سوريا حبيبتي شعر نزار بدران القدس العربي 19 أذار 2020

كَفْكِفْ‭ ‬دموعَك‭ ‬يا‭ ‬أُبَيّ‭ ‬واقْبَل‭ ‬مَمَاتي‭ ‬
واذْهَبْ‭ ‬إلَى‭ ‬قِمَمِ‭ ‬الجبالِ‭ ‬البيض‭ ‬
وافترش‭ ‬السَّحَاب‭ ‬
اقرأ‭ ‬كتابَ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬ما‭ ‬بَعْدَ‭ ‬المغيب
وادْعُ‭ ‬المُجِيب‭ ‬
لا‭ ‬تَخْشَ‭ ‬بَعْدَ‭ ‬الْيَوْمِ‭ ‬أشباحَ‭ ‬الظلَام‭ ‬
لا‭ ‬تَخْشَ‭ ‬بَعْدَ‭ ‬الآنَ‭ ‬أَشْبَاهَ‭ ‬الأَنام‭ ‬
إنِّي‭ ‬مع‭ ‬القاشوش**‭ ‬أَنعَمُ‭ ‬بالهناء‭ ‬
ونسطِّرُ‭ ‬الكَلماتِ‭ ‬وَالنَّغَمَاتِ‭ ‬
ونعلّم‭ ‬الأَلحَانَ‭ ‬للشهداء‭ ‬
ونُذَكِّرُ‭ ‬الأَمْوَاتَ‭ ‬بالأحيَاء‭ ‬
‭ ‬
كَانَ‭ ‬لِي‭ ‬بَيْتٌ‭ ‬وكراسٌ‭ ‬وَمَدْرَسَةٌ‭ ‬
وألعابٌ‭ ‬وأصْحَابٌ‭ ‬وأحلامٌ‭ ‬مكدسة‭ ‬
وأُمٌ‭ ‬تَصْنَع‭ ‬الْحَلْوَى‭ ‬مِن‭ ‬الْعَسَلِ‭ ‬
وجدٌ‭ ‬يَدْعو‭ ‬الرَّحْمَنَ‭ ‬بِالفَجْر‭ ‬
وَيُشْعِلُ‭ ‬شِيشَةَ‭ ‬الْمِلَل‭ ‬
وحُبّ‭ ‬لا‭ ‬أبوحُ‭ ‬بِه‭ ‬
وميعادٌ‭ ‬بِقُرب‭ ‬الحائِط‭ ‬المَهْدُوم‭ ‬
أهمِسُ‭ ‬خَائِفًا‭ ‬مغروم‭ ‬
يَا‭ ‬لَيْلَى‭ ‬مَتَى‭ ‬الْقُبَلِ‭ ‬
‭ ‬
وذات‭ ‬صَباح‭ ‬ٍ
بَعْدَ‭ ‬سِنِينَ‭ ‬قَد‭ ‬طَالَتْ‭ ‬بِلا‭ ‬ثَمَرٍ‭ ‬
وبُسْتَانٌ‭ ‬بِلا‭ ‬شَجَر‭ ‬
وَمِن‭ ‬أَرْضٍ‭ ‬مُشَقَّقَةٍ‭ ‬
ونبعٌ‭ ‬مات‭ ‬حارِسُةٌ‭ ‬مِنْ‭ ‬العَطَشِ‭ ‬
أَتَت‭ ‬رِيحٌ‭ ‬محملةٌ‭ ‬بزخاتٍ‭ ‬مِنْ‭ ‬المَطَرِ‭ ‬
سَمِعْتُ‭ ‬شَقَائِقَ‭ ‬النُّعْمَانِ‭ ‬لفراشةٍ‭ ‬تهمسْ‭ ‬
جاء‭ ‬الرَّبِيعُ‭ ‬زهيا‭ ‬وَتَفْتَح‭ ‬النَّرْجِس‭ ‬
‭ ‬
يا‭ ‬مَنْ‭ ‬قَدِمْتَ‭ ‬مِنْ‭ ‬البِلَادِ‭ ‬البَارِدَةِ‭ ‬
ما‭ ‬سِرُّ‭ ‬خَوْفِك‭ ‬مِن‭ ‬زُهُور‭ ‬اليَاسَمِين‭ ‬
يا‭ ‬مَنْ‭ ‬أَتَيْتَ‭ ‬مِن‭ ‬العُصُور‭ ‬البائِدَةِ‭ ‬
