أخطاء الدب الروسي

أخطاء الدب الروسي. القدس العربي 28/02/2022

د. نزار بدران

منذ الحرب العالمية الثانية، لم نر وضعاً يهدد السلم العالمي كما نراه الآن في الحرب الروسية على أوكرانيا. فمن خلف ستار تلك الحرب نرى خطر المواجهة العسكرية، بين قوى نووية عظمى، وما يشكل ذلك من كارثة على الإنسانية والحياة على كوكب الأرض. 

عندما قرر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إطلاق حملته ضد أوكرانيا، لأسباب يعتبرها وجيهة، لم يكن على ما أظن، قد حسب كل النتائج الممكنة، وأولها توحيد الشعب الأوكراني كله خلف جيشه وقيادته السياسية. مرد ذلك برأيي، هو في طبيعة الأنظمة الديكتاتورية، والتي ينفرد فيها شخص واحد في اتخاذ القرار. في الدول الديمقراطية، هناك هيئات ولجان وخبراء وأشياء كثيرة تسبق القرار السياسي، ذلك في جو من البحث عن المعرفة الدقيقة للمسببات والنتائج المحتملة قبل اتخاذ أي قرار. أما في دولة مثل روسيا، حيث القرار هو في يد شخص واحد، فإن هذه الهيئات المُفترض فيها تشخيص المشاكل وتقديم الاقتراحات، بناء على معرفة دقيقة، تتميز بشيئين هما: أولاً التملق للرئيس، وإعطاءه المقولات التي تناسب توجهه ورغباته، وثانيهما، عدم الكفاءة بالدور المنوط بها، ذلك لأن التعيينات بهذه اللجان والمناصب العليا، يتم عبر آلية الولاء وليس المقدرة (ونحن متعودون على ذلك في بلادنا). هذا يؤدي إلى ضبابية كاملة أمام الرئيس، والذي يتخذ قراره النهائي دون أي رؤية حقيقية.

من هذا المُنطلق، فإننا نقول أن النظام الاستبدادي، هو خطر حقيقي على شعبه أولاً، قبل أن يكون خطراً على الآخرين. والأمثلة كثيرة من نظام صدام حسين وبشار الأسد إلى عمر البشير ومادورو بفنزويلا والملالي بإيران.

لو أردنا بعد بضعة أيام من صمود الشعب والجيش الأوكراني، تقييم النتائج على المدى المتوسط والبعيد، مهما كانت نتيجة الصراع، انسحاب أو احتلال روسي، فإننا نستطيع إعطاءها عنواناً عاماً، هو أن الرئيس بوتين حقق وبسرعة فائقة، كل ما كان يبحث عن إبعاده، أي أنه سيصل على نتائج عكسية تماماً عما كان يأمل.

على المستوى الأوكراني، لم يعد هذا الشعب الصديق للروس، والذي يتقاسم معه الأصول السلافية والثقافة والدين وحتى اللغة، لن يعود صديقاً بعد اليوم. تدمير مدنه وحصارها وقتل أبنائه وتشريد مئات الآلاف، ليس من علامات الصداقة المُتفق عليها. ستقترب أوكرانيا أكثر وأكثر من حُلفائها الغربيين، والمُطالبة بالالتحاق بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، حتى تحمي نفسها من الدب الروسي. صمودها لحد الآن يُبرر لها ذلك، فهذا الصمود، هو أيضاً حماية لأوروبا، سيعترف الأوروبيون بذلك ولن يستطيعوا رفض طلبها. هذا ما سيُقرب حدود الناتو من روسيا بدل إبعادها.

على المستوى الأوروبي، فإن التيارات الاجتماعية والفكرية، التي كانت وراء رفض الصيغة الفيدرالية للاتحاد، هذا عُبر عنه عن طريق رفض الدستور الأوروبي في جميع الاستفتاءات التي حصلت سابقاً، حتى العودة للخلف وبدء الخروج من الاتحاد، كما فعلت بريطانيا عام 2016. هذا التيار سيتراجع، أكبر معبر عنه هو اليمين المتطرف الذي يقاسمه بوتين الفكر. التهديد الوجودي الذي استشعره الأوروبيون، خصوصاً الخطر النووي، يدفع نحو تقوية أواصر الاتحاد، ودفعه باتجاه العسكرة والتسلح، كما رأينا مع القرارات الألمانية الأخيرة، وانضمام كل الدول الأوروبية الخارجة عنه، مثل السويد.

