اليوم العالمي للفلسفة… أفكار عن الحرب والسلم. القدس العربي 21 نوفمبر 2022

اليوم العالمي للفلسفة… أفكار عن الحرب والسلم

 د. نزار بدران 

تشكل الحرب مصدر حيرة بالنسبة للفيلسوف، فهو على طريقة كانط الفيلسوف الالماني، في كتابه «نحو السلام الدائم» عام 1795 يفضل التفلسف في مجال السلام. هذا الأخير هو موضوع واضح، مقارنة بضبابية الحرب. رغم ذلك فهناك من الفلاسفة من حاول وضع مفهوم للحرب. أول من فكر في ذلك هو الفيلسوف اليوناني أفلاطون، والذي اعتقد أن الحروب بين المدن الإغريقية كان شيئا طبيعيا مفيدا، بهدف الحفاظ على مفاهيم الشجاعة والشهامة والفروسية والتي بنيت عليها أخلاقيات ذلك الزمن.
الحرب هي اختراع إنساني بحت، فالحيوانات لا تعرفها، كانط فسر ذلك بإرادة الطبيعة والتي وضعت في الجنس البشري قاطبة وسائل البقاء وليس في الأفراد كما فعلت مع الحيوانات. الصراع عنده (كتاب: ما هي الأنوار) هو وسيلة الطبيعة لدفع البشر وضع قوانين مقيدة للحرية حتى يتمكنوا من الحياة، وإلا لأفنوا بعضهم بعضا. لذلك فهو يعتقد أن الإنسان يسير ولو بعد زمن طويل جدا نحو السلام الدائم. هذا السلام قد يتحقق داخل المجتمعات أي داخل الدول لكن تحت طائلة القانون، لكننا نبقى بعيدين جدا من تمكن وضع الدول نفسها تحت حكم القانون والذي هو شرط السلام، فهي تحتكم فقط إلى توازن القوى محولة فكرة السلم الدائم إلى أطروحة وهمية وفكرة ساذجة، رغم وجود منظمات وقوانين دولية عديدة لتنظيم الإنسانية، لكن سيادة الدولة تبقى لحد الآن أعلى من القانون الدولي.
قليلة هي الدول كما هو الحال في الولايات المشكلة للولايات المتحدة الأمريكية أو دول الإتحاد الأوروبي، التي تقبل الانتقاص الطوعي من سيادتها في مجالات محددة لصالح المجموعة، مثل إلغاء الحدود والعملات الوطنية أو توحيد الأنظمة الاجتماعية الداخلية.
ابتداء من القرن السادس عشر، قام الفلاسفة بتحديد أنواع الحروب، فهناك مفهوم الحرب العادلة، وأهم مؤسسيها الفيلسوف الألماني ليبتز في القرن السابع عشر، تلك التي تهدف إلى استعادة حق منهوب وإعادة الوضع كما كان سابقا، أو معاقبة المعتدي عليها «حرب الحقوق» وهنا توضع القوة في خدمة القانون. وهناك الحرب المؤسسة، تلك التي تهدف إلى إقامة وضع حقوقي جديد «حرب التأسيس» ومن المدافعين عنها الفيلسوف الإنكليزي هوبز في القرن السادس عشر، وهنا يوضع القانون في خدمة القوة. هذان مفهومان متضاربان، الحرب على العراق وضعها الأمريكيون في خانة الحرب العادلة لأنها كانت تهدف لاستعادة السيادة الكويتية، أما الثورة الإسلامية والحرب مع العراق وضعها الإيرانيون في خانة حرب مؤسسة أي تهدف لإقامة نظام حقوقي جديد.

حروب العرب حروب أهلية داخلية عبثية، مرتبطة بوضع تاريخي مهلهل منذ قرون، وهو غياب الدولة والتي هي الوحيدة التي تحمي السلم الاجتماعي، وهذا الوضع لن يغيره حرب ولا سلم

اختلاف طبيعية الحروب عن بعضها البعض، وعدم خضوعها لقوانين ثابتة، يدفعنا للتكلم عن «فلسفة زمن الحرب» وليس عن فلسفة الحرب. بمعنى فلسفة العلاقة بين الحضارة والحرب، وانعكاسات تلك الأخيرة على المجتمعات على المدى الطويل، وما تخلقه أولا من تجارب فكرية خصوصاً في المجال الثقافي وما تثيره من نزعات قومية شوفينية مع ظهور الانعزالية أو العدوانية، كما حصل في أوروبا في بداية القرن العشرين أو ما نرى حاليا في الحرب بين أرمينيا وأذربيجان (مسلم ضد مسيحي مع غطاء قومي). كذلك ثانياً التغيرات التي تدخلها الحرب على رؤيتنا للتاريخ، وإمكانية تصحيح أو تغيير مجراه كما رأينا مثلا مع انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، أو قبل ذلك حرب الاستقلال الجزائرية. أو أخيرا ما تلهمه الحرب للبحث عن فلسفة جديدة للسلام، بعد أن يتعب المقاتلون، كما حصل مع إقامة السلام داخل الدول الأوروبية بعد قرون من حروب مدمرة. وذلك من خلال اتحاد الأطراف المتقاتلة بعد انتهاء الحرب، مظهرا بشكل واضح عبثية تلك الأخيرة، واضعة السلم كهدف وتحد جديد أمام الجميع، أكبر وأهم كثيرا من الحرب، فالسلام لا يمكن أن يكون مقبولا من طرف المتقاتلين إن كان يعني التراجع والجبن والمذلة.
جعل أرسطو عندما قال: « نحن نقوم بالحرب حتى نعيش في سلام»، السلام كالهدف الوحيد للحرب، لكن ذلك يستثني حروب الإبادة، فسلام المقابر ليس سلاما. يمكننا إذا أن نجعل الهدف النهائي لأي حرب، العيش في سلام وعدالة.
هذا المنطق الذي يربط الحرب بالسلم، هو من أسس لمفهوم الحرب العادلة، وكان رجل الدولة الروماني شيشرون (106-43 قبل الميلاد) أول من قنن الحرب واضعا سبع نقاط، ما زالت ليومنا هذا ملهمة لقوانين الحرب المتعارف عليها، وهي:
الحرب لها سبب عادل؛ الدفاع عن النفس أو عن الآخر
لها هدف وحيد شرعي وهو السلام
لا تحدث إلا بعد فشل كل الوسائل الأخرى
تقررها سلطة شرعية
تعلن على الملأ وبشكل رسمي
تمارس باعتدال وبشكل متناسب
تقارن بعناية فوائد قيام الحرب أو عدمه، لتسمح بتقدير الدمار والمعاناة الناتجة عنها، وأن ذلك لا يتجاوز الأذى الذي يراد محاربته.
لو طبقنا هذه القواعد القديمة على حرب بوتين في أوكرانيا، فإننا سنجد أنها لا تتطابق ولا حتى مع نقطة واحدة. من المفارقة ملاحظة أن كل الحروب تجد لتبريرها تعليلات أخلاقية لتحميلها معايير الحرب العادلة، رأينا ذلك مع أكاذيب الأمريكيين في حربهم على العراق، وكذبة أسلحة الدمار الشامل، أي كونها حربا عقابية مشروعة. كما نرى اليوم تعليل بوتين لحربه كونها تهدف إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس جديدة أكثر عدلا، وكأنها حرب تأسيسية، بينما لا تهدف في حقيقتها إلا تثبيت حكمه الديكتاتوري، وانهاء أي خطر من عدوى ديمقراطية قادما من كييف.
أين تقع حروبنا العربية الداخلية من مفهوم الحرب، كما نرى في سوريا او اليمن وليبيا، هي ليست حروب تؤسس لشيء جديد، فالربيع العربي اختار طريق السلمية في نضاله وليس الحرب، وهي ليست بهدف استرداد حق مفقود، وهذه الأخيرة كثيرة ولا يحارب من أجلها أحد كما نرى مثلا في فلسطين. هي فقط كعادة العرب حروب أهلية داخلية عبثية، مرتبطة بوضع تاريخي مهلهل منذ قرون، وهو غياب الدولة والتي هي الوحيدة التي تحمي السلم الاجتماعي، وهذا الوضع لن يغيره حرب ولا سلم

درس النساء إلايرانيات إلى النساء العربيات. مرأة حياة حرية ، القدس العربي 28/10/2022. نزار بدران

تلعب النساء الإيرانيات دورا محوريا في تاريخ إيران، وذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر ،وشاركن دائما في تشكيل المجتمع الإيراني، بتمسكهن بحقوقهن ورفض الأطر التقليدية وما تمثله من تمييز. لذلك نرى الآن، على إثر مقتل الشابة اليانعة مهسا أميني بسبب حجاب، حراكا نسائيا قويا تمكن من ايقاظ كافة مكونات الشعب. قد يكون هذا مستهجنا في اوساط المجتمع العربي خصوصاً المحافظ ، فنحن في كافة اشكال النضال ضد الاستبداد، ومنذ عشرات السنين، لا نرى في مشاركة المرأة العربية إلا رافدا أو داعما للرجل في أحسن الأحوال، وليس المبادر بها وقيادتها كما نرى حاليا في إيران. 

 عكس الوضع في جميع الدول العربية، فإن التغيير في القوانين لصالح حقوق النساء في إيران كان دائما نتيجة نضالهن، وليس مِنَّة من الرجال أو من السلطة السياسية. في القرن التاسع عشر شاركت فاطمة النقية (1817-1852) في تأسيس حركة البهائين  رافعة شعار تحرير المرأة والمساواة مع الرجل من منطلق ديني شيعي، وكرست حياتها لهذا الهدف، حتى يحكى أنها رفضت الزواج من ملك اذيربيجان لتؤدي رسالتها.

  زمن حكم الشاه، تمكنت النساء عام 1963 من فرض قانون حق المرأة بالتصويت والمشاركة في الحياة السياسية، ثم  قانون الأحوال الشخصية وحماية العائلة عام 1967 والذي يساوي بين المرأة والرجل ويضع حدا أدنى لسن الزواج ( ثمانية عشر سنة), ويحد من تعدد الزوجات، ومن الحق المطلق للرجل بالطلاق وارجاعه إلى القضاء، وحضانة النساء المطلقات لاطفالهن. كذلك لم تسن قوانين إجبارية بالنسبة للملبس أو منع الاختلاط في المجال العام وتم التراجع عن قانون سُنّ عام 1936 يمنع الحجاب واللباس الديني للرجال والنساء.

كل شي يجب أن يكون إسلاميا

شاركت النساء في الثورة الإيرانية عام 1979, وتعاضد الرجال والنساء تحت شعار « خبز، بيت، حرية »، كذلك شاركن بقوة في الحرب العراقيه الايرانيه دفاعا عن الثورة الإسلامية بدعمهن الدائم للجهد العسكري والاقتصادي. لكن ذلك لم يشفع لهن للحفاظ على الحقوق المكتسبة زمن الشاه.