مَا‭ ‬سِرُّ‭ ‬خَوْفِك‭ ‬مِنْ‭ ‬عُيُونِ‭ ‬الحالمين‭ ‬
لَمْ‭ ‬تُبْقِ‭ ‬في‭ ‬جسَدي‭ ‬مكَاناً‭ ‬للسهام‭ ‬
ولا‭ ‬بَيْتِي‭ ‬مكَاناً‭ ‬للمنام‭ ‬
لمْ‭ ‬تُبْقِ‭ ‬في‭ ‬قَلبِي‭ ‬مكَاناً‭ ‬للسَّلَام‭ ‬
أنا‭ ‬حمْزَةُ‭ ‬الذي‭ ‬كُسِرَتْ‭ ‬أصابُعه‭ ‬
سأَكْتُب‭ ‬قصتي‭ ‬بدمَاء‭ ‬جُرْحِي‭ ‬
بالمدارسِ‭ ‬والمَسَاجِد‭ ‬والكَنَائس‭ ‬
وفَوْق‭ ‬سنَابِل‭ ‬القَمْح‭ ‬
وأرسمُ‭ ‬فوْق‭ ‬خاصِرة‭ ‬الزمان‭ ‬
نواعيرَ‭ ‬بِلا‭ ‬أَحْزَان‭ ‬
وأُمي‭ ‬تَحْمِلُ‭ ‬الأوجَاعَ‭ ‬عنِّي‭ ‬
تناجيني‭ ‬وإِن‭ ‬تَعِبَتْ‭ ‬
وتحميني‭ ‬ولو‭ ‬هرمت‭ ‬
وتَقرَأُ‭ ‬في‭ ‬سَوادِ‭ ‬الليلِ‭ ‬
آيَاتٍ‭ ‬مِنْ‭ ‬القرآنِ‭ ‬
لِتَسْمَع‭ ‬سِرِّي‭ ‬المكتوم‭ ‬بالصَّدْر‭ ‬
عُيُونُ‭ ‬حبيبتي‭ ‬أَحْلَى‭ ‬مِن‭ ‬السُّكَّرْ‭ ‬
وضِحكتُها‭ ‬كَمَاءِ‭ ‬العِطْرِ‭ ‬وَالْعَنْبَر‭ ‬
لَن‭ ‬أنْسَى‭ ‬ولن‭ ‬أصفحْ‭ ‬
ولن‭ ‬أَبْكِي‭ ‬ولن‭ ‬أفرحْ
وانْتظرُ‭ ‬الرَّبِيعَ‭ ‬ليُفْتِّحَ‭ ‬الزنْبَق‭ ‬
ويُفَتِتَ‭ ‬الصُّوَان‭ ‬ويحطمَ‭ ‬البَيْدَق‭ ‬
‭ ‬
اشْرَبْ‭ ‬دَمِي‭ ‬
أنا‭ ‬يَسُوعُ‭ ‬عَبَرْتُ‭ ‬طَرِيقَ‭ ‬آلامِيِ‭ ‬
ولم‭ ‬أَعثرْ‭ ‬على‭ ‬قَبْرِي
وكل‭ ‬جَسَدِي‭ ‬
أنا‭ ‬نَبِيّ‭ ‬الهائمين‭ ‬الباحثين‭ ‬عن‭ ‬الضياء
لم‭ ‬أعثرْ‭ ‬على‭ ‬نجمٍ‭ ‬ولا‭ ‬بدْرٍ‭ ‬
وُحُوشُ‭ ‬الليل‭ ‬تَنْهَشُ‭ ‬لحْمِي‭ ‬البالي‭ ‬
وتعلن‭ ‬نَصْرَهَا‭ ‬من‭ ‬فَوْقِ‭ ‬أغلالي‭ ‬
في‭ ‬وطَنِي‭ ‬أُضيِع‭ ‬الْوَقْتَ‭ ‬بالْمَوْت‭ ‬
وأبْني‭ ‬تَحْتَ‭ ‬ظِلِّ‭ ‬السَّيْفِ‭ ‬مَهْدًا‭ ‬
وأَصنع‭ ‬منْ‭ ‬تُرابِ‭ ‬السِّجْن‭ ‬لحدًا‭ ‬
ومن‭ ‬عَظمي‭ ‬صَلِيبًا‭ ‬لي‭ ‬
‭ ‬
وأَسْمَعُ‭ ‬بَيْن‭ ‬عَصْفِ‭ ‬الرِّيحِ‭ ‬وتلاطمِ‭ ‬الأمْوَاجِ‭ ‬
لَحْنًا‭ ‬كحلْوى‭ ‬الشَّام‭ ‬يَهْمِسُ‭ ‬
