حرب الجبناء في سوريا

26/08/2016

حرب الجبناء في سوريا

د. نزار بدران

ماذا فعل أطفال وأبناء حلب وسوريا، لروسيا وبوتين، حتى يستحقوا كل هذه الهمجية، والقتل القادم من السماء؟ غير مطالبتهم بالحرية.
صوت الحرية القادم من دمشق ودرعا وحلب وحمص وحماة، هو الذي أخاف قيصر الكرملين، فصوت الحرية عال وقوي، ويصل إلى كل مكان. صوت الحرية هذا سيصل للشعب الروسي، وإن تحرك فلن يُبقي على بوتين ولا على نظامه.
حرب الجبناء الروسية، هي حرب الخائف المُرتعد الأوصال، من صحوة شعبه، يريد عن طريق إسكات أصوات الآخرين في سوريا أن يطفئ نورها ونارها بموسكو.
أن يُقتل الأطفال والنساء، وتُدمر المدن بدون أي هدف عسكري، هي حرب الجبان، الذي يستقوي على الضعيف، لمعرفته بعدم امتلاك الثوار السوريين، لأسلحة قادرة على إسقاط طائراته.
حرب الجبناء، تتجلى في ضرب المدنيين، عندما يعجز “أرباب القوة” عن هزيمة المقاتلين، ليستعملوا التجويع وحصار المدن والقرى السورية، وسيلة لإسكات صوت الحرية. طائرات بوتين وصواريخه المُجنحة القادمة من إيران ومن البحر، لم تمنع الثوار من فك حصار حلب، ولم تمنع الشعب السوري من الالتفاف حول ثورته.
هل حقاً روسيا تولستوي وبوشكين وغوركي وتشايكوفسكي، الذين غنوا وأغنوا الإنسانية وقدموا لها روسيا الأدب العالمي، روسيا الفن والموسيقى، ستقبل طويلاً أن يقودها إلى المجهول مُجرم حرب؟. أبناء روسيا هم أيضاً تواقون إلى الحرية، ويتذكرون صمود ستالينغراد أمام الهمجية النازية، وسيصلهم لا محالة صوت أطفال حلب، ولن يقبل شعب روسيا أن يُلطخ تاريخه بهذه الجرائم، كما فعل هتلر في زمنه بألمانيا .
تحالف الجبناء، بموسكو وطهران، المرتعدون خوفاً من صحوة شعوبهم حتما ولو بعد حين، لن يُفيدهم شيئاً، فصوت الحرية أقوى وأعلى من انفجارات صواريخهم، وأزيز طائراتهم.

انهزم السوفييت في أفغانستان أمام المجاهدين، وسقط الاتحاد السوفيتي بقوته وجبروته وقنابله الذرية والهيدروجينية وآلاف صواريخه الموجهة. وتحررت دول أوروبا الشرقية من قبضة الروس، التي استمرت سبعون عاماً، ولم تستطع القوة العسكرية الشيوعية، الأكبر بالعالم، أن تمنع ذلك.
انتصر السود بجنوب أفريقيا، ولم تستطع حوالي نصف قرن من الفصل العنصري وقوة البيض العسكرية، وقنابلهم النووية من منع ذلك. وانتصر الشعب التشيلي على حكم العسكر، رغم آلة القتل الرهيبة، التي وضعها بينوشيه، لوئد الديمقراطية.
انتصر الشعب الفيتنامي، على جيش أمريكا، رغم قنابل النابالم، وآلاف الغارات الجوية وآلاف القتلى. وقبل ذلك، انتصر الشعب الجزائري الأعزل على المستعمر الفرنسي المُدجج بالسلاح، وغاندي المُسالم على الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
صوت الحرية هو دائماً أعلى وأقوي من صوت المدافع والطائرات، حتى لو حمله أطفال بعمر عمران، الخارج من أنقاض بيته، أو إيلان الذي قذفه البحر على الشاطىء. فلا نامت أعين الجبناء.

اليوم العالمي لحرية الصحافة حرية التعبير وحرية التفكير

03/05/2015

اليوم العالمي لحرية الصحافة

حرية التعبير وحرية التفكير

د. نزار بدران

يحتفل العالم اليوم الثالث من أيار باليوم العالمي لحرية الصحافة وقد فُقد منذ بداية هذا العام عشرات الصحفيين وسُجن آخرون.

حرية الإعلام وتوصيل المعلومة هي أحد نتائج حرية التعبير وكانت أولى نقاط بيان حقوق الإنسان المُعلن من الأمم المتحدة للعام 1948، وأيضاً أولى نقاط إعلان حقوق الإنسان والمواطن للثورة الفرنسية للعام 1789 .

كان مقص الرقيب قبل زمن العولمة والإنترنت هو الوسيلة المُثلى لتحقيق غرض السلطات لمنع حرية التعبير والإعلام. يمنعون من النشر ما يريدون وبدون علم القارئ. اليوم مع انتشار وسائل التعبير والإعلام الإلكترونية أصبحت مهمة الرقيب على الأفكار التي لا تُلائم سلطته صعبة. وهو ما أدى برأيي إلى تحول هذه الرقابة من وضعها البدائي بالمقص والصفحات البيضاء إلى ممارسة العنف والإرهاب ضد الصحفيين والإعلاميين من سجن وإبعاد وقتل وذلك لتخويفهم وجعل الصحافة تُراقب نفسها بنفسها. هذا ما نراه حالياً في معظم وسائل الإعلام العربية المكتوبة أو المرئية أو المسموعة. فالابتعاد عن ذكر ممارسات بعض الزعماء أو تحليل أوضاع بعض الدول وعدم انتقادها، واضح لكل مشاهد وقارئ ومستمع.

المراقبة الذاتية هي في الحقيقة أخطر من مقص الرقيب، فالخوف من العقاب أشد بطشاً بالمعلومة والخبر والتحليل منه من المقص. وسائل هذا التخويف ليست فقط القتل في بعض الأحيان وإنما أيضاً بتجريم الكتابة؛ باعتماد قوانين ملتوية كالتغريم الذي يؤدي إلى الإفلاس أو المتابعة القانونية والتهديد بالسجن تحت حجج واهية مثل المساس بكرامة الشخص أو بالمشاعر الدينية أو عادات المجتمع أو التشجيع على الإرهاب والعنف. الهدف طبعاً هو منع أي صحفي من الممارسة العادية لمهنته بنقل الحدث والتعليق والتحليل.

ما الهدف من كل ذلك؟، ولماذا هذا الخوف من نقل الحقيقة للقارئ؟. إن الهدف هو منع الناس من التفكير. منع النشر والتعبير لا يمنع أحد من التفكير الذي لا تستطيع أن تصله يد الرقيب، إلا أن انعدام وسائل نقل الفكر للآخرين يمنع تطوره فالفكر لا يأتي إلا بالنقاش وتبادل ألآراء، الهدف إذا هو منع المواطن من التفكير وتركه فريسة للجهل والإعلام الرسمي.

66 صحفياً قُتلوا العام الماضي بحسب مراسلون بلا حدود وعشرات آخرون سُجنوا، ونُصت قوانين مُحدَة للإعلام بدول كثيرة كبيرة وصغيرة.

كل ذلك لمنعي ومنعك أيها القارئ العزيز من التفكير، وأن تستطيع أن تصل إلى أن الوضع الذي نعيشه ليس طبيعياً ويجب تغييره. إنما عليك عزيزي المواطن أن تبقى تحت رحمة الفكر الواحد الأوحد الذي يملك كل الحقيقة، فهو يهدف لتسهيل حياتك اليومية فأنت لست بحاجة لأن تفكر بالظلم والفقر الذي تعيش به !!.