 تحت زعامة الإمام الخميني تم التراجع عن قانون حمايه العائلة أي الاحوال الشخصية، مؤديا لنتائج مروعة أهمها تخفيض سن الزواج من ثمانية عشر إلى تسعة أعوام، منتهكا حقوق الطفولة، كذلك إعادة السيطرة الكاملة للرجل على عائلته وكأن الزوجة والاطفال ملكه الشخصي، بما في ذلك الطلاق وحضانة الأطفال، بالإضافة للفصل التام بين الرجال والنساء في الفضاء العام. هذا ما دفع النساء إلى القيام بأول احتجاجات تحتاج ايران بعد الثورة، حيث تجمهرن بكثافة في الشوارع في الثامن من آذار 1979 وهو اليوم العالمي لحقوق المرأة، احتجاجا على القانون الجديد الملزم بارتداء الحجاب بالإضافة لالغاء القوانين السابقة، ووضع قوانين جديدة مجحفة للأحوال الشخصية وحماية العائلة. تم بعد ذلك حظر الاحتجاجات وفرض المزيد من القوانين المقيدة للحرية وحقوق النساء، مثل الفصل من الوظائف التي تعتبر حكرا على الرجال، الطرد من العمل، والفصل بين الجنسين في نظام التعليم ، والغيت الحقوق المكتسبة في الستينات، ما عدا حق الانتخاب والذي وقف الخميني ضده عند اقراره  زمن النظام الملكي. وما الحفاظ عليه إلا بهدف اعطاء شرعية واسعة للنظام الجديد. في المقابل لم يرافق هذا الحق الحقوق الأخرى المرتبطة به، مثل شغل الوظائف السياسة والقضائية، وتوج ذلك الارتداد باعدام أول وزيرة للتعليم في إيران ما بين 1968 و 1971 السيدة الطبيبة بارسا فرخرو، بحجة نشر الرذيلة والفساد في الأرض مما يغضب الله.

رغم كل ذلك لم تتراجع النساء عن المطالبة بحقوقهن، لكن بطرق خفية تحت غطاء الاجتماعات البيتية وجلسات القراءة والعمل الأدبي والفني. كما انهن استمرين بالاحتفال باليوم العالمي لحقوق المرأة كل عام في الثامن من آذار، رغم أن النظام حدد يوما آخر. حتى انهن شكلن تجمعا لامهات السجناء السياسيين المفقودين بعد إعدام ثلاثين ألفا منهم مع بداية الحرب مع العراق بأمر من الخميني.

تغيرت الأوضاع قليلا لصالح النساء بعد وفاته، حيث حصل انفتاح سياسي نسبي، سمح بدخول النساء بكثافة في مجال التعليم ودخول الجامعات مع وضع عوائق لبعض التخصصات وتحديد كوتا مثل طب النساء والأطفال.

كان من اسباب عدم تمكن السلطة من اخراس النساء، ذلك التوافق في الرؤى بين التيارات النسائيه الاسلامية وتلك العلمانية، المجموعة الأولى دفعت باتجاه إعادة قراءة النصوص الدينية وتفسيرها بما يتوافق مع العصر، ورفض الرضوخ للتفسير التقليدي الرجعي، وهو ما يتناسب مع الطرح العلماني الحداثي الناظر إلى الغرب. جزء بسيط من النساء ذوات الانتماء الديني التقليدي وقفن بصف السلطة وقوانينها القادمة من أعماق التاريخ وقبلن بلعب دور تجميلي للمجلس، دون أي فائدة لكفاح الحركات النسوية بجناحيها. من الملاحظ أن الحكومات الإصلاحية كانت أكثر قبولا بمطالب النساء مثل القبول بالمعاهدة الدولية للأمم المتحدة «سيدو» والهادفة إلى منع التمييز القضائي والقانوني تجاه النساء، أما تلك المتشددة مثل الحالية بقيادة الرئيس رئيسي فكانت تزيد الخناق وتتراجع عن الإصلاحات السابقة، أو الاعتداء على النماذج الحقوقية مثل ما حدث مع الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2003 السيدة شيرين عبادي ومصادرة جائزتها.

كما يظهر من هذا السرد فالمراة الإيرانية منذ البدأ عملت على صيانة حقوقها في كل الظروف، وما احداث هذه الايام في زمن سلطة متشددة محافظة، إلا جزء من هذه الظاهرة المتأرجحة بين المد والجزر.

المرأة العربية

بالمقابل في بلداننا للأسف لم تتمكن المرأة العربية من أخذ أي دور مهم فعال في كافة أشكال الاحتجاجات والثورات، وبقيت ضحية الظلم السياسي مثل الرجل ، ولكن أيضا ضحية ذلك الرجل بعاداته وتقاليده القبلية.

إن كان لنا أن نستنتج درسا من نضال المرأة الإيرانية، فهو أهمية دور النساء في العمل الثوري وقيادته، فالرجال لم ولن يتمكنوا من الوصول إلى نجاحات سياسية واجتماعية بحكم ارتباطهم الذهني والعاطفي مع مجموعة من التقاليد البالية، حتى أن السلطة السياسية الغير ديمقراطية، لا تستطيع فرض اصلاحات لصالح النساء على قلتها بسبب ذلك (باستثناء تونس زمن الرئيس بورقيبه), فمثلا في الأراضي الفلسطينية لم تتمكن السلطة من اقناع الناس وخصوصا الجمهور الرجالي المحافظ بقبول اتفاقية سيدو للأمم المتحدة.

الدرس الإيراني للنساء العربيات هو ألا ينتظرن أي خير وتقدم لحقوقهن من السلطات السياسية والتي تقمع الجميع، ولا كذلك من المجتمع الذكوري التقليدي. إن لم تاخذ المرأة العربية حقوقها بنفسها أي من الأسفل فلن تاتيها من فوق. هذا سيتم فقط عن طريق تنظيم النساء لانفسهن كما فعلت المرأة الإيرانية، وانتزاع حقوقهن بانفسهن من النصف الذكوري في المجتمع قبل السلطة السياسية.

على المرأة العربية كمثيلتها الإيرانية أن تأخذ دورها في قيادة الحراك الثوري وليس فقط المشاركة. الرجل العربي هو أقل استعدادا لتبني او المطالبة باصلاحات إجتماعية جذرية بسبب إصابته باعاقة مزمنة مرتبطة باوهام وعادات عفا عنها الزمن وكأنها سلاسل في قدميه تعَوَّد عليها وكأنها طبيعة، لا يستطيع التخلص منها دون اجبار. على عكس دول وشعوب عديدة في العالم خاضت ثورات سياسية واجتماعية كبرى مثل دول شرق اوروبا أو امريكا اللاتينيه حيث لا توجد هذه الإعاقة. وحدها المرأة هي المؤهلة لهذه المهمة التاريخية الصعبة؛ إعادة صياغة المجتمع العربي ووضعه على طريق الانفتاح. 

هذا هو درس نساء إيران لنا جميعاً، والذي علينا التمحص به وتقليده.

المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني ، عودة الايديولوجيا… القدس العربي 21/10/2022

المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني

عودة الايديولوجيا 

نزار بدران

انعقد الأحد السادس عشر من تشرين الأول المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني في بكين لانتخاب رئيساً له, وكذلك أعضاء مؤسسات الحزب لمدة خمس سنوات جديدة. نظريا لم يكن للرئيس الحالي شي جين بينغ إمكانية التقدم، فهو قد أنهى فترتين متتاليتين. تغيير الدستور حديثا مكنه من ذلك، ونظريا يستطيع أن يبقى رئيسا مدى الحياة، وهو ما يذكرنا بالرؤساء الملهمين العرب.

للأسف هذا الانحراف عن النظام السياسي الصيني والذي احترمه الرؤساء الثلاثة السابقين، يعني بوضوح تقوية القبضة الحديدية على الشعب الصيني. أحداث هونج كونج في السنوات الأخيرة، وانهاء نظامها الديمقراطي لصالح هيمنة بكين دليل على ذلك، فالرئيس بينغ قال في كلمته امام المؤتمر أنه تمكن من إنهاء الفوضى في هونغ كونغ لصالح النظام. أي أنه يعتبر ببساطه أن نظامها الديمقراطي كان نوعا من الفوضى، متراجعا تماما عن سياسة دولة بنظامين كما كان اتفق عليه عند استعادة الصين سيادتها عليها. هذا ما يدفع تايوان حاليا إلى رفض عرض الرئيس الصيني لاعتماد نفس النهج.

كان من المنتظر أن يتكلم الرئيس عن الوضع الاقتصادي والصحي الداخلي وسياسة كوڤيد صفر والعلاقات الدولية والحرب الروسية، ومشاكل أخرى كثيرة، لكنه في الحقيقة وعلى مدار ساعة ونصف اكتفى بالتركيز على مركزية الحزب الشيوعي الصيني واستعادة تايوان وتقوية الجيش وقوة الردع. أوضح دوره المهم بانهاء الفساد داخل اطر وأعضاء الحزب واستغلاله من طرف اعضاء نافذين للاثراء الغير مشروع، أي أنه في سنوات حكمه العشرة اعاد الحزب إلى الطريق الصحيح وعليه الآن العمل لتطوير القطاع العام.

الحزب الشيوعي، كما قال الرئيس، يجب أن يكون في كل مكان، فالصين هي الحزب والحزب هو الصين، لذلك، أضاف، هو في الشمال والجنوب والشرق والغرب جاعلا الصين نموذجا للآخرين. هذه النقلة النوعية إلى الخلف أي على المستوى الايديولوجي، يعيد ذكريات ماو تسي تونغ الرئيس المؤسس، والذي يعتبره بينغ قدوة له. وتبنى مقولة ماو أن الأهمية هي فقط للشعب وليس للافراد، وكل ما يعني هذا الشعار عن اغلاق أي باب على الحريات العامة والفردية، وفرض رقابة صارمة خصوصاً مع تطور التكنولوجيا الكبير في هذا المجال.

يمكن تفسير هذه القبضة الحديدية بالنجاحات الاقتصادية الكبرى للصين، وهو ما سمح لبينغ بأن يضيف البعد الايديولوجي ويفرض من جديد هذا الغطاء الثقيل على البلاد والذي إسمه الحزب الشيوعي بدون معارضة تذكر. الرؤساء الثلاثة السابقون لم يفعلوا ذلك ،بل اكتفوا بالتبادل التجاري مع الغرب والعالم دون اهتمام بالايدولوجيا، كان إلرئيس الأسبق دنغ جزاو بنغ  يرفع شعار«لا يهم لون القط إن كان قادرا على صيد الفئران». صين بينغ الجديدة لا تطالب فقط بزيادة قوتها الاقتصادية وإنما تصدير نموذجها الايديولوجي إلى العالم وفرض قيم الوتقراطية مقابل حكم الديموقراطية، وادخال تلك القيم إلى المنظمات الدولية مقابل القيم الغربية.