إيلان‭ ‬لا‭ ‬تَخْشَ،‭ ‬أنا‭ ‬أُمُّكَ‭ ‬الثَّكْلَى‭ ‬
سنذهب‭ ‬عنْدَ‭ ‬مَنْ‭ ‬جَمَعَ‭ ‬القُلوبَ‭ ‬وقَسَّمَ‭ ‬الأحْزَان‭ ‬
لا‭ ‬ذُلَّ‭ ‬بَعْدَ‭ ‬المَوْتِ‭ ‬يا‭ ‬ولَدِي‭ ‬
فانْعَمْ‭ ‬بخلد‭ ‬الجَنَّةِ‭ ‬الخَضْرَاء‭ ‬للأبدِ‭ ‬
البَحْر‭ ‬يُعْلِنُ‭ ‬حَبَّة‭ ‬الزَّائِف‭ ‬ويَسْرِقُ‭ ‬كُلَّ‭ ‬أَحْلاَمِي‭ ‬
ويتركُني‭ ‬على‭ ‬رَمْلٍ‭ ‬بلا‭ ‬صَدَف‭ ‬ٍ
أنا‭ ‬المَنْسِيُّ‭ ‬مِتُّ‭ ‬على‭ ‬شواطئكم‭ ‬
بلا‭ ‬سَبَبٍ‭ ‬ولا‭ ‬هَدَف‭ ‬ٍ
‭ ‬
يا‭ ‬شَيْخَنَا‭ ‬الْقَسَّامَ‭ ‬كُنْتَ‭ ‬لَنَا‭ ‬إمَامْ‭ ‬
لولا‭ ‬اختِلَاسُ‭ ‬الْقُدْسِ‭ ‬مَا‭ ‬ذُبِحَتْ‭ ‬بِلادُ‭ ‬الشَّامِ‭ ‬واغتيلَ‭ ‬الحَمَام‭ ‬
لولا‭ ‬اختِلَاسُ‭ ‬القُدْسِ‭ ‬ما‭ ‬نَدَرَ‭ ‬الصِّدِّيقُ‭ ‬ومَا‭ ‬انْكَشَف‭ ‬الرفِيق‭ ‬
وتهاوت‭ ‬الأَحلَامُ‭ ‬في‭ ‬زَمَنِ‭ ‬الْكَلَام‭ ‬
وتَكَاثَر‭ ‬الأعداءُ‭ ‬والخطباء‭ ‬
ما‭ ‬كُنْتَ‭ ‬تُحْسَبُ‭ ‬يا‭ ‬أَبا‭ ‬الشُّهدَاء‭ ‬
لو‭ ‬عُدتَ‭ ‬للوطَن‭ ‬الْجَرِيح‭ ‬
أَنَّ‭ ‬القَرِيبَ‭ ‬هُو‭ ‬الرَّقِيب‭ ‬
أَنَّ‭ ‬الغَرِيبَ‭ ‬هُو‭ ‬الحَسِيب‭ ‬
ما‭ ‬كُنتَ‭ ‬تَعْلَمُ‭ ‬أَنَّ‭ ‬العَمَائِمَ‭ ‬والعساكرَ‭ ‬والخناجر‭ ‬
أَطفأَتْ‭ ‬نارَ‭ ‬اللَّهِيب‭ ‬
وأن‭ ‬أَبْنَاءَ‭ ‬الْعُمُومَةِ‭ ‬
قَد‭ ‬نَسُوا‭ ‬طَعْمَ‭ ‬الكَرَامَة‭ ‬
فاستباحوا‭ ‬مَريَمَ‭ ‬العَذْراءَ‭ ‬
ورمَوْا‭ ‬فِي‭ ‬البئرِ‭ ‬كُلَّ‭ ‬الأنبياء‭ ‬
سيظَلُ‭ ‬صوتُك‭ ‬شمْعةً‭ ‬في‭ ‬آخرِ‭ ‬الليْلِ‭ ‬الطويلِ‭ ‬
أَنَّ‭ ‬الحَياةَ‭ ‬هيَ‭ ‬الإرادة‭ ‬
والإرادةُ‭ ‬في‭ ‬العقول‭ ‬وفي‭ ‬الرَّشادَة‭ ‬
والمَحَبَّةُ‭ ‬مِنْ‭ ‬حَمَاةَ‭ ‬إلى‭ ‬الجَلِيل‭ ‬
يا‭ ‬شَيْخَنَا‭ ‬القَسَّام‭ ‬يا‭ ‬ابْنَ‭ ‬القُدْس‭ ‬
يا‭ ‬ابنَ‭ ‬الشَّام‭ ‬أَنت‭ ‬لنا‭ ‬ضِيَاءٌ‭ ‬
أَنْت‭ ‬لنا‭ ‬إمامٌ