أنت إذاً أيها القارئ والمواطن من يستطيع الدفاع عن الصحافة والصحفيين وحمايتهم عندما تستعمل الوسائل المتاحة في هذا الزمن، التي لا تستطيع يد الرقيب أن تصلها. فلتقرأ ما تشاء على صفحات التواصل ألاجتماعي  وتكتب ما تشاء وتقول ما تشاء ولن يستطيع الرقيب أن يوقف الصحفي الصغير المتواجد في كل واحد من ملايين القراء.

دفاعنا عن الصحفيين والصحافة هو دفاع عن حقنا في التفكير وإبداء الرأي. ونستطيع إن أردنا أن نكسر مقص الرقيب أو نلوي يده.

طبيب عربي مقيم في فرنسا

أمل واعد بعودة الربيع العراقي

10/08/2015

أمل واعد بعودة الربيع العراقي

نزار بدران

قبل ثلاث سنوات، قامت السلطات العراقية زمن المالكي، بمهاجمة المظاهرات السلمية والاعتصامات التي استمرت سنة كاملة، في مدن العراق، خصوصاً في المناطق السنية. وأنهتها بالعنف المفرط، موقعة عشرات القتلى، وفاتحة بذلك الطريق إلى جهنم الحمراء التي تعرفها هذه المحافظات، تحت مُسمى مكافحة الإرهاب، ونحن لم نر في هذه الاعتصامات إلا المطالبة بالحقوق الأساسية للمواطن العراقي، واحترام التعددية والتوازن، ورفض هيمنة طيف اجتماعي على آخر، الكل كان يهدف إلى بناء عراق المواطن وليس عراق المليشيات.

رد فعل السلطة على هذه الاعتصامات، هو الذي أدى إلى دخول الطائفية وحركات الإسلام المتطرف الفاشية، وتمددها حتى سوريا. مليشيات المالكي التي تحمل اسم “قوات الحشد الشعبي” هي في الحقيقة الرد الطائفي، حيث شكل دخول العراق إلى أتون حرب ضروس طائفية، كان نتاج سياسة مقصودة من الحكام الجُدد، الذين يحاولون عبرها أن يبعدوا شبح التغيير الديمقراطي الحقيقي، وفي نفس الوقت إبعاد شبح تحويلهم إلى محاكم الفساد والهدر وسرقة ثروات الوطن.

أربعون مليار دولار هي قيمة الخسائر الاقتصادية المترتبة سنوياً عن نقص انتاج الكهرباء، و 300 مليار دولار منذ العام 2003 (تقرير خبراء/ الجزيرة نت) رغم صرف المليارات على هذه الشبكة، وما زال المواطن المُدلل بالجنوب ذا “الأغلبية الشيعية”، لا تصله الكهرباء إلا لبضع ساعات باليوم، بالإضافة إلى شح الماء، وتزايد البطالة وضعف الاقتصاد، وانعدام الحد الأدنى للحياة الكريمة، بينما يعيش أولئك الذين يقطنون في ما يسمى “المناطق الخضراء” في نعيم وأمان.

استطاع المالكي مدعوماً من الإيرانيين، وبعده العبادي الاستمرار بسياسة حشد الشيعة ضد إخوتهم السنة، تحت حجة الإرهاب والخوف من عودة الماضي الديكتاتوري لصدام حسين. هي سياسة كل الدول الفاسدة والحكومات الطائفية التي تُبعد خطر توحد الجمهور ضدها، لتحويل تناقضاتها مع المجتمع إلى تناقض قوى المجتمع فيما بينها.

هل سيُفشل متظاهرو بغداد والبصرة والجنوب الذين خرجوا بالآلاف، للتنديد بالفساد منذ بضعة أيام وبطريقة سلمية هذه السياسة، هل تُصبح موجة الحر الشديد التي تعرفها هذه المناطق ونتائجها بسبب شُح الكهرباء في بلد النفط والطاقة، شرارة عودة الربيع العربي والاحتجاجات السلمية، هذه المرة من نافذة المناطق الشيعية التي ظنها فاسدوا السلطة ومفسدوها وداعميهم الإيرانيين، أنهم كالنعاج يتبعون ويصدقون ما يُقال لهم. علما أن أبناء العراق من الشيعة هزموا في العشرينيات الاستعمار البريطاني، وجيش أقوى دولة في العالم في ذاك الزمن. هؤلاء لن يستمروا طويلاً بالسير وراء بائعي الأوهام وسارقي أحلام الأطفال بحياة جديدة وسعيدة، بعيدة عن العنف والقتل والموت من الفقر والحر، وهم الذين دفعوا من دمهم الثمن الأكبر والأغلى دفاعا عن وحدة العراق زمن صدام حسين الذي قتل منهم مئات الآلاف.

هذه الأغلبية الشيعية الصامتة، قد تكون مخرجنا للعودة لمبادئ الربيع العربي الذي انطلق من تونس (حرية كرامة عدالة ومساواة وديمقراطية)، والذي أغرقته الأنظمة في بحر من الدماء.

الربيع العربي العراقي إن استمر، قد يواجه بدوره أيضاً بالعنف من قبل السلطة، على شكل تفجيرات وعمليات لداعش والفلول البعثية للنظام السابق وما شابههما، لتبرير قمع السلطات ومنعها لأي مظاهرات وتجمعات سلمية. الطائفية والعنف هو رد السلطات العربية على الربيع العربي، ولكن العودة لجُمعات الغضب والتجمعات السلمية هو رد هذا الربيع المُنتظر والمأمول، لكل ساحات وشوارع مدننا المقهورة.

الطائفية والتقاتل الداخلي بين مكونات مجتمعاتنا، هي ظاهرة دخيلة عليها، وقد تعايشت هذه الطوائف مئات السنين بكل وئام وأخوة. أهلنا في الجنوب والذين كانوا لعشرات السنين الأكثر مظلومية، هم من يُعول عليهم للنهوض من جديد ورفع الظلم عن الجميع.

إن رفع شعارات المواطنة والمساواة بين كل الناس، والمُطالبة بالحقوق الأساسية للمواطن وحقوق الإنسان، كما يفعل أبناء البصرة وجنوب العراق هذه الأيام، كما تضامن السنة مع الشيعة في محنتهم، وتضامن الشيعة مع السنة في مآسيهم، هو الكفيل بتوحيد الشعب العراقي من جديد، ليُبعد شبح التقسيم المُخطط له إسرائيلياً، ويُفشل سياسات الهيمنة والتبعية التي نراها حالياً على قدم وساق في العراق وسوريا ولبنان وغيرها من الدول العربية، في إطار الشرق الأوسط الجديد.

إن تضافر كل القوى الديمقراطية العربية مع أبناء جنوب العراق، كما يجب أن يتضامنوا مع أبناء وسطه وشماله، يبقى هو المطلب الملح للمساعدة لإنجاح هذا الحراك وتوسعه وانتشاره.

 

تدمير الإرث الآشوري إمعانا في التخلف وتدميرا للحداثة والعمران

01/03/2015

تدمير الإرث الآشوري 

إمعانا في التخلف وتدميرا للحداثة والعمران

نزار بدران

 

كنز الأمة وإرث آبائنا وأجدادنا، بما تمثله الآثار الأشورية وغيرها في الموصل، يتمّ تدميرها على يد عصابات “داعش” بشكل همجي،  مع العلم ان الرسول الكريم ومن تلاه من خلفاء للأمة الإسلامية؛ وهم المرجعية الأولى للمسلمين وغيرهم من الفئات  الفكرية، لم تشرع أو تفتي بأي حال تدمير هذه الآثار القديمة، قدم آلاف السنين قبل الميلاد.

 

حينما نتأمل أو نتفكر في هذا العمل، ليس فقط ببعده عن المنطق والقيم الدينية الحقيقية، وإنما أيضاً ببعده عن مفهوم الانتماء إلى زمن نبتعد فيه عن التفكير الإنساني، لنضع مقدراتنا بين أيدي من يؤمنون بأيديولوجيات غيبية، يعتقدون أن الدين المُنزل لا يحمل في طياته مكاناً للفكر. فكل شيء يُفهم على مبدأ العودة إلى تفسير وتأويل، وأحيانا تقويل ما لا تقول به النصوص المُقدسة، حيث يُنصب البعض أنفسهم أولياء على تحليل محتواها، وبعضهم مثل “داعش” وأمثالهم، يقومون بتنفيذ مسلكيات إجرامية على أرض الواقع؛ مثل قطع الرؤوس وتدمير رموز حضارة الأمة.

