تحطيم الوجدانية أو الضربة القاضية /القدس العربي 26/07/2022

تحطيم الوجدانية أو الضربة القاضية

 د. نزار بدران

هناك الكثير ما يمكن قوله بشأن فوائد التجمع على التفكك والوحدة على التمزق؛ المصالح الاقتصادية ، تكاتف الإخوة لحماية الديار، فتح الحدود لعبور الأفراد والبضاىع، حرية العمل والتعلم ، حرية الاستثمار، بناء السلم والسلام، واشياء عديدة جدا تفسر تماما لماذا تجمعت سبع وعشرون دولة لإقامة الاتحاد الأوروبي ، كذلك تجمع دول أمريكا الجنوبية أوتجمع دول أمريكا الشمالية.

إقامة تكتلات واسعة

نحن إذا أمام ظاهرة لإقامة تكتلات واسعة، وما دعم الغرب لأوكرانيا بالمال والسلاح إلا أحد ظواهره. الاسباب الوجيهه تبدو كالشمس ليست في حاجة إلى شرح وتبرير.
العرب يشكلون في هذه الظاهرة استثناء عجيبا ، فهم بالإضافة لكل ما ذكرنا من أسباب، تجمعهم أيضا عوامل إضافية مهمة جدا، في غالبيتهم الساحقة تجمعهم وحدة اللغة ، ووحدة التاريخ ، وللغالببة العظمى وحدة الانتماء الديني، هذه العوامل الأخيرة لا نجدها في مناطق أخرى في العالم ، فدول أوروبا تتكلم لغات عدة، حتى أن في داخل بعض دولها مثل بلجيكا أو سويسرا يتكلم الناس لغات مختلفة.
ولكن أهم شيء يميزنا هو ما أسميه وحدة الوجدان. وحدة الوجدان هذه تعني أنني أشعر بالآخر وكأنه جزء مني وأنا جزء منه ، نحب ما يحب ونكره ما يكره ، يترجم ذلك بحبنا كلنا للغناء والموسيقى العربية من أي قطر أتت ، نحب كلنا الأكل العربي مهما كان موطنه، نحب الأدب والشعر العربي، نحب الهندسة المعمارية العربية.
نحن أصدقاء لشعوب عديدة مثل الأتراك أو الإيرانيين ونتمنى لهم كل خير، ولكن لا تجمعنا معهم وجدانية مشتركة.
لكن أوضح شكل لهذه الوجدانية هي تضامننا كشعوب عندما يعتدى علينا ، لن تجد من سيقف مع المعتدي من أبناء الأمة ( باستثناء الأنظمة).
كنا كلنا لبنانيين عندما غزت إسرائيل جنوب لبنان ، وعراقيين عندما كان المعتدي إيران أو الولايات المتحدة.
وكلنا فلسطينيون في حروب غزة المتعددة، كل إنسان في هذه الأرض العربية الواسعة يرى أن تضامنه الوجداني العاطفي مع فلسطين هو حاصل تحصيل وليس بحاجة لشرح الأسباب والعلل لذلك ، الوجدانية ليست بحاجة لتبرير ومصالح مشتركة ، هي مثل الحب تعبير مباشر من القلب، وما إقالة الوزيرة الأميرة التي رفضت لقاء المسؤولين الإسرائيليين في البحرين إلا أحد مظاهره المشرفة.