**‭ ‬إبراهيم‭ ‬القاشوش‭ ‬منشد‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬الذي‭ ‬قتله‭ ‬النظام

لك الضِّيَاَء. نزار بدران قصيدة يوم الأرض. دنيا الوطن

قصيدة لي بمناسبة يوم الأرض

يوم الأرض
لك الضياء

يا إبن الجليل لك الضِّيَاَء لك السماء
لك النُّجُومَ لك القدر
تبقى بوحدك تقلع الأشواك
تبني وتزرع في فِنَاء البيت
بين جُدْرَانِ المنازل بين أوراق الشجر

تمضي كموج البحر يأتي ثم يأتي
لا يكل ولا يمل من البقاء او السفر
تحمي حُقُولَ البرتقال وزهرة الليمون
والزيتون وَنَحَلَهَ الوادي وَصَوْتَ الناي
وَطِينَ الأرض والمنابعَ والحجر

أنت الزَّمَانُ بصبحه ومسائه
بليله ونهاره منذ الْوِلَادَةِ والبداية
لا نِهَايَةَ للزمان وَصُحْبَهَ الخلان
أنت الْمَكَانُ هنا هناك
من جوارك او أمامك من يمينك أو يسارك
من جميع الاتجاهات الْقَرِيبَةِ والبعيدة
لا مَكَانَ ولا زمان إلا ملأت به عذابك
أو دفنت به حبيبا أو كتابا أو صور

حَلِمَتْ بك الْأَيَّامُ وتقاسمت ذكراك
وبكى المشرد من ظلام الليل
وارتفعت مَنَابِرُ تبحث عن كلام ضائع
أو مَسْرَحٍ لتعيد قصة تَاجِرٍ بالبندقيه
كُلُّ يُضِيعُ الْوَقْتَ ، أنت الربيع الْمُسْتَجِدّ
شَمْسٌ تضيىئ الْكَوْنَ كنت أم المطر

أنظر إلى بَيْرُوتَ أو بغداد إلى كل البلاد
تكابر من جديد وَتفْرَضُ ما تريد كما تريد
تَمُدٌ لك الملايينُ الأيادي والقلوب
وتعلن حبها الأبدي رغم الموت والأحزان
لن ننسى بلاد الزيت والعسل
ورائحة الصنوبر والمخابز والسمر

نزار بدران

دروس كورونا. القدس العربي 31 أذار 2020. نزار بدران

ربّ ضارة نافعة. إن انتشار فيروس كورونا في معظم دول العالم أدى إلى نوع من الشعور بأننا ننتمي جميعاً إلى كوكب واحد قد يكون مهددا وبشكل مفاجئ، بخطر ماحق. هذا ما وضع على المحك سياسات الدول وأظهر هشاشة الأنظمة، خصوصاً تلك المفروضة على شعوبها، وعدم كفاءتها. فبينما تضع أوروبا أو الصين أو الولايات المتحدة مليارات الدولارات للحد من انتشار المرض، وتعويض المتضررين، في إطار عال من الشفافية نجد كثيرا من الدول الأخرى، وخصوصاً تلك التي تفتقد إلى أي شفافية أو مصداقية بتعاملاتها مع شعوبها، تتخبط بين التصريحات والإعلانات الفوضوية، والتي لا تنجح إلا بمزيد من انتشار المرض، وتعريض مواطنيها للخطر، والمثال المصري أو الإيراني خير دليل على ذلك.