 

المشكلة ليست في الفكر، بل في منهجيته، متى سنُعطي للفكر الإنساني مكاناً لوضع قوانين مجتمعاتنا، هذا الفكر النابع من معرفة الناس بواقعهم ومعاناتهم. متى سنترك للناس الحرية في أن يختاروا ما يناسب حياتهم، بعد نقاش اجتماعي واسع؟. هكذا تُبنى الأمم وتاريخ كل الأمم المعاصرة الحديثة يُثبت ذلك.

 

في المقابل يمكن القول أن الاعتماد على نصوص دينية مقدسة، لتحديد معايير ثابتة وقوانين قسرية فوق واقعية، لمُجتمعاتنا وحياتها، يدفعنا للانزلاق إلى مُستنقع “داعش”. ففي العالم الإسلامي وخصوصاً السني، نجد العديد من الاختلافات والتناقضات في كامل تشكيلة ومكونات التفاسير والتآويل لأي نص، القول وعكسه تقريباً موجود، وسنجد تنوعاً كبيراً في المجموعات المذهبية، مبنية على أفهوماتها الخاصة لهذه النصوص. فالمُتسامح المُنفتح والمُتشدد المُتخلف، يرجع إلى تفسيرات تُناسب تسامحه وانفتاحه، أو تشدده وتخلفه، وهذا ما نراه يومياً مع الفتاوى التي لا حصر لها على وسائل التواصل والصحافة والإعلام.

 

الفكر الإنساني هو فكر نسبي، يقبل النقاش ويقبل التطور والتغيير؛ بينما الاعتماد على تفسير النصوص المُقدسة لتقنين كل شيء، فهو مفتاح للشمولية، تلك التي تُجرم الآخر وتحل دمه. فمن لا يقبل تفسيرك هو بالنسبة لك ضد النصوص المُقدسة (حسب فهمك) وهو إذاً خارج عن الحق، ويمكن لغلاة التشدد أن يُحلوا قتله، وفي حال الآثار الآشورية وغيرها من آثار الحضارات القديمة فإنه يجري تدميرها.

 

النصوص المقدسة يجب أن تعود إلى موقعها الذي وُجدت من أجله، وهو هداية الناس إلى القيم الأبدية الدائمة، التي لا يُغيرها الزمن، كتحريم قتل النفس بغير حق، إعطاء الزكاة للفقراء، الخُلُق القويم، احترام الأبوين، حب الآخر كذاتك،  التعلُم ولو في الصين، والدفاع عن الأوطان في وجه الغزاة وغيرها.

 

أهل مكة أدرى بشعابها، وأنتم أدرى بشؤون دنياكم، هكذا قال الرسول الكريم. هذه حقيقة الدين الذي يترك أمر الناس لهم، لأن الزمن يتغير، والحضارة تتطور، والأشياء لا يمكن أن تبقى على حالها، هذا هو الدين القيّم الذي يهديك، ولكن لا يحل محل فكرك، أو يصادره مرة وإلى الأبد!.

 

حياة الناس لا يمكنها أن تُبنى على تفسير نصوص دينية لم توجد أصلاً لذلك. نحن الآن على مُفترق طرق، إما أن نرتمي في أحضان الشمولية، كما حصل في الدول الشيوعية والتي بنت نفسها على فكر مُطلق لا يقبل النقاش والتطور، أو ننطلق إلى فتح أدمغتنا وتغذيتها بالعلم والمعرفة والدراسة، ونغنيها بالنقاش الاجتماعي الهادىء، وبناء الجسور مع الثقافات الأخرى، حتى نشارك البشر كافة في أرجاء المعمورة، في بناء حضارة إنسانية مشتركة في زمننا هذا.

 

إن البقاء في عالم الانطواء والغيب، سيُبقينا كما نحن الآن خارج الحضارة، فلننظر إلى تاريخ الأمة الإسلامية وعلمائها العظام؛ كابن رشد وابن سينا وابن خلدون وانفتاحهم على الفلسفة الإغريقية، أو مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو شيخ التنوير في القرن التاسع عشر وانفتاحهما على الحداثة. نحن حقاً أمام طريقين: إما الاستمرار بالإيغال في طريق التخلف، أو الدخول إلى رحاب عالم الحداثة.

 

 

 

 

 

حصار غزة والوضع الصحي

oct 2015

 

حصار غزة والوضع الصحي

نزار  بدران

 

الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة منذ ثماني سنوات، بالإضافة إلى ثلاثة حروب، لم يُقابل من جهة الأنظمة العربية بأي دعم أو تضامن، بل على عكس ذلك غض الكثيرون الطرف، وأشاحوا النظر في اتجاهات أخرى، بينما شارك البعض الآخر بشكل مباشر بالحصار. وقام النظام المصري الجديد بإغلاق الأنفاق التي كانت الوسيلة الوحيدة لإدخال البضائع والتواصل مع الخارج، بدل بناء الجسور ومد يد العون، كما هو مُفترض من أكبر دولة عربية، وأكثرها التصاقاً بقطاع غزة.

لوحده العدوان الإسرائيلي الأخير، أدى إلى خسائر فادحة بالبنية التحتية الفلسطينية بقطاع غزة، بالإضافة إلى آلاف الضحايا، فحسب آخر تقرير لمنظمة الصحة العالمية بتاريخ 15/05/2015، هناك أكثر من ألفي شهيد وحوالي ستة عشر ألف إصابة، ونصف مليون مُشرد، مئة ألف من دون مأوى حتى نهاية العام 2014، وتدمير 22 ألف بيت لم تعُد صالحة للسكن، وبحسب منظمة العفو الدولية تم تدمير عدد كبير من المستشفيات والمراكز الصحية، 117 مستشفى عيادة أو صيدلية، كليا أو جزئيا، كذلك 20 مدرسة أو جامعة، تدمير وسائل القطاع بالحصول على الماء، 95 بالمئة من السكان لا يصلهم الماء الصالح للشرب، توقف المضخات ومحطات تحلية الماء وتكرير المياه، مما أدى إلى تلوث مياه البحر والبيئة وانتشار الأوبئة.

وتذكر منظمة الصحة العالمية بتقريرها، بوجود مليون وثلاثمئة ألف شخص بحاجة لمساعدة غذائية من أصل عدد سكان القطاع البالغ مليون وسبعمائة ألف. كما أدى هذا الحصار أيضاَ إلى تأخر بالنمو عند 10% من الأطفال دون الخامسة، وفقر دم عند الأطفال دون السنة (68%) وعند النساء الحوامل (37%).

ويظهر التقرير ايضا إنخفاض عدد المارين من معبر رفح الخاضع للسيطرة المصرية بشكل هائل (93%) منذ شهر تموز من العام 2013. وهو ما أدى إلى مضاعفة طلبات المرور للمرضى من معبر إيرتز المُراقب كلياً من إسرائيل، والتي ترفض مرور 20% من الناس، وتبتز المارين بكل الوسائل، وعدد حالات الوفيات في غزة نتيجة رفض السلطات، أو إعاقتهم للمارين تُعد بالعشرات.

يُنتج محلياً 40 % من كهرباء غزة، باستعمال الوقود المُستورد من طريق المعابر الإسرائيلية و 50% مباشرة من طريق شبكة الكهرباء الإسرائيلية و10% عن طريق الشبكة المصرية. هذا يعني أن 90% من الكهرباء هي تحت رحمة إسرائيل، وهو ما يُؤدي إلى توقف توزيع الكهرباء ما بين 8 – 12 ساعة يومياً.