نحن إذا مع شي جين بينغ نسير بالاتجاه المعاكس لما كان يتصوره الغرب وخصوصا امريكا ، زمن الرئيس كلينتون، والذي دافع عن اقتصاد صيني ذو بنية ليبرالية سينتهي بفرض سلطة ليبرالية أيضا. إلرئيس بوش الأب ارسل مبعوثا سريا له لبكين ليطمأنهم على استمرار التبادل التجاري بين البلدين رغم مذابح ساحة تيتان من عام 1989، رغم التنديد الأمريكي الرسمي بذلك. نفس الخطأ ارتكبته أوروبا مع روسيا حيث لم يدفع ربط الاقتصادين خصوصاً المانيا وروسيا بتفادي الانحراف نحو نظام اوتوقراطي عنيف ومعتدي.

مبدأ أن التجارة تستطيع إنهاء النزاعات والصراعات نجحت في غرب أوروبا وبعض المناطق الأخرى ، ولكنها ليست صالحة دائما. كان الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير قبل قرون يصف بورصة لندن الشهيرة قائلا «بأنها توحد الجميع ، يدخلها اليهودي والمسلم والمسيحي ويتعاملون معا وكأنهم من دين واحد. الكافر هو فقط من أعلن افلاسه ».

هذا النموذج الجديد الصيني قد يجد له في دول العالم الغير ديمقراطية من يهتم باستيراده لكن نجاحه مرتبط بشكل عضوي بالنجاح الاقتصادي كما في الصين ، لذلك فهو لن يتوسع برايي كثيرا ، فدولة مثل روسيا لا يمكن أن تكون نموذجا يحتدى به، الصين في وسط هذه الأنظمة في وضع استثنائي وليست القاعدة.

لم يذكر الرئيس الصيني روسيا أو حرب اوكرانيا، من الواضح أن روسيا لا تمثل له شريكا أو حليفا بل فقط منطقة نفوذ. هو يشكل لها خطرا أكبر بكثير من الغرب ، خصوصاً أن الشعب الروسي يعتبر نفسه منتميا إلى الجنس الغربي ويرفض فكرة أن ينتمي إلى شعوب وسط واقصى آسيا. قد تكون الصين من هذا المنظار قادرة على فرض وقف الحرب الروسية حفاظا على طريق الحرير الشمالي.

مركزية الحزب الشيوعي ، تطوير القدرات العسكريه واستعادة تايوان ، هذه هي النقاط التي أثارها الرئيس الصيني. يبقى موقف ورأي الشعب الصيني نفسه بملاينه العديدة. لحد الآن لم نرى إلا بعض الاحتجاجات الخجولة. باستطاعتنا افتراض دعم الشعب لرئيسه، فهو -على طريقة نظرية توماس هوبز في العقد الاجتماعي-  أمن للشعب الأمان والسلام الداخلي والازدهار الاقتصادي، مقابل أن يتنازل هذا الشعب عن حريته. فهل سيقبل الصينيون هذه المعادلة لسنوات طويلة ؟

محلل ومراقب سياسي 

خيارات روسيا المُرَّةالقدس العربي ، نزار بدران ، 15/10/2022

الحرب الروسية على أوكرانيا تزداد استعارا وعنفا. صلابة الصمود الأوكراني شعبا وجيشا وقيادة، محصنا بالدعم الغربي؛ الأمريكي بشكل خاص، لم يسمح لبوتين بتحقيق خطته الأساسية، أي الانتصار السريع وتغيير النظام وتنصيب نظام عميل.
هذا ما دفعه إلى تخفيض سقف آماله والاكتفاء بضم المقاطعات الشرقية الناطقة باللغة الروسية، ولكن في ظل وضع جيش مهزوم في أرض المعركة وغير قادر على إيقاف تقدم الجيش الأوكراني، ما يعني أن هذا الهدف الاخير على محدوديته اصبح بدوره صعب المنال. حتى ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 التي سكت عنها الغرب، عادت من جديد إلى الواجهة مع ضرب الجسر الذي بناه الروس، وما تلاه من قصف صاروخي روسي عنيف لإرهاب المدنيين كما تفعل المنظمات والأنظمة المافوية عندما تنهزم في ميدان المعركة.

سيناريوهات محتملة

إلى أين تتجه إذا الحرب الروسية على أوكرانيا، وهل من سيناريوهات محتملة للخروج منها ؟
لمعرفة ذلك لا يكفي رفع الشعارات الرنانة المنتقاة من ملف الحرب الباردة ، فهي لم تعد تعبر عن واقع ملموس.
علينا أن نتصور ما سيحدث بناء على طبيعة القوى المشاركة في الصراع وإمكاناتها العسكرية والمادية وتحالفاتها الدولية وأهدافها بعيدة المدى.
أولا نظام الكرملين أو بالأصح نظام بوتين هو أقرب إلى سلطة طغمة منه إلى نظام سياسي، هذه الطغمة لا تعبر عن حقيقة الشعب الروسي، يكفي لإدراك ذلك رؤية طوابير الشباب من الطبقة الوسطى المتعلمة، وهم يصطفون على حدود دول الجوار هربا من التعبئة العامة، خوفا من موت محتمل على جبهة لا تعنيهم ولا تعني مستقبلهم، كازاخستان وحدها استقبلت أكثر من مئتي ألف مواطن روسي هارب، ويزيد العدد الإجمالي عن سبعمئة ألف.
هذا النظام لا يهدف في حقيقته إلا إلى بقائه نفسه وإحكام السيطرة على روسيا وشعبها ، وليس كما يدعي الحفاظ على أمن روسيا وتدمير الغرب وتغيير قواعد اللعبة الدولية.
من ناحية القوة هو يمتلك جيشا كان يعتبر الثاني في العالم ، بالإضافة لترسانة نووية هي الأولى. أما اقتصاديا فهو يعتمد بشكل كبير على الدخل الريعي النفطي والغازي وخصوصا المصدر لأوروبا، ولا يتجاوز دخلها القومي الدخل القومي الداخلي لإسبانيا. على عكس أوكرانيا ، ليس للرئيس الروسي حلفاء يتبنون سياساته العدوانية واحتلاله لأجزاء من أوكرانيا.

البعد الاقتصادي

هؤلاء الذين يعتبرهم بوتين حلفاءه الكبار وهم الهند والصين لا يهمهم إلا البعد الاقتصادي لروسيا من ناحية تصدير الطاقة والأسلحة، وليس الدخول في مواجهة مع الغرب الذي يمثل أهم الأسواق أمام منتجاتهم، وتتمسك هي أيضا بمبدأ سيادة الدول، وامتنعوا عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الاخير بخصوص ضم الأراضي الأوكرانية لروسيا، ذلك القرار الذي دعمته الأغلبية الساحقة من دول العالم، مظهرا عزلة روسيا المتنامية.
روسيا البيضاء الحليف الوفي بسبب ارتباط نظام لوكاشنكو بإرادة بوتين الذي ساهم بدعمه قبل بضع سنين أمام انتفاضة شعبية عارمة، تجد نفسها بين نارين روسيا من جهة وشعب أثبت على أرض الواقع رفضه للحرب الروسية.
أما إيران وكوريا الشمالية فهما أقل بكثير من أن تعادل بدعمهما العسكري ما يقدمه الغرب لأوكرانيا.
لا يجمع كل هذه الدول أي تحالفات عسكرية على مستوى دول حلف شمال الأطلسي، بل لها في بعض الأحيان خلافات وحروب.
بالنسبة لما قد يسمى الحليف العربي كموقف تلك المشاركة في منظمة أوبيك بلس، بخفض مستوى الإنتاج لزيادة أسعار النفط خدمة لبوتين، مواقفها تندرج في حقيقتها في حرب هذه الدول ضد الربيع العربي، مظهرين تحالفهم الطبيعي مع نظام استبدادي بدأ في الانهيار، وكأن ذلك سيغير شيئاً في نتيجة الحرب.
الاحتجاجات الشعبية في إيران تزيد الخوف بوصول العدوى إلى هذه الأنظمة نفسها. التقارب بين دول الخليج وروسيا بدأ منذ سنوات عدة في مجال الدعم العسكري والتنسيق النفطي.
كان ذلك ممكنا بسبب عدم اكتراث أمريكا بذلك، النموذج السوري مع تراجع أوباما وترك المكان لروسيا هو أحد أهم مظاهر هذه السياسة.
أما الآن فالأمور قد تغيرت ولم يعد هناك مكان لروسيا من المنظار الأمريكي. لذلك فإن هذه السياسة العربية تجاه موسكو ستجد حدودها قريبا، يرجع ذلك إلى الهيمنة الأمريكية الكاملة منذ عشرات السنين على هذه الدول خصوصاً على مستوى الحماية العسكرية لأنظمتها، وهي من يزودها بالسلاح والعتاد وليس روسيا. للأسف الدول العربية على غناها إلا أنها فاقدة للسيادة الوطنية ولا تملك قرارها بنفسها.
بالنسبة لنا كشعوب فنحن لن نقبل من منطلق العروبة التحالف مع من احتل سوريا وشرد أهلها وقتل أطفالها ودمر أجمل مدنها، ومن منطلق أننا مسلمون لن نقبل التحالف مع من دمر الشيشان وقتل ربع سكانها، ومن منطلق التضامن الإنساني لن نقبل كبشر أن تحتل دولة دولة أخرى ونحن في فلسطين نعاني من احتلال أجنبي منذ عشرات السنين ونطالب جميع الشعوب التضامن معنا.

المعايير الحضارية

في المقابل فنظام الحكم في كييف هو نظام منتخب ديمقراطيا حسب كل المعايير الحضارية الحديثة. لذلك يستطيع دون وجل ولا كذب التعبير الحقيقي عن الشعب الأوكراني، وتعبئته ودفعه إلى النصر. وهو ما نراه يوميا مع بسالة المقاتلين الأوكرانيين على كل الجبهات والتفاف الشعب حولهم.
تمكنت أوكرانيا على مدى العشر سنوات الماضية من بناء جيش مجهز بأحدث الأسلحة، وهو مدعوم بشكل كامل وقوي من حلف شمال الأطلسي، وكافة الدول الغربية في العالم.
هذه المرة اكتشفت هذه المجموعة دور أوكرانيا الاستراتيجي في الدفاع عن أوروبا نفسها، والتي كانت تعتقد أنها بعيدة عن التهديد العسكري. هذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحده يتعدى كونه تحالف مصالح آنية إلى تحالف لبناء مستقبل أكثر امنا. اكتشف الغرب أن أحلام السلام الدائم بعد الحرب العالمية الثانية وزوال الخطر السوفييتي كان خطأ تاريخيا يدفع ثمنه الآن من أمنه واقتصاده وسيادته. لذلك سيدعم أوكرانيا حتى النصر وإن احتاج الأمر فقد يشارك أكثر مباشرة بالقتال. هؤلاء المراهنون على تفكك التحالف الغربي خاطئون هذه المرة.