العولمة بالمفهوم التجاري

نكتشف أننا على كوكب صغير، وأن مرض شخص واحد في مدينة صينية، يهتز منه العالم كله. العولمة بمفهومها التجاري، أي حرية تنقل البضائع وكثرة المسافرين حول العالم، ليست هي السبب الوحيد، لعودة اكتشاف الإنسانية ذاتها، بل سرعة انتشار المرض، وافتراض تعديه جميع الحواجز، وخطورة مضاعفاته، خصوصاً عند كبار السن والمرضى.
في سابق الزمان كانت هناك أوبئة مثل الطاعون في القرون الوسطى، وأمراض حديثة شبيهة بكورونا في بداية القرن الحالي، أو الإنفلونزا الاسبانية في مطلع القرن الماضي. نحن إذاً أمام ظاهرة تتكرر بشكل منتظم، وتظهر أن الطبيعة، ترفض التقهقر أمام الإنسان، وأن التقدم العلمي، مهما كان، لن يسبقها ويتغلب عليها، وإن استطاع ترويضها في مجالات عديدة. علينا أن نتحلى بنوع من التواضع أمام الطبيعة وجبروتها ومقدرتها على إعادتنا إلى فترة ما قبل الإنسانية. لحسن الحظ إن الوباء الحالي هو في طريقه للدخول إلى بيت الطاعة الإنساني، على الأقل هذا ما نأمل، والعودة من حيث أتى، أي إلى حالات استثنائية في موطنه الأصلي.
فيروس كورونا أظهر للعالم أن العولمة الرأسمالية، أي البحث عن الربح دائماً، هي من ضاعفت خطر المرض، بإعطائه ارتداداً اقتصادياً، فليس من المعقول، أن دولا مثل فرنسا أو ألمانيا، لا تملك ما يكفي من المواد المعقمة أو الكمامات الجراحية البسيطة، لأنها تستوردها من الصين، والتي وضعت حجراً على صناعاتها. ولو استمرت هذه الأزمه، لفترة أطول، فسنقع في مشكلة الغذاء والدواء.
العودة إلى نظام اقتصادي عالمي أكثر فعالية بالنسبة للمصلحة العامة، وليس فقط البحث عن الربح للرأسماليين، قد يكون إحدى النتائج المباشرة لهذا الوباء. من المأمول أن نعود إلى مفهوم الإنتاج والاستهلاك المحلي، أي أن نشتري ونأكل مما ننتج، وألا نكتفي فقط بالاستيراد من الصين أو غيرها بحجة قلة الكلفة.
من الضروري برأيي أن نعود بدولنا العربية والعالم الثالث بشكل عام، نحو تطوير هذا المفهوم، والاعتماد على الذات، وهو ما سيؤدي إلى التطور الاقتصادي المبني على الإمكانيات الزراعية والصناعية المتاحة لكل منطقة.
ثلاثة ميادين يجب أن تتوفر في كل منطقة في العالم، وهي الغذاء والدواء والصناعات الاستراتيجية ( مثل إنتاج الكهرباء وأشكال الطاقة المختلفة)، بدون ذلك سنبقى ضحايا لرأس المال العالمي الذي لن يقدم لنا شيئا عندما يزورنا كورونا كل سنة مرة.
الاعتماد على الاقتصاد الريعي، كبيع الثروات الطبيعية مثل البترول أو الذهب، هو حقيقة كارثة على الاقتصاد ومدمر للأجيال المقبلة. ليس فقط لأنه لا يبني اقتصاداً متنوعاً وإنتاجياً، إنما لأنه أكبر أسباب وجود وبقاء الديكتاتوريات التي لا تترعرع إلا إذا سرقت ثروات الأوطان لصالح مجموعة مافياوية في السلطة بدون أي اكتراث بالمواطن وصحته وحاجاته ومستقبل أبنائه.
ثروات الوطن يجب أن تبقى فيه لبنائه وتأمين مستقبل أبنائه. وباء كورونا أظهر من جديد عدمية وعبثية هذه الأنظمة، وضرورة العمل الملح للخروج من كنفها، فهي رغم غناء أفرادها المفرط، ليست ذات كفاءة لوضع أي سياسات فعالة لمواجهة أي شيء.

خطر أكبر من فيروس

ما أريد أن أطرحه في هذا المقال هو أن هناك خطرا داهما أكبر من فيروس كورونا لكننا لا نراه قريباً أو خطيراً، بسبب بطء تطوره، ألا وهو التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة.
هذا المرض هو من صنع الإنسان وفي الوقت نفسه يرفض جزء كبير من الإنسانية، مثل الولايات المتحدة والصين وحتى الهند، قبوله والعمل على الحد منه جدياً. ماذا ستفعل تلك الإنسانية البائسة، والتي بالكاد تستطيع مواجهة فيروس شبه معروف، بوجه الأعاصير والفيضانات، بوجه زحف الصحراء، بوجه ارتفاع مستوى البحار، وبوجه الهجرة بالملايين للهاربين من كوارث الطبيعة المتوقعة نتيجة التغير المناخي، والذين سيكونون أضعافاً مضاعفة بالنسبة لما نرى اليوم من هجرة بسـبب الفقر أو الحـروب.
قد يكون الشعور أخيرا بأننا إنسانية واحدة جمعتنا الأوبئة بعد أن فرقتنا المصالح الضيقة هو الوسيلة لبناء عولمة جديدة مبنية على حرية الأفراد والشعوب وتوحدهم بوجه الكوارث وجشع رأس المال.