نختصر، نتيجة ذلك، بأربع كلمات: نقص الغذاء، الماء،  والدواء والهواء. فلا يمكن الحفاظ على المواد الغذائية بدون كهرباء، مما يؤدي إلى فسادها وتسمم مستهلكيها بما فيه حليب الأطفال. يوجد في غزة 180 نقطة مائية منها 140 بئراً بحاجة لمضخات تعمل بالكهرباء أو بالوقود، ونفس الشىء بالنسبة لمحطات تحلية الماء ومحطات التكرير. بدون ماء لا توجد حياة ممكنة بشكل صحي. أما الدواء فهو عدم تمكن غرف العمليات من العمل بدون كهرباء والمحطات البديلة بحاجة لوقود لم يعد متوفراً، أقسام الإنعاش الطبي ورعاية الأطفال الخُدج وغسل الكلى (أكثر من 450 حالة بمعدل 3 مرات بالأسبوع لكل حالة) بحاجة لهذه الطاقة الحيوية . الهواء هو اهلاك كثير من الادوية الحيوية بسبب الحر وانعدام التبريد مثل أدوية العلاج الكيميائي للسرطان أو مشتقات الدم, وحياة الاطفال المرضى وكبار السن.

هدف إسرائيل من تجويع وتمريض أهل القطاع، جزء عضوي من سياستها العامة، لعقاب الناس وتهجيرهم، أما هدف النظام المصري، بالتعاون في تطبيق تلك السياسة، فهو الحصول على رضى داعميه لإظهار حسن النية، والاستعداد لعمل كل شيء، مُقابل البقاء ضد رغبة وإرادة شعبه، التي عبر عنها في انتخابات حرة ونزيهة قبل ثلاث سنوات. هدف الأنظمة العربية المتغاضية هو إنهاء أي امل في مفهوم المقاومة وحق التعبير عن الرأي وأحقية الشعب بانتخاب قياداته في بلادهم، ولا يجوز بشرعهم أن يكون هناك مثل عكس ذلك.

العمل لإفشال تلك المُخططات والسياسات لا يتم إلا بتقوية بُنى المجتمع المدني العربي ومؤسساته، بعيداً من الأنظمة السياسية الحاكمة ورقابتها، وحده المجتمع المدني هو المؤهل بالضغط والعمل لدعم الشعب الفلسطيني. أين هي الاتحادات والنقابات، أين هي أحزاب المعارضة، أين هم الكتاب والمفكرون؟ أين هي حملات المقاطعة لإسرائيل في بلادنا، أين هم ثوار وشباب ساحة التحرير بالقاهرة وشارع بورقيبة بتونس، أين هم الشباب الفلسطيني المطالب برفع الحصار عن غزة؟. كذلك فإن الشعب الفلسطيني بقواه المدنية مُطالب من جديد بالتعبير عن نفسه، خارج الأطر السياسية الحالية التي لم تعد راغبة بالعودة للشعب عن طريق الاستفتاء أو انتخابات جديدة، وما ألاعيب الحلقات الشكسبيرية للمصالحة التي لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، إلا وسيلة لتنويم الرأي الفلسطيني وإبعاده عن أي عمل خارج الأطر الرسمية، التي عجزت منذ أكثر من أربعين عاماً، عن تحقيق أي شيء.

إن تجميع طاقات ومنظمات المجتمع المدني العربي، وإعطاءها بعداً على أرض الواقع، هو الذي سيُغير حسابات إسرائيل والأنظمة العربية المتحالفة معها، وغير ذلك يعني البقاء في حالة الشكوى من الأنظمة وإسرائيل والأمم المتحدة والعالم، والاستمرار بسياسة وضع الرأس تحت الرمال.

زيارة النواب الفرنسيين إلى سوريا تحالف ضد من؟؟

04/03/2015

زيارة النواب الفرنسيين إلى سوريا

تحالف ضد من؟؟

نزار بدران

زار سوريا مؤخراً أربع من النواب الفرنسيين والمحسوبين على الأغلبية النيابية، حيث اجتمع النواب مع الرئيس بشار الأسد والمسؤولين السوريين.

المسؤولون الرسميون الفرنسيون وبشكل خاص رئيس الوزراء، فانس، استنكروا هذه الزيارة ولم يتبنوا نتائجها وحدثت ضجة إعلامية قوية، بشكل عام ضد هذه الزيارة التي تُعتبر خرقاً لقطع العلاقات الفرنسية السورية منذعام 2012.

كالعادة يمكن اعتبار هذه التصريحات الرسمية إبعاداً لشبهة تغيير السياسة الفرنسية، ولكن حقيقة كونها بالون اختبار هو شيء لا يمكن استبعاده وخصوصاً أن النواب المعنيين لا يُخفوا توافقهم مع السياسة الفرنسية الرسمية.

هل هناك حقاً نية لإشراك الأسد في التحالف الغربي العربي الإيراني ضد تنظيم الدولة ؟ كما يوحي لنا السادة النواب !!…. وهل حقاً الدول المُتحالفة حالياً ليست قادرة على هزيمة هذا التنظيم؟؟ وهل هي بحاجة لدعم جيش مُنهك  بحرب داخلية منذ أربع سنوات وقد تخصص بقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة، ولم يختبر قوته منذ اكثر من اربعين سنه  إلا بقتل وقصف المدنيين في حماة عام 1982 أومخيم  تل الزعتر عام 1976 في جنوب  لبنان أو الأكراد السوريين او الدعم العسكري للتدخل الامريكي بالعراق عام 1991. وهل حقاً هذا ما ينقص القوة العسكرية الهائلة المُتراكمه في القواعد الأمريكية والعربية في المنطقة.

لنا الحق أن نطرح السؤال ونشكك في النوايا المُعلنة، الحقيقة بأن هناك إرادة غربية عربية إيرانية لإنهاء أي حراك ديمقراطي عربي وخصوصاً في سوريا، فالثورة السورية لم تجد إلا أعداء في وجهها، إيران وروسيا، ولكن الأشد فتكا هم من يدعون أنهم الأصدقاء والذين تركوا النظام السوري على مدار أربع سنوات يُهجّر الملايين ويقتل مئات الآلاف من الأبرياء، أطفالاً ونساء، يموتون بالبراميل، وصواريخ سكود، والسلاح الكيميائي، والبرد والجوع. هذا كله لم يكن سبباً لهم لوقف هذا الإجرام.

محاولات إعادة تأهيل النظام السوري هي في الحقيقة محاولة يائسة لإنقاذه من سقوط أكيد وخدمة لإسرائيل المُستفيد الأكبر من هذا النظام، وهي أيضاً تقرباً لآيات الله القابعين على صدر الشعب الإيراني والذي لم يجد من يدعمه عندما قام بانتفاضة سنة 2009 وبدأ بها ربيع المنطقة.

إسرائيل ومن يقع تحت تأثير اللوبي الصهيوني يعملون جاهدين وبكل الوسائل بما فيها إشعال الحروب الطائفية، على إنهاء الحراك الديمقراطي العربي، هذا الحراك الذي يعتبرونه بحق خطر وجودي على كيانهم.

مهما كانت قُوى الثورة ضعيفة، ومهما كانت هائلة قوة معسكر الثورة المضادة من اليمن إلى ليبيا والعراق والبحرين وسوريا وغيرها إلا ان هذا الحراك على ضعفة ووتميزه  ببعده الإنساني المُطالب بالحرية هو في الحقيقة المُستهدف من كل هذه السياسات العربية والغربية.

وليست داعش إلا ستار يختفي من ورائه هؤلاء الممثلون السيئون الذين يعملون لوقف مسيرة الأمة وخروجها من ماض أسود ودخولها عالم الحضارة والإنسانية.