حرب نووية

على ضوء هذه الصورة للقوى الفاعلة ، ما هي احتمالات مستقبل الحرب ؟
الاحتمال الأول هو التوسيع في اتجاه حرب نووية، بعد فشل الحرب التقليدية الروسية في تحقيق أصغر أهدافها، هذا ممكن نظريا بسبب امتلاك روسيا ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية، إلا أن هذا لا يتوافق مع طبيعة النظام، فهو يهدف أولا وأخيرا إلى البقاء وليس الانتحار أو تدمير عدو مفترض، خصوصاً أن هذا العدو كان أكبر داعم للاقتصاد الوطني بشرائه الغاز والنفط، كما أنه سكت عن كل انتهاكات حقوق الإنسان. نحن نعلم أن الاوليغارشيا الروسية تستثمر رؤوس أموالها المنهوبة في الدول الغربية بشكل عام بدل فعل ذلك في روسيا أو الدول ذات الأنظمة المشابهة. هذا الاحتمال يبقى مؤجلا حتى ولو هدد بوتين العالم بسلاحه النووي ليلا نهارا، الشعار الذي يحمله هو ” البقاء في السلطة مهما كان الثمن”.
الاحتمال الثاني هو الانتصار الأوكراني التام واسترجاع الأراضي المحتلة، هذا ممكن من الناحية الواقعية ونحن نرى تقدم الجيش الأوكراني. لكن هل سيقبل الروس بهزيمة عسكرية تدمر سمعتهم لسنوات طويلة كمصدر لبيع الأسلحة ، وكقوة مؤثرة.
الاحتمال الأكبر هو أن تتجه روسيا نفسها إلى محاولة الاحتفاظ بالقرم، عبر وضع مستقبل المقاطعات الأربع المضمومة مؤخراً على طاولة المفاوضات، وقد تدفعها ثمنا للحفاظ على ملكية شبه الجزيره وديمومة النظام، بدل خسارتها عسكريا دون مقابل.
الاحتمال الثالث هو نتيجة ما نراه حاليا من تململ داخل مراكز القيادة في الكرملين، واحتمال تغيير داخلي شكلي عن طريق إزاحة بوتين والبدء في مفاوضات على القاعدة نفسها أي الإبقاء على ملكية القرم وديمومة النظام دون بوتين.
الاحتمال الرابع هو تحرك الشعب الروسي نحو ثورة للإطاحة بالنظام وبناء روسيا ديمقراطية. للأسف لم يعودنا الشعب الروسي في تاريخه الحديث على مثل هذه الثورات، هروب مئات الآلاف حالياً من التجنيد إلى دول الجوار بدل الاحتجاج دليل على ذلك، قد يرجع ذلك لعدم وجود قيادة معارضة فعالة أو تنظيم معارض شعبي، الشعب الروسي يعيش في حالة تشرذم وتفكك كما يحدث في الدول ذات الأنظمة المستبدة والتي لا تترك مجالا لأي معارض.
لكن احتمالات ما بعد الحرب قد تكون أسوأ من الحرب نفسها لروسيا، فنحن أمام قوى غربية مسيطرة في كافة المجالات ولن تقبل أن تجد على حدودها دولة تشكل لها ولمستقبل شعوبها خطرا وجوديا مثل الخطر النووي. لذلك فهذه الدول بقيادة الولايات المتحده الأمريكية ستتجه على أقرب الظن إلى نوع يشبه سقوط الاتحاد السوفيتي، أي انفراط عقد الفدرالية الروسية، وتجريدها من ترسانتها النووية كما فعلوا سابقا مع أوكرانيا نفسها. الولايات المتحده سبق لها أن فعلت ذلك في العراق لإنهاء أي خطر منه نحو إسرائيل، وتاريخ الغرب يظهر مدى مقدرة هذه المجموعة على تقسيم الاخرين، مثل الهند من قبل بريطانيا أو تقسيم الإرث العثماني والذي ما زلنا نعيش آثاره بعد قرن، وأمثله عديده أخرى.
الأحداث علمتنا دائما في مناطق كثيرة في العالم أن المتوقع لا يحدث في أغلب الأحيان، وأن التاريخ يقرر بنفسه إلى أين يذهب، لذلك فالاحتمال الأخير هو قرار التاريخ وليس قرار من يصنع التاريخ. وكما قال أحد المؤرخين الكبار ” هؤلاء الذين يصنعون التاريخ لا يعرفون أي تاريخ يصنعون”

ميلاد القطب الواحد الجديد. القدس العربي 07/10/2022

هل حقاً تهدف الحرب الروسية على أوكرانيا، إنهاء عالم القطب الواحد لصالح تعدد الأقطاب؟
عالم سيطرة أمريكا إلى عالم أكثر توازناً. المُراقب للأوضاع قبل هذه الحرب، قد يَشُك في ذلك، بل على العكس، تبدو نتائجها عكسية تماماً.

العالمان الشيوعي والليبرالي

حدد الرئيس الأمريكي، ترومان عام 1947، مفهوم العالم ثنائي القطب، عندما قسمه إلى جزأين، العالم الشيوعي في جهة، والعالم الليبرالي في جهة أخرى. من جهة السوفييت ومجموعة من الدول الدائرة في فلكهم. وفي الآخر أمريكا ومجموعة أخرى من الدول الدائرة في فلكها. انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، أدى لهدم هذه الثنائية، لصالح وضع جديد متغير ومتقلب، يمكن تسميته، بعالم «ما بعد ثنائية القطب»، حسب بيرتران بادي، عالم الاجتماع الفرنسي، وليس وحيد القطب، فالقطب المُتبقي، أي الولايات المتحدة، لم يستطع فرض هيمنته بسبب التطور السريع للصين ودول أخرى في العالم على المستوى الاقتصادي والعسكري، بما فيها روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، والتي استعادت التأثير في السياسة العالمية منذ بداية القرن. تعددية الأقطاب هنا تعني بشكل أساسي، أمريكا والصين وروسيا. لكن الواقع يُثبت أن هذه الدول لم تستطع تجنيد وجر دول العالم الأخرى حولها، لتستحق اسم قطب. القطب بالتعريف هو من يَلتف حوله الآخرون. نحن إذاً كنا نتأرجح في سنوات ما بعد الحرب الباردة، بين نظام متعدد الأقطاب وبين نظام ذي قطبين، أو نظام بدون أقطاب.
الحرب الأمريكية في العراق وفشلها الذريع في تحقيق أهدافها، انتقالها بعد ذلك إلى حرب أفغانستان بنتائج مشابهة وخروج مُهين، شكل إعلاناً عالمياً عن نهاية ما سمي من طرف بعض الخبراء، عالم القطب الواحد، وهو ما دفع الصين إلى تقوية نفوذها العالمي، خصوصاً مع تحالفاتها الجديدة مع أفريقيا وآسيا الوسطى، ودفع روسيا إلى التدخل في سوريا، ودول حليفة سابقاً، وقمع الحركات الديمقراطية، كما حدث حديثاً في كازاخستان.

بداية النهاية

هذه الصورة كما يبدو، تُظهر عُقم الادعاءات الروسية، وما يُعلنه بوتين وأصدقاؤه في العالم، من بداية النهاية لعالم القطب الواحد، ودخولنا عالماً متوازناً جديدا، حيث ستجد كل دولة مكانتها في عالم متعدد الأقطاب. هذا الادعاء الساذج على أقل تعبير، يهدف فقط إلى إخفاء حقيقة حروب الرئيس الروسي، والتي تسعى إلى إبعاد أي خطر لانتشار الديمقراطية، أو النظام الليبرالي في روسيا، قد يأتي من الدول المجاورة خصوصاً أوكرانيا، الدولة السابقة المهمة في الاتحاد السوفييتي.
نتائج هذه الحرب، بعد سبعة أشهر، تُظهر أن الأوضاع القطبية العالمية، هي على عكس ما يقول بوتين ومحبوه. أمريكا التي كانت في مسار فقدانها لسيطرتها على دول أوروبا، وحتى على الناتو، والذي لم يعد له دور (عندما أعلن الرئيس الفرنسي أنه ميت سريرياً)، وفي طريق الانكفاء من جديد على نفسها، مع وصول الرئيس ترامب والمحافظين للسلطة، يبدو من جديد أنها استعادت عافيتها، فهي تفرض الآن سياساتها الاقتصادية والعسكرية على أوروبا، وتمكنت بسرعة كبيرة، من إعادة الروح والقوة إلى الجسد المتهالك لحلف الناتو، والذي وجد من جديد هدفاً ليبقى ويقوى، مُمثلاً بالخطر الروسي؛ الاقتصادي (الغاز)، والعسكري مع تهديدات بوتين وأعوانه، باستعمال السلاح النووي. بنفس الوقت أنهت الحرب خرافة الجيش الروسي، الثاني الأقوى في العالم، والذي لم يستطع تحقيق أي من أهداف رئيسه، بل على العكس، فقد عشرات الآلاف من جنوده، وأظهر فساده الداخلي وعجزه التام، عن مواجهة جيش حديث مسلح غربي، مؤدي في النهاية إلى تأكيد تفوق السلاح الأمريكي والغربي على الروسي، مع ما يمثله من ضربة قوية للاقتصاد، حيث يشكل تصدير السلاح، أحد أهم أعمدته، بالإضافة إلى ضربة الحصار الغربي الخانق، في مجالات اقتصادية أخرى.
القطب الروسي على صغره، أي روسيا والدول الدائرة في فلكها، بدأ في التقلص والتفكك، ابتعاد أرمينيا حليفة روسيا التقليدية، وتوجهها نحو الولايات المتحدة، وزيارة رئيسة الكونغرس الأمريكي، نانسي بيلوسي، لها وإعلانها التعهد بدعمها عسكرياً، بالإضافة لتصريحات رئيس كازاخستان، قبل أيام، عن فتحه الحدود أمام الفارين الروس من التجنيد وحمايتهم، ورفضه لسياسة تهديد الدول ذات السيادة، لدليل على التراجع الكبير لهيبة روسيا وهيمنتها على أقرب حلفائها.
ما نراه الآن، وبعد أشهر الحرب هذه، هو عودة أمريكا كقطب حقيقي واحد، تملك كل وسائل السيطرة والهيمنة، مدعومة من أغنى وأقوى دول العالم، وهي الدول الأوروبية واليابان وأستراليا.
هل بقيت الصين في معزل من التأثر من هذه الحرب، وهي الدولة الأهم المرشحة لتكوين قطب سياسي واقتصادي عالمي مع تحالفات واسعة. تدمير هذه الحرب لسياسة الحزام الاقتصادي، أي طريق الحرير الجديد في جزئه الشمالي، المار بآسيا الوسطى وأوكرانيا، والاضطرابات الاقتصادية العالمية الناتجة عن الغزو الروسي، وبدء الاقتصاد الغربي بتغيير سياساته الانفتاحية التقليدية على الصين، لصالح مركزتها من جديد في دول الغرب نفسها. تحالف دول كثيرة في منطقة التأثير الصيني مع أمريكا، إفشال سياسة الصين نحو تايوان، مع إخراج تلك الأخيرة من عزلتها والتعهد بالدفاع عنها، في حالة هجوم صيني (كان متوقعاً عند بعض المحللين نهاية هذا العام)، دفن في رأيي حلم الصين أن تصبح الدولة الأولى في العالم في السنوات القليلة المقبلة، كما كان يتوقع الكثيرون بمن فيهم الغربيون.
أتوقع إن استمرت الحرب لفترة أطول، أن يظهر الشرخ الصيني الروسي والخلافات بينهما أمام الجميع، لما لهذه الحرب من انعكاس سلبي على موقع الصين العالمي.