كاتب ومحلل سياسي فلسطيني

السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط بين الثابت والمتحرك. القدس العربي 05 آذار 2020

السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط

  بين الثابت والمتحرك

د. نزار بدران

تتميز السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بكونها انعكاساً لتطور الولايات المتحدة على مدى عقود، خصوصاً إنهاء زمن مضى، وهو القرن التاسع عشر، بقواه التقليدية، فرنسا وبريطانيا والدولة العثمانية، ودخول القرن العشرين، بعد اتفاقيات فرساي عام 1919، والبدء بالعد التنازلي السريع، لتراجع قوى الماضي إلى قوى القرن الجديد، المُتمثل بأمريكا من جهة والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى. 

كانت الولايات المتحدة، عندما شاركت بالاتفاقيات الجديدة التي ترسم العالم، وخصوصاً حدود دول الشرق الأوسط، وأوضاعها السياسية كانت تمثل القوى الناشئة الشابة، والتي هي الأولى التي رفعت بوجه الآخرين شعار حق الشعوب بتقرير المصير، والذي رُفع لأول مرة من طرف الرئيس ويلسون، ولكن ذلك لم يمنعه من تطبيق سياسة واقعية، تتناقض تماماً مع هذا المبدء بأميركا اللاتينية، والتدخلات الأمريكية العديدة هناك منذ القرن التاسع عشر، وكذلك رفض الوقوف مع حق الشعب المصري مثلاً بالاستقلال عن بريطانيا. نحن إذاً منذ البدء، مع دولة جديدة ناشئة وذات إمكانيات تزداد قوة، وترفع قيم المجتمعات الإنسانية الحديثة، دون التخلي بنفس الوقت، عن سياسات واقعية، هي بدورها استمرار للزمن الماضي. 

في بداية القرن العشرين، ركزت الولايات المتحدة على البعد الحضاري والثقافي، بتعاملها مع المنطقة العربية، عن طريق تطوير البعثات الثقافية والتعليمية، مقابل التدخلات الأوروبية، ذات الطابع السياسي والاقتصادي. هذه السياسة الشبه انعزالية، لم تدم طويلاً، بعد الحرب العالمية الثانية، والانهيار الكامل لقوى الماضي الأوروبي، لصالح ظهور قوتين جديدتين.

انتقلت بذلك الولايات المتحدة، من كونها قوة ناشئة، إلى موقع قوة عظمى، بجانب القوة العظمى الأخرى وهي الاتحاد السوفيتي، وتقاسمتا العالم من خلال ما يُعرف بالحرب الباردة، والتي لم تكن باردة على كل شعوب العالم، حيث يُقدر ضحاياها بالعالم الثالث ب 34 مليون قتيل، هي إذاً حروب بالوكالة بين الدولتين العظمتين.

نلاحظ في تلك الفترة أن قوة الاتحاد السوفيتي العسكرية، والتي كانت تُضاهي القوة الأمريكية، لم تكن مرتكزة على قوة اقتصادية، كما كان الحال عليه بالولايات المتحدة، فببداية الخمسينات، أي بعد الحرب مباشرة، كان الإنتاج الأمريكي يُعادل نصف إنتاج العالم، استهلاكهم للطاقة، يُعادل أكثر من الثلث، مع تطور علمي وتكنولوجي سريع، لم تعرفة أية دولة أخرى، بينما لم يتجاوز سكان أمريكا 6 بالمئة من سكان المعمورة. رغم مظاهر العظمة السوفيتية، فإن هناك خلل واضح في الأرضية الاقتصادية، التي أدت فيما بعد إلى انهيار الاتحاد السوفيتي.

بعد انهيار حائط برلين، والذي تبع هزيمة الروس بأفغانستان، وفشلهم بالانتصار،  بما سماه دونالد ريغان، حرب النجوم، أي التسابق نحو التسلح، وكذلك الانفجار النووي الرهيب بتشورنوبيل الأوكرانية عام 1986، تفردت الولايات المتحدة، بلعب دور الدولة العظمى، وأصبحت تُسمى دولة القطب الواحد، وهو ما أدى ببعض أساتذة السياسة، من التصور بأننا وصلنا حقاً إلى نهاية التاريخ. 

طبعاً ظهور الصين ابتداءً من سنوات الثمانينات، مع سياسة دينغ كساو بينغ، الاقتصادية وتطورها السريع، أدى لعودة جزئية، لمفهوم العالم ذا القطبين أو المُتعدد الأقطاب.

في إطار هذا العرض العام، ما هي نقاط الثبات بالسياسة الأمريكية ونقاط التحول، الحقيقة أنه لا يمكن أن توجد وبشكل دائم وأبدي، نقاط ثابتة لأي سياسة مهما كانت، ولكن هناك سياسات توضع لمدى طويل استراتيجي، وأخرى سياسية قصيرة الأمد أو تكتيكية.