نوابنا المحترمون قاموا عن وعي أو دونه بوضع فرنسا من جديد في معسكر الدول الداعمة للاستبداد وهي التي رفعت عالياً قيم الإنسانية والمساواة والعدالة في تعاملها مع دول وشعوب العالم خلال الخمسين سنة الأخيرة.

نأمل – ونحن نعرف تماما  وعي وتعلُق الشعب الفرنسي بقيم الحضارة الإنسانية ونضاله المُستمرمن أجلها –  بأن تنتهي هذه السياسات إلى الفشل.

04/03/2015

 

سياسات دولنا بين السيادة والتبعية

09/05/2015

سياسات دولنا بين السيادة والتبعية

نزار بدران

سيادة الدولة عنصر مؤسس في مفهوم الدولة القومية الحديثة، يهدف إلى حماية الدولة من التدخلات الخارجية في شؤونها، ولكن هذه السيادة تصطدم بمفهوم العلاقات الدولية المبنية على قوانين غير مُلزمة في أكثر الأحيان، والحضارة الإنسانية ما زالت بحاجة لسنوات طوال، للوصول إلى وضع قوانين دولية مُلزمة للجميع، لأن ذلك يتعارض مع مفهوم سيادة الدولة على أرضها وثرواتها. في حين أن هناك تجمعات دولية تتبنى قوانين مُلزمة للجميع، مثل الاتحاد الأوروبي، والدول المُكونة لهذه التجمعات، تقبل الانتقاص من سيادتها لصالح القانون الكلي.

من مظاهر السيادة وجود عملة وطنية، وقد قبلت الدول الأوروبية المشاركة في “اتفاقية ماسترخت”، حيث شكلت العملة الموحدة وهي اليورو، انتقاصا واضحا من سيادة كل دولة، عبر إلغاء عملتها المحلية، كما قبلت هذه الدول أيضاً حرية الحركة والتنقل داخل الاتحاد الأوروبي للبضائع والأشخاص، وهو انتقاص للسيادة في مراقبة الحدود وإعطاء الحق بدخول أراضيها وغير ذلك. وفوق هذا توجد محكمة أوروبية لمراقبة القرارات والتشريعات الملزمة التي يتوجب تنفيذها تحت طائلة العقوبة أو الغرامة.

هذا الانتقاص من السيادة الوطنية، جاء بالاختيار لا بالقسر والإكراه، وقد جاء اختياره من شعوب هذه الدول، التي وافقت عليه من طريق البرلمانات المُنتخبة، أو عن طريق الاستفتاء. وهو يهدف إلى خلق كيان جديد موحد وقوي تتحقق فيه مصالح كل دولة، وتؤمن من خلاله الحماية لمواطنيها أمام أي اعتداء خارجي، وتتكامل فيه سياساتها الاقتصادية والتعليمية، كما يجري إنشاء وتأسيس بُنية تحتية مُشتركة (المواصلات …الخ) لصالح كل المواطنين.

مُقابل هذا الانتقاص المُختار والمقبول، يوجد شكل آخر من انتقاص السيادة، وهو ناتج الخلل في العلاقات الدولية، المبنية على مبدأ القوة، وبشكل خاص في ظل الحكومات الاستبدادية التي لا تضع أي اعتبار لمصالح شعوبها.

في مجالنا العربي والشرق أوسطي، هناك نوعان من الأنظمة، تلك التي تفتقد للسيادة تماماً، والتي تبني علاقاتها مع الدول العُظمى، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية على مبدأ التبعية، وتفضيل مصالح الغرب وأمريكا مقابل مصلحة بقاء النظام، أما الشعب ومصالحه فليس لهما أي دور، وبهذا تُؤخذ القرارات والمواقف السياسية الخارجية والداخلية من منظار إرضاء وتنفيذ إرادة أمريكا، وليس بناء على رغبة الشعب المُعبر عنها عن طريق الانتخابات.

إن ارتهان الاقتصاد الفلسطيني في مناطق السلطة الفلسطينية بالدعم الأمريكي، وعدم وجود أي بنية انتاجية، في ظل الاحتلال الذي يستطيع أن يدمرها متى شاء، أدى إلى انعدام مقدرة السلطة على اتخاذ قرارات مستقلة من مُنطلق مصلحة المواطن الفلسطيني أو القضية الفلسطينية، ولا نظن أن الأمر يختلف كثيراً في منطقة قطاع غزة؛ ولكن لاعتبارات مختلفة. المُشترك بينهما هو الارتهان لوجود هذه السلطات للقوى الخارجية التي تُعطيها مُقومات وجودها، وليس الاعتماد على الشرعية المُعطاة من الشعب الفلسطيني، المُعبر عنها بطرق مختلفة كالإنتخابات او الاستفتاءات.

الدول العربية التي دخلت الحرب في اليمن، هي أيضاً منتقصة السيادة في هذا المجال، فالإملاءات الأمريكية ومصالحها في اليمن، وبشكل خاص في باب المندب، هو الذي يُفسر التدخل السعودي والعربي، وليس مصلحة المتظاهرين في شوارع صنعاء المطالبين بالديمقراطية، تلك المعدومة تماماً في هذه الدول، وفاقد الشيء لا يعطيه.

ولو كانت الأسباب المُعلنة للحرب اليمنية حقيقية، وهو الدفاع عن أهل اليمن من ظلم وعنف الحوثيين وبقايا النظام السابق، وداعميهم الإيرانيين؛ فقد كان ذلك أوجب وأولى ما يكون في سوريا التي دمرها النظام البعثي على رؤوس أهلها، وقتل مئات الآلاف، ومحى معالم مدن بأكملها.

هذه دول معدومة السيادة، لا تأخذ قراراتها؛ إلا بعد إذن ولي الأمر حامي وجودها، لا تُستعمل جيوشها إلا لقمع مطالب الناس، وكل حراك ديمقراطي؛ كما حدث بالبحرين، أو حالياً الدعم المُقدم للإنقلابيين في مصر، أو المرتدين في ليبيا.

قرار السعودية في اجتماعات الدول المُنتجة للنفط بتأييد انخفاض أسعار البرميل إلى أقل من النصف، لا يمكن على الإطلاق فهمه من مُنطلق اقتصادي سعودي أو عربي، فما هي الفائدة التي سنحصل عليها من خفض هذه الأسعار إلا تخفيض الدخل القومي الذي يُشكل فيه النفط أكثر من الثلثين، هي فقط الإرادة الأمريكية للضغط على بوتين وروسيا في خلافهما حول التدخل الروسي بأوكرانيا، ولم تفعل ذلك مُسبقاً لعقاب التدخل الروسي بسوريا، والذي لم يكن ليُزعج الأميركيين.

هناك أيضاً الدولة ناقصة السيادة، وهي الدولة التابعة، التي لا تملك حرية القرار أو التصرف، إلا في إطار يوضع لها، ولا تستطيع أن تخرج عنه، وذلك تحت طائلة العقوبات، مثال ذلك إيران آيات الله، وتدخلها في سوريا أو في العراق، وهو الذي يتناغم مع مصالح أمريكا واللوبي الصهيوني لقمعها لحراك الشعب السوري المُطالب بالحرية، وإبقاء نظام قاتل يحمي حدود إسرائيل، لذلك تستطيع إيران أن تصول وتجول بسوريا من دون رقيب، تحت حجة “الفيتوات” الروسية التي لا تمنع أمريكا من التدخل في أي مكان آخر بالعالم. وتسمح لها بالتدخل بالعراق، وتباركه وتتحالف معها، وبنفس الوقت تضرب على أصابعها بالملف النووي، إذا تجاوزت الحدود، أو في اليمن إن وصلت إيران لباب المندب، المعبر الإستراتيجي لقناة السويس وميناء إيلات الإسرائيلي.

هي إذاً سيادة لها حدود، تضعها أمريكا لإيران، المسموح لها بما يتناسب والسياسة الأمريكية؛ كقمع الحراك الديمقراطي باليمن وسوريا وغيره. بينما تُجبر إيران للعودة إلى المربع المسموح لآيات الله، لممارسة سلطاتهم، كلما اقتضت الضرورة ذلك.

