حضارية واحدة، تُضرب مثلاً للأمم التي لا تزال بربرية متوحشة، ليكون للعدل الكلمة العليا والأخيرة، التي كانت في الماضي للقوة”.

تحقق حُلم فيكتور هيجو، بعد قرن من خطابه، وبعد ملايين القتلى الذين سقطوا في الحروب العالمية بالقرن العشرين. هل نستطيع بأمتنا العربية، أن نوفر علينا هؤلاء القتلى، وهذه السنين الضائعة؟.

فدوى سليمان زهرة الشعراء

نشر بالقدس العربي

د. نزار بدران

Sep 04, 2017

فدوى سليمان تذهب قبل الأوان، وتتركنا كالأيتام، صدحت بأغاني الثورة وكتبت أرهف الأشعار. هي التعبير الأقرب إلى النقاء في زمن معتم، وظلامها الساطع لم يمنعها من رؤية الأمل وضوء الشمس القادم، جمعت الشعب السوري بمظلة المحبة والود، جمعت أبناء وبنات الشام، لم تفرق بين طرطوس ودمشق أو درعا واللاذقية.
لم تهجر حمص، ولكنها أبعدت عن جسدها الرقيق لون دم الذين سقطوا تحت زخات رصاص الغربان الباحثين عنها بين أنقاض المدينة.
لم تأت لاجئة لفرنسا، بل لتحكي أملها وصورة سوريا المقبلة، وهو ما فعلت لآخر لحظة في حياتها.
إيمانها بانتصار المحبة بين أبناء الأم الواحدة، لم يضعضعه ضجيج سكاكين الذبح، ولا شلال الدم السائل، ولا موت الأطفال خنقا بالغازات الكيميائية.
ماتت فدوى وتركتنا ثكالى، ماتت ولكن لن تموت كلماتها ولا قصائدها،
لها منا هذه القصيدة (الهدية) فهي زهرة الثورة الحمراء القانية النقية الباقية حية بعيون أطفال سوريا المبهورين بصورة البدر بعيونها، وقلوب كل عشاق الأزهار. القصيدة كتبتها سهى بدران وهي مترجمة عن اللغة الفرنسية:

الزهرة الحمراء

أنت يا زهرة الحدائق الضائعة
حمراء قانية كالدم السائل على الثلج
يا ابنة الياقوت أيتها الجوهرة الصخرية
يا من تلمعين كالشمس مثل نار أسطورية
كنت تعطرين أمسيات ليالي الشتاء الباردة
وكأننا نتجول بأروقة حديقة سماوية
تستريح الملائكه على بتلاتك المخملية ليلا
لتصحو وتشرب ندى الصباح
أيتها الزهرة الحمراء
أتيت من عالم تتعطر فيه النساء بماء ورد البرتقال
وتلون الآلهة خديها بالزهر لتقترب منك
يا زهرتي الحمراء
يا من ترعرعت وتفتحت تحت نور نجم ساطع
بفضله ما استطاع الضباب أن يحجب ظل القمر
من تجرأ على قطفك
أنت يا زهرة الشعراء والمحبين والحالمين؟

مؤتمر فلسطيني الخارج والشتات المنسي

 

نشر بالقدس العربي بتاريخ 20/03/2017

مؤتمر فلسطيني الخارج والشتات المنسي

نزار بدران

 

كانت منصة اسطنبول لفلسطيني أللجوء فرصة مواتية للتذكير بان اكثر من نصف الشعب الفلسطيني متواجد بالشتات، خصوصاً الدول العربية المحيطة بفلسطين. حق هذا الجزء المهم، بالمشاركة بالمشروع الوطني، والذي كان عنوان المؤتمر، شيء لا يحتاج للتفصيل والتحليل، والتاريخ النضالي ألفلسطيني منذ عشرات السنين، يُظهر اهمية التكامل بين الداخل الفلسطيني، والخارج المُهجر.

تناسي اتفاقيات أوسلو، وما تلاها من تفاهُمات مع إسرائيل لحق هذا الجزء بالعودة لوطنه، بشكل لا لبس فيه، هو من ادى الى تمزيق الجسم الفلسطيني، بين المتواجدين داخل حدود أوسلو وحُلم الدولة القادم، والقابعين خارجة وكابوس البقاء بالمخيمات للأبد.

فقط الجزء المتواجد خارج الدول العربية حالياً، أي بأوروبا والأمريكيتين، بشكل أساسي (أقل من 700 الف)، هم من يستطيعوا أن يُعلنوا تمتعهم بحقوق إنسانية عادية.