فترة التردد

نحن نعيش إذاً في هذه الأيام، ميلاد عالم القطب الواحد الحقيقي، وانتهاء فترة التردد وتعدد الأقطاب الوهمية. لم تُنه حرب بوتين على أوكرانيا، عالم الغرب المُهيمن، بل على عكس ذلك، أعادته لهذه الهيمنة، بعد أن كان قد بدأ في فُقدانها. إن كان هناك فشل واحد لبوتين، فهو أنه قوى من كان يَدعي أنهم أعداؤه، بالإضافة لتدمير اقتصاد بلاده نفسها، وعزلها وإفقارها. هذا بالتأكيد سيدفع ثمنه الروس أنفسهم، ولكن أيضاً دولا كثيرة في العالم وفي أولها الصين.

كاتب ومحلل سياسي

غورباتشوف ووهم التغيير

غورباتشوف ووهم التغيير

د. نزار بدران. القدس العربي 04/09/2022

أثار موت أول وآخر رئيس سوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، تعليقات عديدة في الصحافة العالمية وفي الأوساط السياسة. فهذا الرجل، كان وبجدارة، رجل القرن العشرين. وما زالت سنوات حكمه الستة، من عام 1985 إلى عام 1991، حيث استقال علناً أمام جماهير الشعوب السوفيتية، ومن على شاشة التلفزيون، بعد أن رفض البرلمان، إصلاحاته الليبرالية الهادفة لربط اقتصاد الاتحاد السوفيتي المُتهالك مع الاقتصاد العالمي. ما زالت تلك الفترة تُلقي بظلالها على مناطق كثيرة في العالم، وآخرها الحرب الحالية في أوكرانيا. لكن هذه السنوات العِجاف، بالنسبة للروس، حيث ازداد الوضع الاقتصادي تدهوراً، بدل أن يتحسن، مع سياسات البريسترويكا، أي إعادة البناء، لم تكن كذلك بالنسبة لباقي دول الاتحاد السوفيتي سابقاً، فكل دول أوروبا الشرقية، عندما تم رفع الغطاء السوفيتي عن قادتها الشيوعيين المُستبدين، انتقلت وبشكل سريع إلى الأنظمة الديمقراطية، والتحقت في معظمها بالاتحاد الأوروبي، وحتى بحلف شمال الأطلسي. أكبر رمز على هذا التغيير الهائل، هو انهيار حائط برلين، عام 1989، والذي كان يرمز للحرب الباردة وتمزق القارة الأوروبية. انتقلت ألمانيا الشرقية لحضن ألمانيا الغربية، وتدريجياً انتقلت باقي الدول، إلى حضن الاتحاد الأوروبي مع ما يُمثل ذلك بالنسبة لشعوبها من نعمة اقتصادية وحرية مُستَعادة. 

في المقابل، لم يستفد المواطن الروسي من أي شيء، لا على المستوى الاقتصادي، والذي زاد سوءا، ولا على المستوى السياسي أو الفساد ولا على المستوى الرمزي مع انهيار إمبراطورية كانوا هم عمدتها. تدريجياً وبسبب ذلك، ورغم الدعم الشعبي في بدايات السنوات الست، إلا أن الأمور عادت إلى أشبه ما كانت عليه زمن السوفيت، خصوصاً بعد وصول الرئيس بوتين خلفاً للرئيس يلتسن المُثير للجدل، الذي أنهى حرية الصحافة، وكافة الحريات المدنية الأخرى، بعد أن كانت في أوجها زمن غورباتشوف، وأغلق وعطل كافة المؤسسات المدنية، مثل جمعيات حقوق الإنسان. أُغلقت أيضاً جميع الأبواب أمام المعارضة، ولم يعُد يُسمَع إلا صوت الرئيس وجوقته الدعائية. الآن وبعد فترة بضعة سنوات من التحسن الاقتصادي، بسبب انفتاح الأسواق الغربية، أمام الغاز والنفط الروسي، نرى غرق روسيا في مستنقع أوكرانيا، والذي لن ينتج عنه إلا الأسوء بالنسبة للروس، وهو خطر تفكك الاتحاد الروسي.

لم يستطع الرئيس غورباتشوف، رغم حسن نيته، في إخراج الاتحاد السوفيتي من محنته الاقتصادية الطاحنة، التي كان يعيشها في منتصف الثمانينات، رغم إنهائه الحرب في أفغانستان عام 1988. لم تستطع إصلاحاته الليبرالية وانفتاحه على الغرب وإنهاء الحرب الباردة، من تعديل هذا الوضع. المصاعب لم تكن قليلة؛ في الداخل هناك تلك الطبقة الموغلة في الفساد والمستفيدة من حكم الحزب الشيوعي منذ سنوات طويلة، لم يكن لها أية مصلحة بالانتقال إلى الديمقراطية والحكم الرشيد، مع ما يعني ذلك من مكافحة سرقة المال العام. كما أنه لم يستطع تحقيق ما كان يُخطط له من الحد من الإنفاق العسكري، وتحويل الميزانية إلى الإنتاج لصالح المواطن، بسبب قوة المُمسكين بهذه الصناعة والمستفيدين منها. من ناحية أخرى لم يكن بالإمكان طلب الدعم من الدول الغربية، ألمانيا مثلا كانت في أوج مرحلة التوحيد (بين شرقها وغربها) ولم يكن المستشار كول، على استعداد أو مقدرة لمد يد العون. رفض أيضاً الرئيس الأمريكي ريغان، دعم غورباتشوف اقتصادياً ومادياً، بسبب تفكك البُنية الاقتصادية للدولة، وكما قال، لم يكن ليضع مليارات الدولارات في بئر بدون قاع. كانت الصين في ذلك الوقت، بزعامة دنج كزاو بنج، في موقف معاد لغورباتشوف، خصوصاً أنه دعم الحركة الديمقراطية فيها، بعد مذابح ساحة تيننمن في بكين، عام 1989، كما أن نموذجه بالإصلاح السياسي، لا يتناسب أبداً مع أهداف وتطلعات الحزب الشيوعي الصيني، الذي لم يكن يركز إلا على الاقتصاد.

رفض الشعب الروسي لسياساته الاقتصادية وخذلان الغرب له، كتب على هذا الرجل الفشل في بلاده نفسها، بينما نجحت سياساته في الدول الأخرى التابعة سابقاً للاتحاد السوفيتي. 

هل من درس للعرب وشعوب الأرض في ذلك؟. بالنسبة لي فالشيء الذي أستخلصه، هو أن التغيير السياسي لا يمكن أن يأتي بدون إرادة شعبية، تكون هي مصدره وموجهته، الإصلاح من داخل القصر لا يقلب الأوضاع، على الأكثر قد يُصلح بعض الشيء، لكنه في النهاية يصبح مضراً. التغيير لا يمكن أن يأتي إلا من القاعدة. دون ثورات عميقة، تُنهي النظام السابق بكل أعمدته، لا يمكن بناء شيء ثابت. هذا ما تعلمناه من ثورة قصر غورباتشوف، وصوله للسلطة، كرئيس المكتب السياسي للحزب الشيوعي، لم يغير شيئاً في هيكلة السلطة السوفيتية المُتحجرة، والتي في النهاية أزالته. أن ما حمله هذا الرجل، للأسف وحَلُم به، هو حلم كل مواطن في روسيا وفي العالم، الحرية والديمقراطية والرفاهية والسلام. كل ذلك لن يتحقق في دولنا العربية، إن انتظرنا المسيح المنقذ، فلا إصلاحات النظام الطائفي في لبنان، ستُجدي نفعاً، ولا تلك التي يقوم بها أمير المملكة السعودية، أو الحكم الانفرادي الحالي في تونس. 

على شعوبنا أن تستعيد حقها الطبيعي، بأن تكون هي مصدر العمل والفعل السياسي، ومن يُحدد ما يجب فعله، ومن يُمثلها لتحقيقه وإعطاءه سلطة مراقبة. وحدها الشعوب، عن طريق الثورات، من يُزيل كل العقبات والصعاب للنجاح.

وما فشل الرئيس غورباتشوف، إلا بسبب نسيانه لتلك المعادلة البديهية البسيطة، لكنه أيضاً لم يكن من موقعه، في قلب السلطة، ليستطيع القيام بثورة، فأعداءه هم بنفس الوقت أصدقاءه، كانوا محيطين به داخل قصر الكرملين، أو كانوا في عواصم الدول الغربية، والذين لم يكن يهمهم إلا الانتصار في الحرب الباردة، وإبعاد الخطر السوفيتي، ودحر الشيوعية.

حرية التعبير والتفكير مقابل حرية التقديس والتكفير

نزار بدران. القدس العربي 29/08/2022

على هامش محاولة تنفيذ فتوى الإمام الخميني بحق الكاتب البريطاني الهندي سلمان رشدي بسبب رواية كتبها قبل أكثر من ثلاثين عاما لم يعجب عنوانها غلاة التدين الإسلامي، فلا أظن أنهم قد قَرَأوها، فهم غير معنيين أصلا بالأدب العالمي، لكنهم وصموها بالكفر، وحق إذن قتل الرجل دون أدنى محاكمة، بالإضافة إلى الأعمال الإرهابية التي حصلت في السنوات الأخيرة في أوروبا ضد دعاة حرية الفكر والتعبير، واستمرارها في بلاد عديدة من بلاد المسلمين كأفغانسان والعراق، وما يواكبها من قتل للمدنيين الأبرياء، والمدافعين عن الحق بحرية الرأي والإيمان. كذلك تراجع الهيئات الرسمية الدينية عن دورها بالاستنكار وإخراج القتلة من دائرة الإنسانية، والاكتفاء باعتبارهم فقط فئة ضالة نرجو من الله عودتها للطريق الصحيح، ظهر للمجال العام إشكالية حق التعبير الحر وحدوده، هل هناك أشياء يمكن التفكير والتعبير عنها وأشياء أخرى لا تقبل ذلك.

المساحة المفتوحة للرأي

في بلادنا من النادر أن نجد من يطرح السؤال عن كيفية تحديد تلك المساحة المفتوحة للرأي والنقاش والتعبير، وتلك المغلقة، وهل هذه المساحات ثابتة مع الزمن وهل هي نفسها عند كل شعوب الأرض.
بداية سأعطي تعريفا للمصطلحات وبعض المفاهيم .
أولا: حرية التعبير هي إمتداد لحرية التفكير فالكتابة أو الكلام أو الرسم أو السينما هي إمتداد لفكرة أو معتقد داخل الدماغ ، التفكير يسبق إذا التعبير وحرية الأول يحدد حرية التالي والعكس صحيح.
ثانياً: في المقابل فالمقدس هو ما يرفض أن يكون موضع نقاش وهو مرتبط عضويا بمفهوم التكفير فمثلا وجود الله أو الجنة وأشياء أخرى كثيرة هي رمز واضح لما هو مقدس عند المسلمين، الشيء نفسه عند المسيحيين كاليسوع أو الصليب، الشيء نفسه عند الهندوس والبوذيين الذين يقدسون تماثيل بوذا وأشياء أخرى عديدة. لكن استعمال الدين كمصدر للسياسة والتقنين المجتمعي أضفى على تلك القوانين ثياب القدسية وأخرجها من دائرة الفكر والنقاش العام، وسمح بفرض ما تشاءه السلطة من نوعية وشرعية وأساليب الحكم تحت غطاء القدسية وبدون الرجوع إلى النقاش الاجتماعي، الخروج عنها أصبح تحت طائلة التكفير والعقاب وليس إبداء رأي مخالف.