إن استرجاع السيادة المعدومة، أو الناقصة؛ لا يتم في ظل حكومات وأنظمة صادرت إرادة شعوبها وحقها بانتخاب قياداتها. الدول ذات السيادة هي تلك التي يكون فيها الشعب مصدر السلطة، والتي لا يمكن أن تُرتهن إلا إلى مصلحة الوطن ومصلحة المواطن فقط لا غير. أما الأنظمة الديكتاتورية فرغم تكديسها للأسلحة من كل نوع، فهي لا تملك الحرية في اتخاذ القرارات، لأن وُجودها ليس رهن إرادة شعبها. وما تمسكها بالسلطة إلا لنهب ثروات وعرق الناس، لذلك هي تضع قوتها في خدمة الآخرين.

لكل هذا، فإن الخيار الديمقراطي للأمة العربية، ليس ترفاً فكرياً، بل هو حاجة ماسة حتى تستطيع دولنا الاحتفاظ باستقلاليتها وسيادتها، الانتقاص منها لا يتم إلا بشكل إرادي، يجري التعبير عنها بإرادة شعبية، وذلك بهدف بناء تكتلات عربية قوية، تكون ذات سيادة كاملة، غير منقوصة.

غزة بين حق البقاء وحدّ الواجبات الملحة

24/07/2015

 

غزة بين حق البقاء

 وحدّ الواجبات الملحة 

د. نزار بدران

تحل الذكرى الأولى للحرب العدوانية الإسرائيلية ضد قطاع غزة صيف العام الماضي، في وقت ما زال سكانه يعانون الأمرين؛ بعيدا من أمل الإعمار، والحد الأدنى من العيش الكريم. بينما انتصرت المقاومة بصدها للهجوم الإسرائيلي، وإفشال أهدافه بتدميرها أو استسلامها، ولكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها برفع الحصار، أو دفع العالم للتنديد به، والضغط باتجاه رفعه؛ لا من الغريب ولا من القريب، ولا حتى من أقرب المقربين. بل وزادت مصر إمعانا بحصار القطاع، وتدمير الأنفاق، في تنسيق واضح ومُعلن، وإن لم يكن مباشرا مع العدو الإسرائيلي.

نُدرك تماماً مصلحة إسرائيل في خنق القطاع، وندرك كذلك سكوت دول عديدة غربية على ذلك، تحت ضغط اللوبي الصهيوني، وقد نُدرك قليلاً مصلحة النظام المصري بالتواطؤ؛ فهو يقوم بالدور المُناط به، موضوعيا، وبتوجه واع ومدرك من قبله بالتواطؤ مع الساسة الإسرائيليين وداعميهم الغربيين ثمناً لدعم بقائه، واستمراره في خنق الربيع العربي.

ما ندركه ولا نفهمه، هو مصلحة الفلسطينيين بالاختلاف والاقتتال منذ سنوات، فالمنطق يذهب باتجاه التوحد أمام الاعتداء والحصار، وهو ما لا يحدث. فمنذ البداية كان مطلب الشعب الفلسطيني يتركز حول توحيد الصف، ولكن لا من مُجيب.

السؤال الذي لا يطرحه أحد؛ هو عن أهلية الطبقة السياسية الفلسطينية بكل أطرافها، لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية. فنحن الوحيدون وسط عالم النضال من أجل التحرر، الذي له برنامج سياسي وقيادات لا تتغير منذ عشرات السنين، وحدنا في العالم ما زلنا نبحث عن الاستقلال الوطني، في وقت نجح وينجح الآخرون في نيل الحرية والاستقلال وبناء أوطانهم.

قد يُخطىء الإنسان أو الحركة السياسية، مرة أو مرتين أو حتى ثلاثة، ولكنها في الأساس ينبغي لها أن تمتلك من الآليات ما يجعلها تصحح أخطاءها، أو تنجح في أحايين كثيرة، أما أن لا نرى إلا مجرد مسلسل أخطاء وكوارث، ولا نطرح السؤال الوجودي عن سبب ذلك، الكامن فينا نحن، وليس دائماً بسبب مؤامرات الآخرين، وقُدرة إسرائيل على حشد الدعم لصالحها، وتواطؤ الغير المُزمن معها، هذا منطق لا يستقيم وواقع الأمور على الدوام. لذا لا يكفي أن ترفع حركة أو حزب سياسي شعارات، وتضع سياسات، بدون أن تحدد سبل ووسائل تحقيق تلك السياسات والشعارات، وإلا أصبح ذلك لُغواً وخداعاً للناس.

النظام السياسي الفلسطيني للأسف وبكل أعمدته؛ بالضفة أو قطاع غزة، أو حتى بالخارج؛ وضع نفسه في موقع المغلوب على أمره، وأفقد نفسه مقومات وجوده المستقل، الأمر الذي يستوجب العودة إلى استقلالية قراره السياسي، بعيدا عن تدخلات إقليمية ودولية، لا تعرف ولا تريد أن تخدم سوى مصالحها.

إن استعادة استقلالية القرار السياسي والسيادي، تحتم أولا التأكيد على أهمية الاستقواء بالشعب الفلسطيني، وذلك عبر انتخابات حرة ونزيهة، والتي على ما يبدو تم نسيانها تماماً. واستعمال أسلوب الاستفتاء عند الحاجة، كما فعل رئيس الحكومة اليونانية مؤخراً في مواجهة أوروبا، وهذا ما لم نفعله أو نقدم عليه أبداً، خاصة وأن لنا مبررات مصيرية، هي بالقياس ربما تبدو أكثر أهمية من الأزمة الاقتصادية اليونانية، مثل أهمية الصراع والتناحر مع الاحتلال، ومآلات اتفاقيات أوسلو، أو اتفاقيات المصالحة الوطنية والتي وُقعت عدة مرات. وهذا ما يستوجب العودة للرأي العام الفلسطيني لطرح أي حل لمشكلة اللاجئين وحقهم الراسخ بالعودة إلى قراهم ومدنهم وحقولهم.

وثانياً بناء مقومات وجود اقتصاد وطني مستقل، يبتعد تدريجيا عن الارتباط مع الاحتلال، وليس فقط الاعتماد على دعم الداعمين الأجانب بشروطهم، وبناءً على أجندتهم ومصالحهم. وذلك عبر العمل على إقامة قواعد اقتصاد إنتاجي صناعي وزراعي، بدل اقتصاد الإستيراد لكل شيء، وتحويل الدعم المادي المقدم من الغرب بشكل عام إلى البنية التحتية الانتاجية، وليس فقط لدفع معاشات الموظفين وشراء السلع المستوردة.

وثالثاً العمل لوضع مقومات حماية هذا القرار السياسي، المُدعوم والمحصّن  شعبياً واقتصاديا، وذلك عبر توجه برنامجي عماده تطوير مقاومة الاحتلال، وعزله عالمياً، وإظهار الفكر الصهيوني كفكر عنصري، وإسرائيل كدولة أبارتهايد. كذلك دعم كل الحركات الفلسطينية والعربية والعالمية العاملة بجهد لمقاطعة إسرائيل اقتصادياً وعلمياً، وهو ما بدأ يعطي ثماره حالياً بالغرب، وبدأ بزعزعة “التلاصق” الفكري والاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا, ونحن في أوروبا بدأنا نشعر  بتضامن شعوبها معنا بشكل واسع.

على أن حماية القرار السياسي، تتم أيضاً عن طريق إعادة القضية الفلسطينية إلى حضن الأمة، وذلك بالتضامن مع كل حركات وحراكات الشعوب العربية التواقة للحرية والعدالة، وليس الإنجرار وراء أنظمة الاستبداد، كما فعلنا طوال الستين عاما الماضية. فهذه الأنظمة التي تُدمر مدنا على رؤوس سكانها، لا يمكن أن يُعول عليها لحماية الشعب الفلسطيني واستعادة حقوقه.