على مستوى حلف شمال الأطلسي، أي بشكل خاص، التواجد العسكري الأمريكي في أوروبا، إنه لمن المؤكد توسع هذا الحلف نحو دول جديدة، وإعادة الحياة له، بعد فترة سُبات تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، والانتهاء المُفترض للحرب الباردة. سنرى أن التيارات الفكرية المُعارضة له أوروبياً، وخصوصاً أمريكياً، لن تصمد بعد عودة الخطر الروسي إلى أوروبا، وما يشمله من تهديد بحرب عالمية ثالثة. 

على مستوى جنوب البحر المتوسط والمنطقة العربية، فهناك التواجد الروسي منذ عام 2015 بسوريا، والمسكوت عنه غربياً. فدول الناتو لم تكن تعتبر هذا النزاع ذا بُعد استراتيجي لها، بل فقط اشكالية تكتيكية. عودة الحرب الباردة، وحتى الساخنة، قد تُغير الموقف الغربي ودول حلف شمال الأطلسي، في كل أماكن تواجدهم، بما فيه سوريا وليبيا وبعض الدول الأفريقية.

بالنسبة لإسرائيل، بسبب وجود ملايين المواطنين من أصول روسية، فإن موقعها لن يكون مريحاً، هذا ما يفتح للفلسطينيين، إن استغلوا الفرصة، الإمكانية لتعميق الشرخ الأمريكي الإسرائيلي وقد امتنعت إسرائيل يوم الجمعة الماضي في الأمم المتحدة عن إدانة الهجوم الروسي، وهو ما أثار حفيظة الأميركيين. 

على مستوى الصين، فإن المراهنين على التحالف الروسي الصيني، واهمون، كما كانوا واهمين مع التحالف الروسي الصيني لإنقاذ إيران. الصين لا تنزعج كثيراً من تغيير اتجاهات الاهتمام الأمريكي من جنوب وشرق آسيا إلى أوروبا وروسيا. هذا سيضعها في موقع أكثر راحة، وهي قوة اقتصادية بشكل أساسي، وتبني علاقاتها مع الغرب، على مبدأ التبادل التجاري، وليس على مستوى التحالفات الإيديولوجية. روسيا في هذا المجال الاقتصادي، لا تُشكل وزناً راجحاً، حتى تقوم الصين بالابتعاد عن أمريكا، أو إزعاجها، فأمريكا أكبر مُستهلك في العالم لبضائعها. الميزان التجاري بينهما، هو بشكل كبير لصالح الصين، ما كان السبب الرئيسي للخلاف بينهما زمن الرئيس دونالد ترامب وحالياً. كما أن هذه الأزمة، بحرفها اهتمامات أمريكا والغرب بشكل عام، تُعطي الصين حرية أكبر بالتحكم في منطقتها الجغرافية، خصوصاً مع تايوان وتطوير طرق الحرير، مشروعها الاقتصادي الكبير.

الأهم هو على المستوى الروسي، بوتين لم يكن حقيقة يبحث عن مواجهة أمريكا أو الناتو، بل فقط إبعاد كل توجه ديمقراطي في الدول المجاورة لروسيا، كما فعل في جورجيا وأوكرانيا أيضاً، عندما ضم شبه جزيرة القرم. خوفه من العدوى الديمقراطية في بلاده، هو برأيي الدافع الرئيسي لسياساته، تحت غطاء الخطر القادم من الغرب. لكن صمود الشعب والجيش الأوكراني، والدعم الهائل الذي يحصلون عليه من الغرب، لن يسمح بالنجاح هذه المرة، على عكس المرات السابقة. هذا ما سبب في بدء الشعب الروسي بالتعبير الواضح عن رفضه لسياسات بوتين العسكرية. كلما زاد طول الحرب والمقاومة، وتوسع المستنقع الأوكراني، كلما زاد تحرك الشعب الروسي وزاد وعيه بالخطر المُحدق به من هكذا سياسات انفرادية.