أكد المؤتمر ببيانه ألنهائي على بعض الحقائق ألتاريخية لسنوات الستينات، أي الشعارات المؤسسة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويُطالب بشكل واضح بالعودة لهذه القيم المفقودة.

إننا نتفهم كل ذلك، ولكن العودة للماضي، لا يمكن أن يكون طريق المستقبل لأسباب عدة، أهمها أن العالم من حولنا قد تغير بشكل جذري منذ ذلك الزمن، والذي كان صراع الشرق والغرب والحرب الباردة، هو شعاره الأساسي، وكذلك النضال الوطني بدول عديدة للخروج من الاستعمار.

هذا التغير المستمر، تسارع بشكل مُذهل في السنوات القليلة الماضية، فانهار الاتحاد السوفيتي، وانتهت الحرب الباردة، وانتقل العالم في الخمسة والعشرين سنة ألأخيرة من مُحاربة الاستعمار والإمبريالية، إلى محاربة الاستبداد والظلم ألداخلي لهذه ألأنظمة التي أتت زمن الحرب الباردة. تحررت قارات بأكملها، مثل أمريكا اللاتينية من حكم العسكر والأنظمة الشمولية، وكذلك دول شرق أوروبا وجنوب أفريقيا ودول عديدة بآسيا.

عندما ندعي طرح فكر جديد، يجب على هذا الفكر، أن يتلاءم مع المرحلة الحالية، أين نحن من الحروب التي تشنها أنظمة عربية على شعوبها، بدل أن نُعلن حيادنا التام، وكأن قتل السوري بحلب، أو الفلسطيني بمخيم اليرموك، لا يوازي قتل الفلسطيني بالقدس.

أين موقف المؤتمر من ألجماهير التي يدعي تمثيلها بالخارج، مخيم اليرموك الذي دُمر على رؤوس أهلة اللاجئين الفلسطينيين، وهُجروا إن لم يُقتلوا، إلى لبنان والأردن، أين نحن من فلسطينيي العراق، الهائمين على وجوههم من العنف الطائفي، أين حقوق الفلسطيني منذ أكثر من ستة عقود بلبنان، والممنوع من أقل أسباب الحياة.

مؤتمر الشتات، كان عليه أن يذكر مآسي الفلسطينيين في الشتات ، وهم اللذين سيكونون جيش التحرير.

الربيع العربي والذي وُوجه بالحديد والنار، من الأنظمة التي نُهادنها، هو صوت شبابي يبحث عن الحرية ودفع الاستبداد، أين هم الشباب بقيادة حراك فلسطيني الخارج، وأفكارهم الخلاقة، والتي بكل تأكيد، لن تختلف كثيراً عن أفكار أقرانهم بالوطن العربي.

لا يكفي أن نُطالب بالعودة، خمسين عاماً للوراء، حتى نجد حلولاً لمشاكل الشتات والداخل الفلسطيني، بل علينا أن نندمج بالمرحلة التي يعيشُها العالم حالياً، ونتفاعل مع آلام وآمال أمتنا العربية، وليس النأي بالنفس كما نفعل منذ البدء.

الفكر الجديد بحاجة لأناس جُدد، ولا يمكن أن يكونوا إلا من شباب الشعب الفلسطيني، والذي يُعايش يومياً، مآسي التشرد بدولنا ألعربية كما نرى بلبنان حالياً مع مخيم عين الحلوة، دافعاً البعض للمقامرة بحياته، للحاق بدول الشتات الأخرى الأبعد، ولكنها الأرحم.

 

 

 

 

حوار بانا الحلبية وآنا الروسية

نشر بالقدس العربي بتاريخ 21 ديسمبر 2016

حوار بانا الحلبية وآنا الروسية

 

نزار بدران

 

لم تبك بانا، تلك الطفلة الحلبية الصغيرة، ذات السنوات السبعة، وهي تخبرنا بأن رسائلها القصيرة اليومية ستتوقف، وأنها مع أمها، قد تُقتلان قريباً، وأن ألعابها قد أُحرقت. لم تبك بانا لأنها أدركت بحسها المُرهف، أن لا أحد سيأتي لإنقاذها وإنقاذ أمها وأهل حلب، لم تبك لأن البكاء، هو علامة استجداء، وهي لم ولا تريد أن تستجدي من لا يملك الشعور والإحساس الإنساني. قُتل أهل حلب وهجروا، وقد تكون قد قُتلت مايا مثل مئات من ألاطفال السوريين.