تتسع حرية التعبير عند اتساع دائرة حرية التفكير، وتتراجع المقدسات، والعكس صحيح، فكلما زاد المنطق الغيبي المبني على ما يعتبره المدافعون عنه مُقَدَّسا، تتراجع حرية التفكير وتكبر دائرة التكفير.
هذا ما حصل في أوروبا في الثلاثة قرون الأخيرة، وهو إخراج الدين من السياسة والعمل المجتمعي، وهو ما سمح بوضعهما في إطار النقاش العام، وتحديد القدسية بحيز صغير.

إعمال العقل

هذا كان فكر إبن رشد او ما يقال عن المعتزلة ومبدأ الشك الذي تبنوه، إعمال العقل في كل شيء وحرية الاختيار بعيدا عن المقدسات والمحرمات.
في العالم الإسلامي يُرْفَض القبول بالتفكير بأهم ثلاثة أشياء:
أولاً: قدسية الدين مع أنه في الوقت نفسه يقنن حياة الناس أي الشريعة، فالمقدس هو بالتعريف خارج النقاش لذلك لا تُعَلَّم الفلسفة في المدارس لأنها لا تقبل الغيبيات والمقدسات.
ثانياً: السياسة لأنها حكر على السلطة وَيُعَلِّمُوا أطفالنا دائما عدم الحق في التدخل في السياسة، فشرعية الحاكم جزء من الأشياء المقدسة، وفي معظم الأحيان يحكم بإسم الدين.
ثالثا: الْمُحَرَّم الكلام فيه نهائيا هو الجنس، فنعيش في أوهام طبيعة الجنس الآخر، وما يحق ولا يحق دون أدنى دراية مما يزيد الكبت والتحرش، وانتقاص حقوق الأضعف أي المرأة. في بلاد المسلمين حرية التعبير هي بمستوى حرية التفكير المسموح بها، هي إذا شبه معدومة، إلا إذا عشنا في بلاد الغرب لنتمكن من الكلام. جزء كبير من وسائط الإعلام العربية تصدر من الدول الغربية، بما فيها الإعلام القريب من الفكر الإسلامي. عندما نكون هكذا، يخرج المحرومون من حق التعبير والتفكير في بلادنا، الملتزمون فقط بالمقدسات الدينية أي التي يمنع التفكير بها، يخرج هؤلاء ليشرحوا للغرب منابع وأساليب التعبير السليم، نحن حقا نعيش في عالم وحدنا، وكأن الإنسانية لم تقاتل وتضحي منذ قرون لاسترجاع حقها باعتبار حرية الفكر المستقل خارج الأطر الغيبية، كان إبن رشد ومدرسته تدافع عن ذلك في القرن الثاني عشر ودفع الثمن لشيوخ زمنه وتم نفيه. ولكن فكره هذا عندما وصل أوروبا بعد سقوط الأندلس، مَكَّنَهَا من البدء بزمن التنوير، وهي التي كانت في القرون الوسطى تعيش ويلات الحروب الدينية.

الفكر النَّيِّر

هل سنسترجع فكر إبن رشد أم سنستمر برفضه كما نفعل منذ ثمانية قرون. إن أردنا ذلك فهذا الفكر النَّيِّر هو ما نراه اليوم في الغرب وفي جزء كبير من دول العالم المتحضر، واسترجاعه هو حق أصيل لنا، فنحن من ترجم أرسطو ومن فسره للغرب، وَطَوَّرَه على يد وفكر العلامة إبن رشد وآخرين.
عندما توضع المقدسات والمحرمات مكان الفكر، يصبح التعدي والقتل أحد وسائل التعبير الحر، كما عشناه على أجساد أبنائنا وأهالينا مع التنظيمات المتطرفة كداعش والقاعدة في سوريا والعراق وغيرها، أو كذلك منع الرسم الحر، وناجي العلي كان نموذجا لذلك. هذا الخلط وعكس المفاهيم المنطقية واضح للأسف من كلام وكتابة العشرات من كتابنا الذين يتفهمون دوافع الجريمة تحت حجة تعبير «أدين الجريمة ولكن…» هكذا يعطى المجرم أو أي مختل شرعية عمله وتشجيعها، لأنه يعتقد أنه يقوم بعمل نيابة عن ملايين المسلمين فيصبح أمام نفسه بطلا، ويعتبره كذلك آلاف الناس ألبسطاء. يكفي أن نتابع وسائل التواصل الاجتماعي لنرى الكم الهائل من رسائل الدعم والتفهم والتشجيع لهذه الأفعال المشينة.
مسؤولية من يعتبر نفسه مؤثرا في الرأي العام كبيرة جداً، ويجب أن لا نكتب ما يمكن فهمه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كتشجيع وتشريع للقتل. في آخر تغريدة لمهاتير محمد رئيس ماليزيا السابق ذي الشعبية الساحقة عند المسلمين، بعد مقتل أستاذ فرنسي على يد شاب شيشاني داعشي، لم يتوان عن تشريع قتل ملايين الفرنسيين، هو نموذج لهذا الانحراف الذي يسقط به بقصد أو غير قصد قادة الرأي العام.
الإمام الخميني ملهم الثورة الإسلامية عاش عشرين عاما في فرنسا حليفة الشاه في زمنه ولم يمنعه أحد من نشر فكره المحرض على الثورة، بينما كان إصدار فتوى إعدام سلمان رشدي من أول قراراته بعد عودته لإيران وما تلاه من اجتثاث أقرب المقربين له مثل الرئيس الأول لإيران أبو الحسن بني صدر لعدم امتثالهم التام لمقدساته.

تحطيم الوجدانية أو الضربة القاضية /القدس العربي 26/07/2022

تحطيم الوجدانية أو الضربة القاضية

 د. نزار بدران

هناك الكثير ما يمكن قوله بشأن فوائد التجمع على التفكك والوحدة على التمزق؛ المصالح الاقتصادية ، تكاتف الإخوة لحماية الديار، فتح الحدود لعبور الأفراد والبضاىع، حرية العمل والتعلم ، حرية الاستثمار، بناء السلم والسلام، واشياء عديدة جدا تفسر تماما لماذا تجمعت سبع وعشرون دولة لإقامة الاتحاد الأوروبي ، كذلك تجمع دول أمريكا الجنوبية أوتجمع دول أمريكا الشمالية.

إقامة تكتلات واسعة

نحن إذا أمام ظاهرة لإقامة تكتلات واسعة، وما دعم الغرب لأوكرانيا بالمال والسلاح إلا أحد ظواهره. الاسباب الوجيهه تبدو كالشمس ليست في حاجة إلى شرح وتبرير.
العرب يشكلون في هذه الظاهرة استثناء عجيبا ، فهم بالإضافة لكل ما ذكرنا من أسباب، تجمعهم أيضا عوامل إضافية مهمة جدا، في غالبيتهم الساحقة تجمعهم وحدة اللغة ، ووحدة التاريخ ، وللغالببة العظمى وحدة الانتماء الديني، هذه العوامل الأخيرة لا نجدها في مناطق أخرى في العالم ، فدول أوروبا تتكلم لغات عدة، حتى أن في داخل بعض دولها مثل بلجيكا أو سويسرا يتكلم الناس لغات مختلفة.
ولكن أهم شيء يميزنا هو ما أسميه وحدة الوجدان. وحدة الوجدان هذه تعني أنني أشعر بالآخر وكأنه جزء مني وأنا جزء منه ، نحب ما يحب ونكره ما يكره ، يترجم ذلك بحبنا كلنا للغناء والموسيقى العربية من أي قطر أتت ، نحب كلنا الأكل العربي مهما كان موطنه، نحب الأدب والشعر العربي، نحب الهندسة المعمارية العربية.
نحن أصدقاء لشعوب عديدة مثل الأتراك أو الإيرانيين ونتمنى لهم كل خير، ولكن لا تجمعنا معهم وجدانية مشتركة.
لكن أوضح شكل لهذه الوجدانية هي تضامننا كشعوب عندما يعتدى علينا ، لن تجد من سيقف مع المعتدي من أبناء الأمة ( باستثناء الأنظمة).
كنا كلنا لبنانيين عندما غزت إسرائيل جنوب لبنان ، وعراقيين عندما كان المعتدي إيران أو الولايات المتحدة.
وكلنا فلسطينيون في حروب غزة المتعددة، كل إنسان في هذه الأرض العربية الواسعة يرى أن تضامنه الوجداني العاطفي مع فلسطين هو حاصل تحصيل وليس بحاجة لشرح الأسباب والعلل لذلك ، الوجدانية ليست بحاجة لتبرير ومصالح مشتركة ، هي مثل الحب تعبير مباشر من القلب، وما إقالة الوزيرة الأميرة التي رفضت لقاء المسؤولين الإسرائيليين في البحرين إلا أحد مظاهره المشرفة.

الأنظمة العربية

قد يسأل القارئ لما هذا الإصرار على هذا الجانب ونحن نريد أن نحكم العقل أولا. الجواب أن الأنظمة العربية حطمت كل عوامل الوحدة التي ذكرناها في البداية، وتفرض علينا التفرقة والتناقض وتقوي كل أشكال الطائفية والنزاعات الداخلية، فلا اقتصاد ولا حدود نحميها بل دول على شكل سجون. لكنها لم تستطع أن تحطم وتجزئ وجدانيتنا الواحدة.
هنا اكتشف أنني كنت مخطئا في تقديري هذا، لأن قيادات الشعب الفلسطيني وفئات من مثقفيه والذي هو مركز هذه الوجدانية لم تجد حرجا في وضعنا خارج الوجدانية العربية تحت حجج واهية ، ماذا يعني العودة لحضن الأسد ، وهل هذا ما ينتظره الشعب السوري من أخيه الفلسطيني، قبل ذلك الارتماء باحضان النظام الإيراني.
أليس ذلك هي أحسن وسيله لتحقيق أمل إسرائيل بإبعاد الشعوب العربية عن الشعب الفلسطيني ، ألا تفسر هذه اللامبالاه بآلام إخوتنا في سوريا او مناطق اخرى ابتعادهم عنا ، هل التنسيق الأمني مع إسرائيل من جهه ومع القوى الفاشية في المنطقة من جهة أخرى، والوقوف مع الأنظمة ضد الشعوب أليس ذلك سببا بانهيار شارع الدعم العربي لفلسطين ، لم نر أحدا ما عدا القلة القليلة تحتج في العاصمة المغربية على زيارة رئيس الأركان الإسرائيلي ، ولا الزيارات المتعددة لمسؤولين إسرائيليين للدول المطبعة، ونحن كنا أول من ذهب ليهنئ ويدعم الوزير الأول المغربي حين وقع اتفاقيات التطبيع برعاية أمريكية، في محاولة فاشلة لانقاذه عن طريق تفعيل الوجدان الفلسطيني للشعب المغربي.
الوجدان المشترك هو كالإسمنت يلصق قطع الطوب بقوة لنبني بيتنا الواحد، هذا واضح جدا في الوجدان الأمريكي وما يعطي القوة لهذا البلد ، كل الأمريكيين فخورون للانتماء لهذا البلد مهما اختلفت ألوانهم، وينحنون أمام علمها، هو الوجدان المشترك من ينقص حاليا في أوروبا ويجعل بناءها هشا رغم نجاح الاتحاد الواضح في المجال الاقتصادي ، كما رأينا مع انسحاب بريطانيا.
هو حالياً يعود للحياة مع الاعتداء الروسي على أوكرانيا وتهديد أمن اوروبا، والذي أعطى الشعور للمواطنين الأوروبيين أنهم في قارب واحد.
الوجدان الواحد يقوى أمام الأزمات والحروب في كل بلاد العالم ، إلا على ما يبدو في بلادنا ، فكلما اعتدي علينا وسرقت أراضينا وهجرت شعوبنا ، كلما زدنا فرقة.
نحن نعيش الآن محاولة جادة وتنفذ بأيدينا لتدمير الوجدان العربي المشترك، والذي كان آخر مظهر من مظاهر التضامن، تشارك فيها ليس فقط الأنظمة المستبدة ولكن أيضا من يدعون الدفاع عن فلسطين وشعبها، هو كمن يحل الصمغ أو يزيل الإسمنت، والذي دونه لن نستطيع بناء أي شيء صلب ودائم.