إن مراقبة الأحداث الجارية حولنا، والمُتغيرات السريعة والمتلاحقة، تفرض على شبابنا وطبقتنا المثقفة أن تبدأ بطرح وضع الحقوق الأساسية للإنسان الفلسطيني في المرتبة الأولى، قبل أي حق أخر: الحق بالعيش الكريم، الحق بالتنقل والعمل داخل وخارج وطنه، حق اللاجئين بالعودة إلى قراهم ومدنهم والعمل والتنقل في أماكن وجودهم الحالية، مع الاحتفاظ بحقوقهم المدنية المُتعارف عليها دولياً، والحق في التملك والبناء والتوريث، (وبشكل خاص بالنسبة للاجئي لبنان)، وحق المواطن الفلسطيني بانتخاب ممثليه، والحق في رفض العيش في أُطر فصل عنصري، والحق بالخروج والدخول إلى قطاع غزة والضفة ومخيمات اللاجئين، والحق بالحماية للمدنيين العزل في سوريا وفلسطين وغيرهما ومتابعة المجرمين. والحق في التعليم والصحة، وكل ما له علاقة بالحقوق الإنسانية الطبيعية, وليس تلك السياسية المُسجلة بلوائح القوانين الدولية، وهي مما ليست في حاجة إلى معاهدات جديدة، ولكنها في حاجة لمن يرفعها ويُدافع عنها بجدارة؛ ونموذج نلسون مانديلا بجنوب أفريقيا، أكبر دليل على نجاعة ذلك.

نأمل أن تكون هذه الذكرى هي الأخيرة لحصار أهلنا في غزة، وتعرضهم في شكل دوري للاعتداء والقتل والتدمير، ولن يتم ذلك إلا إذا استفاقت عقولنا، واتجهنا نحو الحفاظ على قيم الوحدة والحرية، والنضال من أجلهما.

طبيب عربي مقيم في فرنسا

قانون عمل الأطباء الفلسطينيين في لبنان لغز يبحث عن حل

25/2/2015

قانون عمل الأطباء الفلسطينيين في لبنان

لغز يبحث عن حل

نزار بدران

يُعاني الأطباء والكوادر الصحية في لبنان من نتائج قوانين أقرتها الدوله مند عشرات السنين والتي تحصر إمكانيات عملهم مع اللاجئين الفلسطينيين فقط. الطبيب أو الممرض الفلسطيني لا يستطيع أن يعمل بشكل قانوني في أي مستشفى أو أي عيادة طبية لبنانية، وهم في معظم الأحيان من مواليد لبنان ومقيمين به بشكل دائم. هذا الحصر لا يقتصر فقط على المهن الطبية بل يشمل أيضاً مجالات واسعة تُقدر بأكثر من ثمانين مجالاً مثل (الهندسة).

يجد الطبيب الفلسطيني المتخرج من الجامعات اللبنانية أو غيرها مجالاً واحداً للعمل وهو مستشفيات الهلال الأحمر الفلسطيني أو مستوصفات وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين. حتى المًتقاعد لا يستطيع العمل في أي جهاز طبي لبناني.

يُغض الطرف في بعض الأحيان عن عمل الكوادر الفلسطينية في مراكز الصحة (تحت اسم أطباء لبنانيين) عندما تشح الإمكانيات اللبنانية، ولكن بأجور منخفضة عن زملائهم، وبدون اعتراف قانوني ولا أي حقوق مرتبطة بالعمل كالحق في التغطية الصحية، التقاعد….الخ.

هذا الفصل بين الجهازين الطبي الفلسطيني واللبناني يعمل في اتجاه واحد وهو فقط منع الكوادر الفلسطينية بينما زملائنا اللبنانيين يستطيعوا أن يعملوا بدون حرج في المستشفيات التابعة للإدارة الفلسطينية أو منظمات الأمم المتحدة، وهو بالطبع ما يسعد المرضى والزملاء الفلسطينيين.

من ناحية أخرى عندما لا يجد المريض غايته في المستشفيات الفلسطينية يضطر للذهاب إلى المستشفيات اللبنانية بتغطية صحية ضعيفة مما يكلفه الكثير من الناحية المادية، والتي لا يتحملها معظم المرضى وجُلهم لاجئون.

نتيجة هذا الحصر على الأطباء والكوادر الصحية الفلسطينية، هو إفقار القطاع الصحي الفلسطيني الذي لا يستطيع أن يؤمن رواتب كافية ولائقة بالأطباء والممرضين، مؤدياً إلى تراجع عدد الطلبة الفلسطينيين المُختارين للتعليم الجامعي في المجالات الطبية (طب، مختبرات، تمريض، فني أشعه…الخ)، فهم يعلمون أنه لا يوجد عندهم أي مجال للعمل بعد التخرج في قطاع الصحة اللبناني عاماً كان أم خاصاً، وهذا ما يؤكده العاملون مع الطلبة في مكتب مساعدة الطالب الفلسطيني.

أدى هذا الإفقار إلى انخفاض مستوى الكفاءات الفلسطينية المتوفرة، وتراجع نوعية العلاج الطبي المُقدم للمرضى، وبالتالي توجههم للمستشفيات والعيادات اللبنانية ذات الكلفة العالية في أحيان عدة.

لا يفهم المراقب الهدف والمغزى من هذه القوانين التمييزية بين حقوق الأطباء حسب جنسياتهم في لبنان، فالطبيب أو الممرض الفلسطيني المولود في لبنان لا يطالب بالحصول على جنسية لبنانية، وإنما فقط أن يُساوى بالحقوق مع زميله اللبناني الذي هو يستطيع أن يعمل في أي قطاع صحي بما فيه الفلسطيني.

لا نفهم أيضاً الفائدة التي قد يحصل عليها اللبنانيون من هكذا سياسه، فكثير من الكوادر الصحية الفلسطينية مشهود لها بالكفاءة والمقدرة، ومن غير المنطقي أن يُحرم أبناء الشعب اللبناني الشقيق من كفائاتهم.

لو نظرنا إلى مستشفيات الدول الغربية لوجدنا بها مئات الأطباء الفلسطينيين واللبنانيين، بالإضافة إلى جنسيات أخرى، يعملون معاً لفائدة المجتمعات والمرضى الغربيون رغم توفر هذه الدول الغنية على كوادر محلية (إنجليزية، فرنسية…الخ)، حيث يُنظر إلى الأطباء الأجانب في هذه الدول كأيدي جديدة تعمل وتداوي وتُنتج وليس فقط أفواهاً تأكل.

هذه القوانين تتناقض مع عولمة العمل كما رأينا، وتتناقض أيضاً مع القوانين الدولية الحافظة لحقوق العمالة الأجنبية، وحقوق الإنسان التي وقعت عليها الحكومة اللبنانية.

ما يؤسفنا أننا لا نرى ولا نسمع تقريباً أي صوت يُطالب بتغيير ذلك، وهذا يدل على ضعف المجتمع المدني الفلسطيني واللبناني، الذي يجر بأحزابه السياسية إلى مستنقع الطائفية ضد مصلحة المريض الفلسطيني واللبناني على السواء.

أرى أنه من الضروري أن تصحو المؤسسات والجمعيات ذات الطابع الحقوقي والإنساني في لبنان لترفع صوتها ولو قليلاً، لمحاولة إظهار أن أبناء الوطن الواحد واللغة الواحدة هم في نفس خندق الدفاع عن الحقوق، بما فيها حقوق المريض، خصوصاً في هذا الزمن الذي يترعرع فيه كل دعاة التطرف والتعصب في منطقتنا، ليكن الدفاع عن حقوق الطبيب  والكادر الفلسطيني في لبنان تذكيراً للذين يحكموننا أن العدل هو أساس الحكم.