بحسب الباحثين الأمريكيين أنفسهم، وأذكر منهم  فيليب غولاب، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بباريس حديثا، وجورج بول مساعد وزير الخارجيه الأسبق بالستينات، فهناك ثلاث نقاط، تُعتبر الثلاثي المقدس بالسياسة الأمريكية بالشرق الأوسط، حتى سقوط الاتحاد السوفيتي سنة 1991 تهدف جميعها إلى تمكين الرأسمال والاقتصاد الأمريكي، من السيطرة التامة على مُقدرات العالم، مُستعملة القوة الخشنة، أي العسكرية والاقتصادية، بالإضافة إلى القوة الناعمة، أي العلوم والتكنولوجيا والثقافة والسينما، في خدمة هذا الهدف الوحيد.

الثلاثي السياسي المقدس الأمريكي هو أولاً، الوقوف ضد التمدد الشيوعي واحتواءه، ويتم ذلك عن طريق دعم الأنظمة الديكتاتورية المحافظة، والتصدي لكل القوى المُعارضة لها، ديمقراطية كانت أو غير ديمقراطية، تحت حُجة انتمائها للمعسكر الشيوعي.

المحور الثاني، هو تأمين تدفق النفط خارج المنطقة، عن طريق منع أي تحالفات أو تغيرات سياسية ممكنة تتناقض مع هذا الهدف، مثال ذلك، اتفاق أمن الخليج لعام 1945، أو اسقاط محمد مُصدق بإيران عام 1953، وعودة الشاه.

المحور الثالث الذي حصل في مرحلة متأخرة نسبياً، هو الدعم والالتزام الأمريكي بسلامة واستمرارية دولة إسرائيل، بعد تراجع الدور الأوروبي.

هذه المحاور الثلاث، تُمثل السياسة الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى لحظة انهيار الاتحاد السوفيتي، وهي كما يجب أن نفهمها، مترابطة وليست نقاط متفككة، فدعم إسرائيل هو أيضاً للحفاظ على ديمومة الأنظمة الديكتاتورية المحافظة، والتصدي للتوغل الشيوعي، دعم الأنظمة المحافظة هو أيضاُ للمحافظة على وسائل النفط وإبعاد الخطر الشيوعي. وحدها المحاولات القومية، كما حدث مع الرئيس عبد الناصر أو مُصدق في إيران، من وضع على المحك هذه السياسات وحاول إفشالها، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، واستطاعت السياسة الأمريكية أن تحقق كل مرة أهدافها، فهزيمة عام 1967، وضع حداً لحلم عبد الناصر القومي، والإطاحة بمصدق أنهى أمل الإيرانيين بالتمكن من ثروتهم النفطية.

وحدها الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، بقيادة الإمام الخميني، من استطاعت إزعاج هذه السياسات ولمدة طويلة نسبية، وما نراه لحد اليوم من حصار لإيران، إلا محاولة أمريكية لإعادة الأمور إلى نصابها، وهو على ما يظهر، على طريق النجاح. الحروب الطويلة الأمد، هو أكبر مانع للشعوب والدول من التقدم الاقتصادي، وحسب الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، بمقابلة حديثة، فإن ما سمح للصين بالوصول لما وصلت إليه، هي إنهاؤها لكل الحروب، التي كانت قد شاركت بها بنهاية السبعينات، وهذه نظرية اجتماعية لعلماء التاريخ، فلا حضارة ممكنة إلا بوجود السلام الدائم. لذلك فإن إدخال إيران ودول المنطقة العربية، وحتى روسيا، باُتون حروب طويلة مكلفة، هي أحد وسائل السياسة الأمريكية، لإبقاء هذه الأطراف، بموقع الضعيف والغير قادر على البدء بعملية بناء مستقلة، قد تُهدد المصلحة الاقتصادية الرأسمالية الأمريكية. ولكن للأسف هذه الأنظمة الاستبدادية، تستعمل هي أيضاً هذه الحروب، لإبعاد أي أمل ديمقراطي تغييري داخلي، فهي بشكل واعٍ أو غير واعٍ، باتباع سياسة الحروب، تُنهي أي أمل حقيقي بالوقوف أمام الهيمنة الأمريكية.