الأنظمة العربية

قد يسأل القارئ لما هذا الإصرار على هذا الجانب ونحن نريد أن نحكم العقل أولا. الجواب أن الأنظمة العربية حطمت كل عوامل الوحدة التي ذكرناها في البداية، وتفرض علينا التفرقة والتناقض وتقوي كل أشكال الطائفية والنزاعات الداخلية، فلا اقتصاد ولا حدود نحميها بل دول على شكل سجون. لكنها لم تستطع أن تحطم وتجزئ وجدانيتنا الواحدة.
هنا اكتشف أنني كنت مخطئا في تقديري هذا، لأن قيادات الشعب الفلسطيني وفئات من مثقفيه والذي هو مركز هذه الوجدانية لم تجد حرجا في وضعنا خارج الوجدانية العربية تحت حجج واهية ، ماذا يعني العودة لحضن الأسد ، وهل هذا ما ينتظره الشعب السوري من أخيه الفلسطيني، قبل ذلك الارتماء باحضان النظام الإيراني.
أليس ذلك هي أحسن وسيله لتحقيق أمل إسرائيل بإبعاد الشعوب العربية عن الشعب الفلسطيني ، ألا تفسر هذه اللامبالاه بآلام إخوتنا في سوريا او مناطق اخرى ابتعادهم عنا ، هل التنسيق الأمني مع إسرائيل من جهه ومع القوى الفاشية في المنطقة من جهة أخرى، والوقوف مع الأنظمة ضد الشعوب أليس ذلك سببا بانهيار شارع الدعم العربي لفلسطين ، لم نر أحدا ما عدا القلة القليلة تحتج في العاصمة المغربية على زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي ، ولا الزيارات المتعددة لمسؤولين إسرائيليين للدول المطبعة، ونحن كنا أول من ذهب ليهنئ ويدعم الوزير الأول المغربي حين وقع اتفاقيات التطبيع برعاية أمريكية، في محاولة فاشلة لانقاذه عن طريق تفعيل الوجدان الفلسطيني للشعب المغربي.
الوجدان المشترك هو كالإسمنت يلصق قطع الطوب بقوة لنبني بيتنا الواحد، هذا واضح جدا في الوجدان الأمريكي وما يعطي القوة لهذا البلد ، كل الأمريكيين فخورون للانتماء لهذا البلد مهما اختلفت ألوانهم، وينحنون أمام علمها، هو الوجدان المشترك من ينقص حاليا في أوروبا ويجعل بناءها هشا رغم نجاح الاتحاد الواضح في المجال الاقتصادي ، كما رأينا مع انسحاب بريطانيا.
هو حالياً يعود للحياة مع الاعتداء الروسي على أوكرانيا وتهديد أمن اوروبا، والذي أعطى الشعور للمواطنين الأوروبيين أنهم في قارب واحد.
الوجدان الواحد يقوى أمام الأزمات والحروب في كل بلاد العالم ، إلا على ما يبدو في بلادنا ، فكلما اعتدي علينا وسرقت أراضينا وهجرت شعوبنا ، كلما زدنا فرقة.
نحن نعيش الآن محاولة جادة وتنفذ بأيدينا لتدمير الوجدان العربي المشترك، والذي كان آخر مظهر من مظاهر التضامن، تشارك فيها ليس فقط الأنظمة المستبدة ولكن أيضا من يدعون الدفاع عن فلسطين وشعبها، هو كمن يحل الصمغ أو يزيل الإسمنت، والذي دونه لن نستطيع بناء أي شيء صلب ودائم.

طفولة الشعوب. القدس العربي 17/07/2022

طفولة الشعوب

طفولة الشعوب
نزار بدران

لم يكتف مؤسس علم النفس الحديث سيجموند فرويد بشرح أعماق النفس البشرية وما تحتوي من تناقضات، بل وسع ذلك إلى المجتمعات وليس فقط الأفراد. حاول فرويد إسقاط مفهوم طفولة الأفراد وتطورهم التدريجي نحو البلوغ على المجتمعات الإنسانية، ما يميز الطفل عن البالغ هو الحرية التي يتمتع بها هذا الأخير والمسؤولية التي تنبثق عنها ، أي المقدرة على تحديد ما يريد بنفسه والعمل الجاد على تحقيقه. الطفل لا يمتلك هذه الإمكانية، هو تحت رقابة والديه اللذان يحددان له ما يجب أن يفعل أو ما يجب الامتناع عنه. لذلك هو فاقد للحرية وبنفس الوقت لا يحمل أية مسؤولية. والداه يجازيانه إن نجح ويعاقبانه إن فشل. مقابل ذلك فهما يؤمنان له الحماية وكل مقومات الحياة.
طفولة الشعوب عند فرويد تعني عدم تمكن شعب ما من تحمل مسؤولية حياته، هو يبحث دائما عن أب يحميه ويتحمل مسؤولية ما يحصل له. فرويد يفسر هكذا كثيرا من المعتقدات الغيبية، والتي تحدد للانسان ما يجب أو ما لا يجب عمله، دون الحاجة إلى تحمل عناء التفكير بنفسه، مع ما يتبع ذلك من جزاء أو عقاب. بدأت طفولة الشعوب هذه بالانحسار في الأزمنة الحديثة، بعدما سادت البشرية قرونا طويلة، وبدأت شعوب كثيرة تصل إلى مرحلة البلوغ. هذا يعني أن هذه الشعوب بدأت تحصل على حريتها، وما ينتج عن ذلك من تحمل مسؤولية نفسها. هي تقرر مصيرها ولا تنتظر عقاب أو جزاء أحد، ولم تعد تبحث عن أب يحميها ويتحمل مسؤولية فشل أعمالها.