طفولة الشعوب. القدس العربي 17/07/2022

طفولة الشعوب

طفولة الشعوب
نزار بدران

لم يكتف مؤسس علم النفس الحديث سيجموند فرويد بشرح أعماق النفس البشرية وما تحتوي من تناقضات، بل وسع ذلك إلى المجتمعات وليس فقط الأفراد. حاول فرويد إسقاط مفهوم طفولة الأفراد وتطورهم التدريجي نحو البلوغ على المجتمعات الإنسانية، ما يميز الطفل عن البالغ هو الحرية التي يتمتع بها هذا الأخير والمسؤولية التي تنبثق عنها ، أي المقدرة على تحديد ما يريد بنفسه والعمل الجاد على تحقيقه. الطفل لا يمتلك هذه الإمكانية، هو تحت رقابة والديه اللذان يحددان له ما يجب أن يفعل أو ما يجب الامتناع عنه. لذلك هو فاقد للحرية وبنفس الوقت لا يحمل أية مسؤولية. والداه يجازيانه إن نجح ويعاقبانه إن فشل. مقابل ذلك فهما يؤمنان له الحماية وكل مقومات الحياة.
طفولة الشعوب عند فرويد تعني عدم تمكن شعب ما من تحمل مسؤولية حياته، هو يبحث دائما عن أب يحميه ويتحمل مسؤولية ما يحصل له. فرويد يفسر هكذا كثيرا من المعتقدات الغيبية، والتي تحدد للانسان ما يجب أو ما لا يجب عمله، دون الحاجة إلى تحمل عناء التفكير بنفسه، مع ما يتبع ذلك من جزاء أو عقاب. بدأت طفولة الشعوب هذه بالانحسار في الأزمنة الحديثة، بعدما سادت البشرية قرونا طويلة، وبدأت شعوب كثيرة تصل إلى مرحلة البلوغ. هذا يعني أن هذه الشعوب بدأت تحصل على حريتها، وما ينتج عن ذلك من تحمل مسؤولية نفسها. هي تقرر مصيرها ولا تنتظر عقاب أو جزاء أحد، ولم تعد تبحث عن أب يحميها ويتحمل مسؤولية فشل أعمالها.

هل وصلت الدول العربية إلى هذه المرحلة؟ وهل تحررت من مرحلة الطفولة، هل استرجعت حريتها وواجب تحمل مسؤولية نفسها. لو أردنا استكشاف ذلك مما يكتبه الذين يعتبرون أنفسهم مفكري الأمة وممثليها على المستوى الثقافي والفكري والسياسي ، فإننا قد يراودنا بعض الشك.
مثلا لا حصرا ، بعد ستين عاما من استقلال الجزائر، وطرد المستعمر إلى لا عودة، ما زالت السلطة الجزائرية تحمل فرنسا بشكل خاص مسؤولية فشلها الاقتصادي وفقر حال المواطن، وتتهمها بالوقوف وراء الاحتجاجات الشعبية التي عمت البلاد. في المقابل نرى قوى المعارضة السياسية تتهم السلطة بدورها التبعية لفرنسا. وما زال الشعب الجزائري يحاول بنفسه مباشرة استرجاع حقه بتحمل مسؤولية نفسه ، والشعوب قادرة على ذلك. نفس الشيء تقريبا نجده في أماكن متعددة حتى أن جزءا من الطبقة السياسية اللبنانية لم يتوان عن طلب تدخل فرنسا المستعمر السابق لحل مشاكله مع شعبه، معلنا بهذه الطريقة تصرفا طفوليا غير مسؤول. هذه الوضعية تناسب بكل تأكيد اطراف السلطة أولا ، لأنها تبعد عنهم مسؤولية الدمار الذي يحل في بلادنا بسببهم، فدمار سوريا ليس نتيجة براميل النظام ، وإنما بسبب المؤامرات التي حاكها المستعمرون.

في المقابل لو قرأنا قليلا عن الهند، والتي عانت من الاستعمار البريطاني لقرون طويلة (1757–1947) ، فإننا لا نرى أحدا يتهم بريطانيا بمآسي الهند الحالية ولا حتى تقسيمها عند الاستقلال، هي الآن أحد دول مجموعة العشرين وتعرف أعلى معدل نمو بينها منذ عام 2014. الصين أيضا تم استعمارها من قبل دول غربية عدة ، ومن اليابان. لا أظن أنني بحاجة لاذكر القارىء بمكانة ونضج الصين حاليا والتي تعامل اعتى الدول من مفهوم الند. على مستوى أقل، دولة مثل فيتنام ، وهي تشبه بحجمها كثيرا من دولنا العربية، عانت كثيراً من الاستعمار الفرنسي ثم الحرب الأمريكية لسنوات طويلة، هذا لم يمنعها من أن تدخل مجموعة ما يسمى نمور آسيا الناشئة ، معظم إنتاجها يصدر للولايات المتحدة عدوها السابق ، ومعظم قطاعها السياحي المزدهر موجه للسياحة الأمريكية، لا أحد في فيتنام يضيع وقته بتوجيه اللعنات والدعوات بالموت لأمريكا.
هذه علامات نضج الشعوب وبلوغها سن الرشد. تلك التي تخرج من عباءة المحتل لتبني نفسها، وتتحمل مسؤولية ذلك ، نحن خرجنا من السيطرة الغربية (باستثناء فلسطين)، ولكن بقينا اطفالا، نفتقد الشعور بالمسؤولية تجاه أنفسنا، ونكتفي بالشكوى والعويل.
هذا لا يعني ان ننسى تاريخ الماضي، وما يعلمنا من عبر، ولكن لا يصح استعماله فقط من أجل التهرب من مسؤوليتنا في أزمات تاريخنا الحاضر.

لتوضيح ماهية النضج وماهية الطفولة، يكفي أن نقارن كيفية تعاملنا وتعامل الدول الناضجة في مواجهة نفس النوع من الأزمات. النموذج الأول هو إشكالية اللجوء. كيف تصرفنا نحن دولا وشعوبا مع اللاجئين أبناء جلدتنا ولغتنا وديننا، الهاربين من جحيم الحرب في سوريا والعراق مثلا أو الهاربين من الفقر والبؤس في دول أخرى، وكيف تصرفت الدول الغربية وشعوبها مع اللاجئين القادمين بظروف مشابهه تماما من اوكرانيا، هم لاجئون أوروبيون ينتمون للثقافة والفكر الغربي في جميع نواحي حياتهم مرشحين للالتحاق بالاتحاد الأوروبي. تصرفنا مع لاجئينا كان هو حجزهم وإخراجهم من سوق العمل، وحتى وضعهم داخل مخيمات أقرب للسجون ، تنتظر المعونات الدولية ، من استطاع هرب وذهب بأي وسيلة إلى دول الغرب. أما الدول الغربية مع اختلاف لغاتها وأوضاعها الاقتصادية فقد استقبلت اللاجئين الأوكرانيين كأبنائها. ومنحتهم الحق في الإقامة والعمل ، بالإضافة للدعم المادي وادخال أبنائهم المدارس وغير ذلك كثير. كيف ينظر المواطن اللبناني إلى أخيه اللاجىء السوري أو الفلسطيني، ينظر إليه كمنافس خطير على لقمة العيش، بلا أدنى حقوق إنسانية، والدولة اللبنانية لا ترى فيه إلا خطرا على التوازن الطائفي.
النموذج الآخر هو كيف تصرفت الدول الغربية مع الهجوم المدمر الروسي على أوكرانيا، وكيف تعاملت الدول العربية مع نفس الهجوم الروسي على سوريا. كثيرا من المواقف العربية الرسمية ومجموعة كبيرة من دعاة الفكر والأدب وحتى افرادا بسطاء وقفوا إلى جانب المحتل في موقف غريب جداً, بينما تقف كل الشعوب الأوروبية دون استثناء وبكل مكوناتها واتجاهاتها الفكرية من أقصى اليسار الى اقصى اليمين وحكوماتها مع الشعب الأوكراني، وتزوده بكل ما يحتاجه.
أخيرا كيف تتعامل الدول العربية مع الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تهم المواطن العربي، وكيف تتعامل الدول الغربية في ظروف مشابهة. في أوروبا يجري توحيد الطاقات كما رأينا مع جائحة كورونا، الحدود الداخلية لدول الاتحاد مفتوحة دائما، توحيد سوق العمل وقوانينه، لا حدود أمام من يود الاستثمار العمل أو التعلم. مقابلها في بلادنا، حدود حديدية لا يمكن تجاوزها، وما يؤدي ذلك من استحالة إقامة أي مشاريع مشتركة واضاعة ملايين من فرص العمل.
أن ننتقد الغرب لأنه لم يستقبل اللاجئ السوري أو العراقي أو الأفغاني بنفس الطريقة التي استقبل بها اللاجئ الأوكراني، هو ناتج عن عقدة عربية خاصة بنا دون غيرنا، وهي أن على الغرب مسؤولية حل مشاكلنا وليس مسؤوليتنا نحن،. الحرب في أوكرانيا هي حرب في أوروبا ويتحمل الغرب المسؤولية في التعامل مع نتائجها، وهو يقبل من أجل ذلك ان يدفع الثمن من رفاهيته ومستوى معيشته. علينا نحن كشعوب وحكومات أن نواجه مشكلة الحروب الداخلية واللجوء والهجرة في بلادنا ، وليس الاكتفاء فقط بتصديرها إلى أوروبا.
حياة الأمم مثل حياة الأفراد تمر دائما بمرحلة طفولة، قد تطول أو قد تقصر، ولكن يجب أن تنتهي. معظم شعوب العالم حولنا نماذج لما وجده فرويد في علمه، ودليل على صدق استنتاجاته.