د. نزار بدران

طبيب عربي مقيم في فرنسا

25/2/2015

 

مفكرونا والعمى الأيديولوجي

24/03/2015

 

مفكرونا والعمى الأيديولوجي

د. نزار بدران

هنالك قواعد للفكر يلتزم بها المفكرون والمثقفون في العالم، لتحليل وشرح مشاكل الشعوب، قواعد هي بمثابة ثوابت لا يحيدون عنها، فمنها مثلاً حق الشعوب في تقرير مصيرها، أو الحق بحكم ديمقراطي. حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، تحريم التطهير العرقي وغير ذلك. كل هذه الأشياء مُتفق عليها وموثقة في معاهدات دولية ومنصوص عليها في عشرات الكتب، وأي مُطلع ومهتم بأمور الناس يعرف ذلك، بشكل خاص الكتاب السياسيون والاجتماعيون والصحفيون وغيرهم من المفكرين. لكن بعضهم يستثني من هذا المنطق العام بعض شعوب الأرض، ويفصّلون لها تفسيرات وقوانين خاصة، لا علاقة لها بأي مفهوم قانوني إنساني.

أمثال هؤلاء كثرة كاثرة من المفكرين الغربيين، الذين يدافعون عن حق جزر القُمر أو شعب كوريا الشمالية بالحرية، ويتسابقون لمطالبة السودان بإعادة المهجرين، ويطالبون ملكة بريطانيا بالاعتذار عما حصل في أستراليا قبل قرون، ويدعمون حق كوسوفو بالاستقلال وتقرير المصير، وحق أوكرانيا بالخروج من السيطرة الروسية، ويناضلون ضد التطهير العرقي في كرواتيا والبوسنة، وإنهاء الفصل العنصري في أفريقيا الجنوبية.

كل ذلك رائع ويُشكرون عليه، ولكنهم عندما يصلون إلى القضية الفلسطينية، يعلنون أولوية الحفاظ على يهودية الدولة (إسرائيل) وينحازون إليها، على حساب حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، وهو حق مؤسس وثابت في كافة مواثيق الأمم المتحدة. حتى أصبح النقاء العرقي أو الديني الذي يحاربونه في أصقاع الأرض، مجرد وِجهة نظر. كما أن اضطهاد الأقليات في العالم والتمييز العنصري، يصبح هو أيضاً موضوع أخذ وردّ، عندما يتعلق الأمر بسكان فلسطين الأصليين.

لحسن الحظ هناك قلة من الكتاب الغربيين. وكثيرون غيرهم، يحترمون القاريء ويلتزمون بمعايير الكتابة والأمانة، ولكن مفكري الفئة الأولى، يشكلون حالياً طرفاً مؤثراً بحكم مناصبهم الإعلامية وارتباطهم باللوبي الصهيوني.

هذه الآفة للأسف ليست حكراً على الإعلام الغربي والمثقفين الغربيين، ولكنها أصابت أيضاً جزءاً مهماً من الكتاب والمفكرين العرب، أصحاب الأسماء اللامعة والمعروفة، التي تقود في كثير من الأحيان اتجاه الرأي العام.

عندما اندلعت الثورات العربية في تونس ثم مصر، اتفق الجميع في تحليلاتهم على حق الشعوب العربية بالتحرر من الاستبداد، وبناء مجتمع تعددي حر، مصدر السلطة بيد الشعب، ونمنا وأصبحنا ونحن نتابع هذه الأحداث، وهذه الأقوال على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد والتي في بعض الأحيان كانت أقرب لإعطاء التوجيهات للعمل اليومي، وتصورنا أنه لحُسن حظنا (النادر الحصول) لدينا طبقة مثقفة من الكتاب والمفكرين والسياسيين المعارضين ذوي الرأي السديد والهمة العالية، في إمكانهم إعطاء هذه الثورة العارمة بعدها الحقيقي والأصيل، في انتظار انتصار الثورة وبدء تبلور قيادات ثورية.

ولكن فوجئنا بعد ذلك وبسرعة بالانقلاب الكامل على ما قيل وكُتب بعد انطلاق الثورة السورية، التي لم تكن إلا استمراراً للربيع العربي، وكل مواطن سوري وعربي كان أصلاً في انتظار هذا الحدث في سوريا وغيرها، لشدة الحماس والإعجاب بالثورتين التونسية والمصرية وبعدهما الليبية.

بعض المفكرين وقادة الرأي، انقلبوا بين ثورة وضحاها إلى مدافعين عن أعتى نظام عربي، وأول نظام دمر مدينة عربية وهي “حماة” في العام 1982 لقمع الحراك الشعبي، وساهم بحصار وطرد الثورة الفلسطينية من لبنان، ولم يُعرف عنه أي انفتاح ديمقراطي. أصبح الحراك الشعبي السلمي عند هؤلاء المفكرين مؤامرة تحيكها إسرائيل والغرب الاستعماري، وأصبح التلويح بتقسيم الوطن، إن استمر الحراك، واقعاً ممكنا يجب تفاديه.

محور المقاومة والممانعة كما يسمى، يحمل بالنسبة لهم قدسية خاصة، لأهدافه السلطوية  الأولوية على حق المواطن السوري بالعيش بحرية واختيار قياداته. نسَوْا تماماً المبادئ العامة الإنسانية، وذلك لصالح اتجاهات إيديولوجية هي بالأصل غير فعالة، إن نظرنا من منظار ما حققه هذا المحور لقضية تحرير فلسطين.

الانتماء القوموي المُسيطر على الفكر، هو في الحقيقة مصدر هذا التناقض، لا سيما حين يحدد “المفكر العربي” انتماءه الأيديولوجي كبوصلة عمل، كل ما يسير باتجاهها صحيح، وعكس ذلك خطأ.

هذه البوصلة القوموية، تدفع نحو وضع كل عمل ثوري، لا يكون في اتجاه الكفاح ضد الاستعمار والصهيونية في خانة الاتجاه الخطأ، ومن هذا المُنطلق دعم المفكرون القومويون الثورة المصرية، ووقفوا ضد الثورة السورية، مع أن الثورتين حملتا نفس الشعارات وانطلقتا لذات الهدف.

ما لم يفهمه هؤلاء المفكرون، أن المواطن العربي أثبت من خلال إطلاق ثوراته وربيعه، أن تناقضه الأساسي هو مع أنظمته الجاثمة على صدره، والكاتمة لأنفاسه منذ عشرات السنين؛ وهو مستعد للتضحية بكل شيء، وذلك ما أثبته حجم التضحيات التي قدمها الشعب السوري للوصول إلى الحرية، واستعادة حقه ليكون مصدر السلطة، من دون أوصياء أو “قادة مُلهمين” أوصلوه إلى الهلاك.

إن أولوية مطلب الحرية والعدالة والكرامة، هي التي لم تكن بحسبان مفكرينا. على أن مبدأ محاربة الاستعمار والصهيونية وتحرير فلسطين، هو في قلب كل مواطن عربي، ولكن ترتيب الأولويات لهذا المواطن تختلف عنها عند هؤلاء المفكرين، وهذا ما أدى إلى تناقض المفكرين مع أنفسهم، بينما الشعوب العربية الثائرة لم تتناقض مع نفسها، وهي تدرك تماماً أن حريتها وحقها في الديمقراطية واختيار قادتها هو محور نضالها. وتدرك كذلك أفضل من هؤلاء المثقفين بأن تحرير الأوطان من الاستعمار واسترجاع فلسطين لا يمكن تحقيقه في ظل التجزئة وأنظمة الاستبداد، وحتى لو رفعت عالياً شعارات العداء لإسرائيل وأمريكا والعالم كله.

هؤلاء المفكرين سواء أكانوا في الغرب أم عندنا هم كالذي يضع نظارة ملونة لن يرى الأشياء على حقيقتها وبألوانها الطبيعية، إلا إذا أزاحها عن عينيه وفتحهما واسعا.

طبيب عربي مقيم في فرنسا