أمريكا والغرب كعادتهما، لن يرفعا العقوبات ولن يتوقفا عن دعم أوكرانيا، وإعادة تمركز الناتو وتوسعه في أوروبا، بل سيذهبان برأيي أيضاً إلى محاولة تحييد الخطر الروسي، حتى لو انتهت الحرب الأوكرانية لصالح أو ضد بوتين. كما عودتنا السياسات الأمريكية في مناطق أخرى في العالم، فإنها ستدفع نحو تقوية المعارضة الديمقراطية للنظام، ولكن أيضاً للأسف، نحو تقوية التوجهات القومية، والتي ستؤسس لمشاكل داخلية لروسيا، قد تصل إلى حد مطالبة بعض القوميات بالاستقلال، كما رأينا مثلاً بالشيشان، والثمن الباهظ الذي دفعته لذلك. تحييد الخطر الروسي لن يكون مرتبطاً بنوعية النظام السياسي الروسي، هو مثل الخطر المصري على إسرائيل، فهو ليس مرتبطاً بنوعية النظام المصري، بل بطبيعة الخطر المتواجد بشكل عضوي في الطرف الروسي. ستقوم أمريكا برأيي، بمحاولة استكمال إنهاء الحرب الباردة، والتي على ما يبدو لم تكن قد انتهت كما ظن الجميع. بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي، لن يكون من المُستبعد أن تستمر في محاولات لتفكيك الاتحاد الروسي. ونحن نعلم أن روسيا تحتوي على 128 جنسية مختلفة، ولكن الروس يشكلون الأغلبية الكبرى، علما أن بوتين تراجع عن معاهدات عديدة مع هذه المناطق وُقَّعَت بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، لصالح سلطة مركزية قوية على عكس طموحات هذه القوميات.

النظام السياسي في روسيا، المبني على حكم الفرد ورجال الأعمال الفاسدين، هو في الحقيقة أكبر خطر على روسيا حالياً ومستقبلاً. وليس كما يدعي بوتين الخطر الغربي، والذي كان في طريقه للانحسار والاختفاء، لصالح نزاع جديد مع الصين.

على الدول الغربية أن تتعلم أيضا أن دعم الأنظمة التسلطية كما يفعلون في بلاد عديدة، وكما فعلوا مع بوتين، ساكتين عن انتهاكاته المستمرة للدول المجاورة او لحقوق معارضته ، هو سيف ذو حدين، وان إحترام حقوق الشعوب بالحرية والديمقراطية لا يجوز أن يضحى به لصالح منافع اقتصادية مؤقته. 

بالنسبة لنا، الاختباء خلف الشعارات الفارغة، وتصنيف الناس داخل علب فكرية، كما نرى حالياً في النقاشات الدائرة في دولنا، لن تُفيد شيئاً. علينا رؤية الأشياء كما هي، وليس كما نتمنى.

حروب بوتين. القدس العربي 26/02/2022

حروب بوتين

هناك من يُهلل للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين لقراره بغزو أوكرانيا هادفا إسقاط ديمقراطيتها وتعيين حكومة تابعة له، وكأننا أعداء لهذا البلد، الذي تقيم فيه جالية عربية كبيرة مزدهرة، وفي جامعاتها الكثير من الطلبة العرب.
فهم الحرب على أوكرانيا من منظار وقوف مُفترض لبوتين مع القضية الفلسطينية، أو حق سوريا بالجولان، هو هراء. فروسيا بوتين أرسلت ملايين المواطنين لإسرائيل، وهذا أقوى سلاح أُعطي لها. كما أنها دمرت سوريا بغاراتها الجوية، وهجرت ملايين المدنيين العُزل، وتدخلت بقواتها الخاصة لدعم البشير في السودان وحفتر بليبيا، ضد إرادة شعوبهما بالحرية.
وقوف بعض المثقفين اليساريين مع بوتين، المدعوم من كل الحركات اليمينية المتطرفة بالعالم، وهذا واضح هنا في فرنسا، هو فقط جزء من هذيان يتملكهم منذ عشرات السنين يُسمى «أمريكا». كل مقاييسهم هي أمريكا. كل مواقفهم تبنى فقط بناء على من هو ضد أمريكا، أو معها. هم يجردون أنفسهم من حرية التفكير المستقل. فمثلا قد أكون مع الصين في خلافها مع أمريكا، وضد الصين لموقفها من هونغ كونغ، أو الأقلية المسلمة هناك. الأساس بالمثقف أن يفكر بنفسه، وليس فقط دعم أو معارضة. هم كمن يحاول دائماً الاختيار بين الكوليرا و الطاعون، ولا يرون أبداً، الاختيار الثالث المستقل وهو الصحة الجيدة.
ما هي الدوافع الحقيقية لحرب بوتين الجديدة، هل هي حقاً المقاطعات الشرقية الناطقة بالروسية، أو خطر تمدد الناتو. في زمن الرئيس الأمريكي ترامب، وفي بداية عهد الرئيس بايدن، كنا نرى من ينتظر انتهاء دور الحلف، خصوصاً مع ظهور الرغبة الأمريكية بالتخلي عن حلفائها الأوروبيين، والتوجه نحو أولويتها الجديدة أي الصين، الآن مع أفعال بوتين نرى العكس أي العودة لتقوية وتماسك هذا الحلف لعشرات السنين القادمة. ولن تستطيع روسيا، حتى لو احتلت أوكرانيا منع ذلك.