توقعات نهاية الحرب في اوكرانيا. القدس العربي 19/5/2022

توقعات نهاية الحرب في اوكرانيا

د. نزار بدران

هل من إمكانية لتوقع كيفية إنتهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي يبدو أنها ستطول كثيراً. يوحي الوضع الحالي، والتصريحات الرسمية، للمسؤولين الروس، أنهم رغم إنهاك جيشهم وخسائره الكبيرة، مصرون على الاستمرار حتى ولو اضطروا إلى استعمال الوسائل النووية، وما تحمل من نتائج كارثية على الإنسانية جمعاء وكوكب الأرض.

كيف لنا في هذه الغابة الشائكة، من الاحتمالات المتناقضة، أن نتوقع المستقبل، ولو القريب منه. هل الغرب على استعداد لدعم أوكرانيا إلى ما لا نهاية، وهل الصين ستبقى على موقفها المتفرج، البعيد حقيقة عن التحالف مع روسيا. لا نرى حتى اللحظة، إلا زيارات رؤساء ومسؤولي الدول الغربية إلى كييف، وإعلان جزء كبير منهم، عن النية لإيقاف بوتين وفرض الهزيمة الكاملة عليه. هل هذا حقاً موقف استراتيجي، أم تكتيكي، في انتظار عودة الخطاب الروسي إلى نبرة أقل حدية. ما أظنه شخصياً مربط الفرس، في هذه التوقعات، هو تحديد طبيعة النظام الروسي، فهي من سيُحدد مدى استعداد الجيش الروسي، السير بالحرب رغم الصعاب أو التوقف. 

الأنظمة السياسية المستبدة، والتي ينتمي إليها بوتين، (رغم انتخاباته المشوهة، حيث لا وجود لأي معارض)، ليس لها جميعا نفس اللون. هناك بتقديري على الأقل ثلاثة أنواع؛ الأول ذلك الذي يتبع مبدأ العقد الاجتماعي، على طريقة توماس هوبز. أي تخلي الناس عن حريتهم بإرادتهم لصالح النظام المُستبد، مقابل تأمين هذا النظام لهم الأمن والسلام والازدهار. هدفه الأساسي، إنهاء الصراعات الداخلية. هذا النموذج ينطبق على الصين، فهو ينطلق دائماً من مصلحة الشعب والدولة الصينية، من منظار المستولين على السلطة. فرغم مذابح تينن من، عام 1989، وقمع المعارضة، إلا أن الصين تؤمن لمواطنيها السلم والأمن والتقدم المستمر.

النموذج الثاني، هو الأنظمة العقائدية، وهي شديدة الخطورة، لأنها لا تبحث عن حماية الدولة والشعب وتأمين الحياة الكريمة، وإنما إلى انتصار فكر عقائدي معين. مثال ذلك الاتحاد السوفيتي سابقاً، أو كمبوديا بول بوت، أو حديثاً، الأنظمة الدينية كما نرى في إيران أو أفغانستان. المهم هو تطبيق ما يظنونه أفكار ماركس هنا، أو الشريعة هناك، رغم كل ما تؤدي إلى تناقض مع مصالح الشعب بالأمن والسلام والحياة الكريمة.

النموذج الثالث، هو ذلك النظام المافيوي، المبني على استيلاء مجموعة من أصحاب النفوذ على السلطة، لصالحهم الخاص فقط، دون اي اعتبار لأي عقيدة أو أي مصلحة وطنية. هدفهم الوحيد هو الاستحواذ على موقع القرار، وما الدولة والشعب، إلا وسائل لتحقيق هذه المصلحة، دون أي اعتبار للأمن والسلم الداخلي، أو ازدهار البلاد وتطورها. هذا للأسف، يُعبر عن الأوضاع في كثير من الدول العربية، خصوصاً ذات الثروات المعدنية أو النفطية، والتي لا يهم السلطة فيها، إلا سرقة هذه الثروات لصالح المسؤولين فقط. وهو ما يُؤدي إلى إفقار المواطن وإضعاف الوطن، مقابل زيادة غناء أهل السلطة وعملائها.

من هذا المنظار، كيف لنا أن نصنف نظام بوتين. هل هو عقائدي (كما كان مثلاً هتلر أو ستالين)؟. أم ينتمي إلى عائلة الدول ذات العقود الاجتماعية، حتى ولو كانت على طريقة هوبز. الناظر لبوتين ومن أين أتى، وما فعل منذ وصوله للحكم، بعد أن ورثة عن يلتسن، مقابل صفقة حماية له. يُلاحظ انتماء هذا الأخير، إلى العائلة الثالثة، أي الأنظمة المافاوية. هو لا يملك عقيدة سياسية معينة، ينتمي لأقصى اليمين وأقصى اليسار بنفس الوقت، وهو ما يُفسر دعم هؤلاء له في كل دول العالم، وتسميته بالرفيق عند بعضهم، رغم احتضانه من كل أحزاب وحكام اليمين المتطرف في العالم، كما نرى مع ترامب وبولسنارو ومارين لوبين. هو لم يؤمن للشعب الروسي الحد الأدنى من الحياة الكريمة، عندما نرى مدى تراجع القوة الشرائية للمواطن، وتخلف البلاد على كافة المستويات، بما فيها التغطية الصحية، والصناعة، رغم الدخل الهائل الناتج عن بيع الغاز والنفط. فكل الصناعة التي ورثها عن الاتحاد السوفيتي، موجهة فقط نحو السلاح. هي إذاً دولة ريعية بامتياز، هذا الريع كما نرى، يذهب إلى طبقة الأوليغارك الروسية، وليس إلى جيب المواطن.

لو عدنا من جديد إلى توقع نتائج الحرب، فإننا نرى، أن الأنظمة العقائدية مستعدة للذهاب إلى الهاوية والدمار، كما فعل هتلر في زمنه، وكما تفعل إيران وأفغانستان حالياً. بينما النظام المبني على العقد الاجتماعي، على الطريقة الصينية، يبقى عقلانياً، لا يمكنه تدمير البلاد والعباد، فقط لإرضاء شخص أو مجموعة من المتسلطين. في المقابل، محرك النظام المافيوي الأساسي هو البقاء في السلطة، مهما كان الثمن، وكل ما يفعله يصب في هذا الاتجاه. الحرب على أوكرانيا، تهدف أساساً، إلى إبعاد خطر وجود ديمقراطية في جوار روسيا، قد تكون مصدر عدوى لشعبها، حتى أن بوتين فعل نفس الشيء في دول غير مجاورة بعيدة، مثل سوريا. كل التدخلات الروسية في إفريقيا، هي أيضاً بنفس الهدف، أي دعم الأنظمة المافياوية المشابهة وإبعاد خطر الديمقراطية، هو ما يُسميه أصدقاء بوتين «إنهاء السيطرة الغربية، وإقامة نظام متعدد الأقطاب»، بينما في الحقيقة، الشيء لا علاقة له لا في الغرب ولا في الأقطاب. الهدف هو فقط إحكام السيطرة على روسيا وشعبها.

ماذا يمكن لبوتين عمله الآن، وهو يواجه ما لم يتوقعه في مشروعه الأوكراني، والذي حطم صمود شعبها، أحلامه الوردية. هل سيتصرف كدولة مثل الصين، أي البحث عن مصلحة الشعب الروسي. هذا ليس في وارد وفكر هكذا النظام، أم سيذهب للنهاية، وتطبيق منطق (علي وعلى أعدائي يا رب) كالأنظمة العقائدية، هذا أيضاً ليس ممكناً، فهو لا يُدافع عن عقيدة معينة. وليس عدائه للغرب إلا حجة واهية يُقدمها فقط للشعب الروسي، ليبقى مكبل اليدين. كل ناهبي ثروات روسيا، قطط بوتين السمينة، لا يستثمرون أموالهم المنهوبة إلا في البنوك الغربية والأمريكية خصوصاً، وليس في الاقتصاد الروسي.

ما أتوقعه أن يدخل بوتين في مربع النظام العراقي لصدام حسين، أي إنهاء الحرب، دون رفع العقوبات كاملة، ودون أي انتصار لبوتين، لكن مقابل ألا يعمل الغرب على إسقاطه من السلطة؛ هدفه الوحيد. هم أصلاً غير راغبين في ذلك، فقد فشلت هذه السياسة في مناطق أخرى في العالم. ولا أظن أنهم مهتمون حقاً، في تغيير شكل النظام الروسي. تاريخ الغرب الحديث، يُظهر أنهم لم يقدموا أي دعم حقيقي للمعارضة الروسية، بل العكس، تعاملوا مع بوتين كشريك موثوق به، وسكتوا عن كل جرائمه السابقة، داخل وخارج روسيا.

بعد انتهاء الحرب، ستبقى روسيا محاصرة بحجة جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان في أوكرانيا، واحتلال شبه جزيرة القرم، ولكن سيبقى نظام بوتين جاثماً على صدور الروس. الحل الوحيد لهذه المصيدة، التي تقع فيها روسيا، هو أن يتحرك أبناؤها، للتخلص من العصابة التي تحكمهم منذ أكثر من عشرين عاماً، ولم تؤدي، كما قالت الصحفية الروسية المعارضة انا بوليتكوفسكايا والتي اغتالها بوتين عام 2006، إلا إلى الهاوية السحيقة.

دول الغرب، ستضم أوكرانيا لها، وسيتوسع ويقوى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، عكس ما يوهم به بوتين شعبه، وستعود الحياة العادية للعالم، ولن يجد بوتين حلفاءً يحمونه و يدعمونه، فحجم روسيا الاقتصادي لا يسمح بذلك. القوة النووية، لا يمكنها تغيير شيء. هي لا تصلح إلا إلى الإحكام على الشعب الروسي والانفراد به، كما يفعل كيم جونج أون في كوريا الشمالية. 

محبو وداعمو بوتين، من مثقفي الأحزاب اليسارية العربية، أظهروا بمواقفهم الغريبة، مدى إصابتهم بالعمى السياسي. وأضاعوا تلك الفرصة للعودة من جديد، لصف الشعوب المناضلة من أجل طرد المُحتل مهما كان وفي أي مكان كان. خصوصاً وأننا رأينا ونرى دائماً، ما يفعل المُحتل الروسي الشرس، في مدن عربية عزيزة على قلوبنا جميعاً مثل حلب. وما أظهره من عنف لا حدود له ضد السكان المدنيين العُزل في سوريا والشيشان. هل هكذا نظام ممكن أن يكون موضع دعمنا، وهو يدمر أعز ما نملك. سينتصر الشعب الأوكراني الشجاع لا محالة، كما فعلت قبله كل الشعوب الشجاعة، من الجزائر إلى فيتنام، وسيشكل ذلك بالنسبة لنا عودة للأمل من جديد في سوريا ومن بعدها شعلة الربيع العربي.