بعد انتهاء فترة الاتحاد السوفيتي، دخلت السياسة الأمريكية بوضع جديد، وهو الانفراد وسياسة القطب الواحد، وأصبحت تدخلاتها العسكرية أكثر حِدة، وبدون أي رادع، وهو ما أدى إلى حروب الخليج الثانية والثالثة، والتي كانت سابقاً، بحرب الخليج الأولى، حرب أمريكية ضد إيران، ولكن بأيادي عربية. كذلك فرض اتفاقيات أوسلو لصالح الطرف الإسرائيلي، بعد الانفراد بالفلسطينيين، والانتقال بمفهوم تحرير فلسطين، إلى مفهوم إقامة فلسطين، على جزء محدود منها.

نرى لذلك، أن الأهداف المُقدسة السابقة الذكر، التي حكمت السياسة الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد بدأت بالتغيير:

أولاً: لم يعد هناك حاجة للحد من المد الشيوعي بعد انهيار حائط برلين والاتحاد السوفيتي، وخروج دول عديدة منه، ودخولهم الاتحاد الأوروبي، حليف أمريكا. 

ثانياً: لم تعد الحاجة للنفط القادم من الشرق الأوسط بنفس الحدة، فالإنتاج الأمريكي من النفط الصخري، والتطور التكنولوجي، والحصول على مصادر مُتجددة للطاقة، أدى إلى أن تستقل أمريكا بشكل كامل اقتصادياً، ولم يعُد هناك ما يُهددها وجودياً، إن توقف إنتاج النفط العربي أو الإيراني. بالمقابل ازداد الطلب العالمي على النفط، وخصوصاً الطلب الصيني، والتي أصبحت القوة الاقتصادية الثانية بالعالم. الخطر السوفيتي انتهى، ولكن أمريكا تواجه خطراً من نوع آخر، وهو الخطر الاقتصادي الصيني العارم، لذلك فإن الاهتمام بمصادر النفط بالشرق الأوسط، أمريكياً سيستمر، حتى تستطيع أن تتحكم أمريكا، بمصادر تمويل الصين النفطية، عن طريق كَم الانتاج المسموح به وسعره. 

ثالثاً: هذا المحور للسياسة الأمريكية، وهو الدعم لإسرائيل، ما زال على حاله، بل ازداد، بسبب انعدام الاستقلالية العربية سياسياً واقتصاديا. الدور الإسرائيلي أمريكياً، انتقل من حاجة إسرائيل لحماية أمريكا من الخطر العربي (كما كان زمن عبد الناصر مثلاً)، إلى الحاجة إلى إسرائيل قوية، لدعم الأنظمة المحافظة، أمام ثورات شعوبها، هذا ما نراه وما يُفسر، التقارب العربي الإسرائيلي بين دول الثورات المضادة، المُعادية للربيع العربي، وإسرائيل. فهي تريد أن تحمي نفسها، وتجلب التعاطف الامريكي، عن طريق الارتماء بالحضن الإسرائيلي، لم تعد إسرائيل موجودة لمنع أي تحالفات بالمنطقة، قد تؤدي إلى تهديد وسائل نقل النفط، والذي قلت أهميته، وإنما فقط الحفاظ على وضع سياسي عربي مُفكك، لمنع أي انتصار للربيع العربي، أو تكامل وتضامن الشعوب العربية، بأُطر أنظمة ديمقراطية، ستكون بشكل شبه أكيد، خارج إطار السياسة الأمريكية. المد الإسلامي المُتطرف وظواهره العنيفة، هي أيضاً جزء لهذه السياسات الهادفة لخنق الربيع العربي.

ما هي السياسات الأمريكية المُستقبلية، بناءً على مُعطيات الماضي والحاضر، من الصعب التنبؤ بذلك، ولكن يبقى هناك أمل بالتغيير، نتيجة أشياء عدة صغيرة حالياً، ولكنها قد تكون كبيرة غداً، أولاً وأهم شيء، انتشار الوعي وانتفاضة الشباب العربي، ضد كل مخلفات القرن العشرين، من تبعية وتجزئة، وأنظمة شمولية وأنظمة عسكرية، وخنق للحريات حتى نلحق بدول العالم.  ثانيها، تطور الوسائل البديلة للطاقة، وتراجع دور النفط بالمستقبل، مما سيحد من الأهمية الاستراتيجية من وجود الأنظمة المحافظة بالسياسة الأمريكية، وإمكانية التخلي عنها تدريجياً، وهو ما قد يؤدي بشكل آخر إلى تقليل الاهتمام بالدور الإسرائيلي كفاعل مهم بالسياسة الأمريكية. وما تصريحات مرشح الرئاسة ساندرز، بأمريكا وغيره، وتغير لغة الصحافة هناك، إلا بدايات بسيطة لتحول ممكن.