ماذا يُحرك سياسة الرئيس بوتين بشكل عام، هل هو حقاً الدفاع عن روسيا ومصالحها، أم عن نظامه وبقائه في السلطة. اتجه بوتين منذ وصوله للحكم في مسارين متوازيين، الأول هو إرساء نظام أوتوقراطي فردي، يزداد يوماً بعد يوم، والثاني هو محاربة أي توجه ديمقراطي بالدول المجاورة له، مثل أوكرانيا وجورجيا وكازاكستان، وحتى البعيدة كما نرى مثلاً ببعض الدول العربية وفنزويلا.
مصالح روسيا الحقيقية، هي بناء وطن حيث يجد كل مواطن حقوقه محفوظة، بالصحة والتعليم والعمل والعيش الكريم. هل حقق بوتين ذلك لشعبه على مدى أكثر من عشرين عاماً من حكم منفرد؟. هل أمن للمواطن الروسي حرية التعبير عن الرأي، وهو يضع كل معارضيه في السجون، ويسرق الانتخابات، ويبدل الدستور كما يشاء ويُقيد كل وسائل الإعلام.
ما يُحرك بوتين هو فقط خوفه من هذا الشعب الروسي نفسه، وهو يتململ بين الحينة والأخرى. هذا الشعب لا يبحث عن تدمير أوكرانيا، فهو لم يشعر مرة بالعداء نحوها، فشعب أوكرانيا قريب جداً من الروس، تاريخاً ولغة وثقافة، رغم ما فرض ستالين عليهم من مجاعة مُختلقة قتلت حوالي ستة ملايين شخص في بداية الثلاثينيات.
إلهاء الشعب بحروب خارجية وأعداء وهميين هي لعبة تقليدية للأنظمة الديكتاتورية، هذه الأنظمة والتي بالنهاية لا تُشكل خطراً إلا على شعوبها، هذا ما رأيناه مع صدام حسين بحروبه الدائمة، ومع بشار الأسد مع تدمير سوريا، ومع الرئيس السوداني السابق عمر البشير، حين قسم السودان وفقد الجنوب.
الخوف من الشعب الروسي التواق للحرية، هو دافع النظام وليس الخوف من الناتو أو الغرب، والذي لم يعد يُعير بالاً لروسيا منذ عشرات السنين، فدخلها القومي لا يتجاوز الدخل القومي لإسبانيا. كل اهتمام الغرب كان متجهاً للصين، القوة الجديدة الوحيدة في العالم، ولكن قوة اقتصادية قبل كل شيء، وليس قوة احتلال وحروب.
العودة للتاريخ يُرينا أن حروب الأقوياء على الضعفاء تفشل دائماً. رأينا ذلك مع أمريكا بفيتنام وأفغانستان، ومع الاتحاد السوفييتي بأفغانستان، ولكن أيضاُ في فنلندا نهاية الثلاثينات، حين حاول ستالين ضم هذا البلد إلى الاتحاد بالقوة، ففشل بذلك خاسراً مئات الآلاف من القتلى من جيشه أمام بأس وعناد الشعب الفنلندي، والذي لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة. الحل هو فقط بيد الشعب الروسي، والذي آمل أن لا يسكت طويلاً عما يتلاعب بمستقبله وأمله بالديمقراطية.