هل وصلت الدول العربية إلى هذه المرحلة؟ وهل تحررت من مرحلة الطفولة، هل استرجعت حريتها وواجب تحمل مسؤولية نفسها. لو أردنا استكشاف ذلك مما يكتبه الذين يعتبرون أنفسهم مفكري الأمة وممثليها على المستوى الثقافي والفكري والسياسي ، فإننا قد يراودنا بعض الشك.
مثلا لا حصرا ، بعد ستين عاما من استقلال الجزائر، وطرد المستعمر إلى لا عودة، ما زالت السلطة الجزائرية تحمل فرنسا بشكل خاص مسؤولية فشلها الاقتصادي وفقر حال المواطن، وتتهمها بالوقوف وراء الاحتجاجات الشعبية التي عمت البلاد. في المقابل نرى قوى المعارضة السياسية تتهم السلطة بدورها التبعية لفرنسا. وما زال الشعب الجزائري يحاول بنفسه مباشرة استرجاع حقه بتحمل مسؤولية نفسه ، والشعوب قادرة على ذلك. نفس الشيء تقريبا نجده في أماكن متعددة حتى أن جزءا من الطبقة السياسية اللبنانية لم يتوان عن طلب تدخل فرنسا المستعمر السابق لحل مشاكله مع شعبه، معلنا بهذه الطريقة تصرفا طفوليا غير مسؤول. هذه الوضعية تناسب بكل تأكيد اطراف السلطة أولا ، لأنها تبعد عنهم مسؤولية الدمار الذي يحل في بلادنا بسببهم، فدمار سوريا ليس نتيجة براميل النظام ، وإنما بسبب المؤامرات التي حاكها المستعمرون.

في المقابل لو قرأنا قليلا عن الهند، والتي عانت من الاستعمار البريطاني لقرون طويلة (1757–1947) ، فإننا لا نرى أحدا يتهم بريطانيا بمآسي الهند الحالية ولا حتى تقسيمها عند الاستقلال، هي الآن أحد دول مجموعة العشرين وتعرف أعلى معدل نمو بينها منذ عام 2014. الصين أيضا تم استعمارها من قبل دول غربية عدة ، ومن اليابان. لا أظن أنني بحاجة لاذكر القارىء بمكانة ونضج الصين حاليا والتي تعامل اعتى الدول من مفهوم الند. على مستوى أقل، دولة مثل فيتنام ، وهي تشبه بحجمها كثيرا من دولنا العربية، عانت كثيراً من الاستعمار الفرنسي ثم الحرب الأمريكية لسنوات طويلة، هذا لم يمنعها من أن تدخل مجموعة ما يسمى نمور آسيا الناشئة ، معظم إنتاجها يصدر للولايات المتحدة عدوها السابق ، ومعظم قطاعها السياحي المزدهر موجه للسياحة الأمريكية، لا أحد في فيتنام يضيع وقته بتوجيه اللعنات والدعوات بالموت لأمريكا.
هذه علامات نضج الشعوب وبلوغها سن الرشد. تلك التي تخرج من عباءة المحتل لتبني نفسها، وتتحمل مسؤولية ذلك ، نحن خرجنا من السيطرة الغربية (باستثناء فلسطين)، ولكن بقينا اطفالا، نفتقد الشعور بالمسؤولية تجاه أنفسنا، ونكتفي بالشكوى والعويل.
هذا لا يعني ان ننسى تاريخ الماضي، وما يعلمنا من عبر، ولكن لا يصح استعماله فقط من أجل التهرب من مسؤوليتنا في أزمات تاريخنا الحاضر.