 

لم تبك آنا أخماتوفا، الفتاة الروسية الشاعرة، وهي تحت الحصار بمدينة ليننغراد، المُدمرة والمحاصرة من قبل الألمان، قبل مغادرتها لها، وقد رأت جثث الأطفال الذين ماتوا جوعاً حولها، بل كما فعلت بانا الحلبية، أخذت قلمها وبدأت بكتابة قصيدة قبل ان تتحرك روسيا. قالت فيها:

 

أنت التي لم تصبحي قبري

يا مدينة الجرانيت مدينتي الجهنمية الغالية

أنت شاحبة ومجمدة وصامتة

وداعك ليس إلا وهماً

وإنفصالي عنك مستحيل

ظلي على حيطانك

صورتي فوق مياه قنواتك

ووقع خطواتي عالقة داخل صالات متحف الهيرمتاج

بينما روسيا تنظر وهي تعض شفتاها باتجاه آخر.

 

ليننغراد الروسية، دُمرت على أيدي الألمان، وفقدت أكثر من مليون قتيل مدني، قبل أن يتحرك الجيش الروسي، مُتأخراً لفك حصارها، والذي استمر تقريباً 900 يوم خلال الحرب العالمية الثانية. وحلب السورية دُمرت من قِبل الروس، بعد حصار دام أكثر من عام، ولم يأت أحد لإنقاذها، في الحالتين لم يكترث أحد للمدنيين، وحدهم المُحاصرون، من دافعوا عن أهاليهم وأبنائهم.

 

بعد ليننغراد، وضعت الأمم المتحدة، لائحة من ثلاثين بنداً لحقوق الإنسان، وقعتها كل دول العالم، هذه اللائحة هي الصرخة التي تقول “لن نقبل أن يحدث ذلك مرة أخرى”، واحتفلنا بذكراها قبل بضعة أيام.

 

أين نحن الآن غربا وشرقا، من هذه التواقيع وهذه الإلتزامات، ونحن نرى مأساة ليننغراد تتكرر من جديد، ولكن هذه المرة بأسلحة دمار روسية، وهذه المرة لم يأت أحد لإنقاذها.

أي مستقبل سنبني لأبنائنا من بعدنا، وهم يرون ماذا فعلنا بهذه اللائحة النبيلة، وقد مُزقت وأُلقيت بحاويات النفايات. هذا أهم سؤال نطرحه على أنفسنا، أفراداً أو مجتمعات، سعادة أبنائنا من بعدنا، تهمنا أكثر من سعادتنا.

 

إنه لمن الغريب، أن تجتمع كل دول العالم، بمؤتمرات سنوية، للبحث بالتغييرات المناخية، علماً بأن هذه التغيرات، لن تحصل إلا بعد سنوات طويلة، وذلك حفاظاً على مستقبل الأجيال القادمة، وفي نفس الوقت لا تكترث ببناء تلك الأجيال، على المبادىء التي وضعتها لنفسها عبر لائحة حقوق الإنسان.

 

أن نبني لأطفالنا مجتمعا سليما، يعني أولاً أن يكون مجتمعا متضامنا مع نفسه ومع الآخرين، قبل سلامة الماء والهواء، فسلامة الماء والهواء، لا معنى لها عندما تُدك مدن مثل حلب بالبراميل المتفجرة والغازات السامة، ويموت أهلها جوعاً، كما حدث قبل ذلك لأهل ليننغراد. أن يرى أبناؤنا يومياً، دمار حلب على رؤوس أطفالها وسكانها، ولا يرون منا إلا عدم ألاكتراث, لن يخلق إلا مجتمع المستقبل الناقص الطموح، والذي لا تتجاوز آماله حدود بلده الصغير، أو حتى عائلته أو نفسه.

 

إننا من حيث لا نحسب، نبني لهم أوطاناً، لا يعيشون فيها إلا للأكل ولقمة العيش، ولا تكترث بأي قيم إنسانية، لم نر في شوارع وعواصم العرب، أي مظاهرات تُذكر، ولا سمعنا من أي رئيس حزب معارض، أي رأي يخالف رأي السلطة في بلاده.

 

يقول المثل “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”، فمن يضمن لأبناء الدول العربية، ألا يصلهم يوماً هذا الدمار الحادث بسوريا. الوقوف مع الشعب السوري الآن ونصرته، هي الوسيلة لوقف أن يصلنا طوفان الدمار إلى كل أوطاننا، فالأنظمة العربية وتشبثها بالسلطة، ودعم القوى العُظمى لها، أمر مفروغ منه. وهذا سيدفعُ كل واحد منها، للعمل بأن تحذو حذو “النموذج الأسدي”، عندما تتململ شعوب هذه الدول، عندها لن نستطيع حماية أبنائنا ولا أنفسنا، وسنبكي من جديد، كما بكينا على العراق وسوريا وفلسطين من قبلها، ولن نجد من يتضامن معنا ويمد لنا يد العون.