لتوضيح ماهية النضج وماهية الطفولة، يكفي أن نقارن كيفية تعاملنا وتعامل الدول الناضجة في مواجهة نفس النوع من الأزمات. النموذج الأول هو إشكالية اللجوء. كيف تصرفنا نحن دولا وشعوبا مع اللاجئين أبناء جلدتنا ولغتنا وديننا، الهاربين من جحيم الحرب في سوريا والعراق مثلا أو الهاربين من الفقر والبؤس في دول أخرى، وكيف تصرفت الدول الغربية وشعوبها مع اللاجئين القادمين بظروف مشابهه تماما من اوكرانيا، هم لاجئون أوروبيون ينتمون للثقافة والفكر الغربي في جميع نواحي حياتهم مرشحين للالتحاق بالاتحاد الأوروبي. تصرفنا مع لاجئينا كان هو حجزهم وإخراجهم من سوق العمل، وحتى وضعهم داخل مخيمات أقرب للسجون ، تنتظر المعونات الدولية ، من استطاع هرب وذهب بأي وسيلة إلى دول الغرب. أما الدول الغربية مع اختلاف لغاتها وأوضاعها الاقتصادية فقد استقبلت اللاجئين الأوكرانيين كأبنائها. ومنحتهم الحق في الإقامة والعمل ، بالإضافة للدعم المادي وادخال أبنائهم المدارس وغير ذلك كثير. كيف ينظر المواطن اللبناني إلى أخيه اللاجىء السوري أو الفلسطيني، ينظر إليه كمنافس خطير على لقمة العيش، بلا أدنى حقوق إنسانية، والدولة اللبنانية لا ترى فيه إلا خطرا على التوازن الطائفي.
النموذج الآخر هو كيف تصرفت الدول الغربية مع الهجوم المدمر الروسي على أوكرانيا، وكيف تعاملت الدول العربية مع نفس الهجوم الروسي على سوريا. كثيرا من المواقف العربية الرسمية ومجموعة كبيرة من دعاة الفكر والأدب وحتى افرادا بسطاء وقفوا إلى جانب المحتل في موقف غريب جداً, بينما تقف كل الشعوب الأوروبية دون استثناء وبكل مكوناتها واتجاهاتها الفكرية من أقصى اليسار الى اقصى اليمين وحكوماتها مع الشعب الأوكراني، وتزوده بكل ما يحتاجه.
أخيرا كيف تتعامل الدول العربية مع الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تهم المواطن العربي، وكيف تتعامل الدول الغربية في ظروف مشابهة. في أوروبا يجري توحيد الطاقات كما رأينا مع جائحة كورونا، الحدود الداخلية لدول الاتحاد مفتوحة دائما، توحيد سوق العمل وقوانينه، لا حدود أمام من يود الاستثمار العمل أو التعلم. مقابلها في بلادنا، حدود حديدية لا يمكن تجاوزها، وما يؤدي ذلك من استحالة إقامة أي مشاريع مشتركة واضاعة ملايين من فرص العمل.
أن ننتقد الغرب لأنه لم يستقبل اللاجئ السوري أو العراقي أو الأفغاني بنفس الطريقة التي استقبل بها اللاجئ الأوكراني، هو ناتج عن عقدة عربية خاصة بنا دون غيرنا، وهي أن على الغرب مسؤولية حل مشاكلنا وليس مسؤوليتنا نحن،. الحرب في أوكرانيا هي حرب في أوروبا ويتحمل الغرب المسؤولية في التعامل مع نتائجها، وهو يقبل من أجل ذلك ان يدفع الثمن من رفاهيته ومستوى معيشته. علينا نحن كشعوب وحكومات أن نواجه مشكلة الحروب الداخلية واللجوء والهجرة في بلادنا ، وليس الاكتفاء فقط بتصديرها إلى أوروبا.
حياة الأمم مثل حياة الأفراد تمر دائما بمرحلة طفولة، قد تطول أو قد تقصر، ولكن يجب أن تنتهي. معظم شعوب العالم حولنا نماذج لما وجده فرويد في علمه، ودليل على صدق استنتاجاته.