درس النساء إلايرانيات إلى النساء العربيات. مرأة حياة حرية ، القدس العربي 28/10/2022. نزار بدران

تلعب النساء الإيرانيات دورا محوريا في تاريخ إيران، وذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر ،وشاركن دائما في تشكيل المجتمع الإيراني، بتمسكهن بحقوقهن ورفض الأطر التقليدية وما تمثله من تمييز. لذلك نرى الآن، على إثر مقتل الشابة اليانعة مهسا أميني بسبب حجاب، حراكا نسائيا قويا تمكن من ايقاظ كافة مكونات الشعب. قد يكون هذا مستهجنا في اوساط المجتمع العربي خصوصاً المحافظ ، فنحن في كافة اشكال النضال ضد الاستبداد، ومنذ عشرات السنين، لا نرى في مشاركة المرأة العربية إلا رافدا أو داعما للرجل في أحسن الأحوال، وليس المبادر بها وقيادتها كما نرى حاليا في إيران. 

 عكس الوضع في جميع الدول العربية، فإن التغيير في القوانين لصالح حقوق النساء في إيران كان دائما نتيجة نضالهن، وليس مِنَّة من الرجال أو من السلطة السياسية. في القرن التاسع عشر شاركت فاطمة النقية (1817-1852) في تأسيس حركة البهائين  رافعة شعار تحرير المرأة والمساواة مع الرجل من منطلق ديني شيعي، وكرست حياتها لهذا الهدف، حتى يحكى أنها رفضت الزواج من ملك اذيربيجان لتؤدي رسالتها.

  زمن حكم الشاه، تمكنت النساء عام 1963 من فرض قانون حق المرأة بالتصويت والمشاركة في الحياة السياسية، ثم  قانون الأحوال الشخصية وحماية العائلة عام 1967 والذي يساوي بين المرأة والرجل ويضع حدا أدنى لسن الزواج ( ثمانية عشر سنة), ويحد من تعدد الزوجات، ومن الحق المطلق للرجل بالطلاق وارجاعه إلى القضاء، وحضانة النساء المطلقات لاطفالهن. كذلك لم تسن قوانين إجبارية بالنسبة للملبس أو منع الاختلاط في المجال العام وتم التراجع عن قانون سُنّ عام 1936 يمنع الحجاب واللباس الديني للرجال والنساء.

كل شي يجب أن يكون إسلاميا

شاركت النساء في الثورة الإيرانية عام 1979, وتعاضد الرجال والنساء تحت شعار « خبز، بيت، حرية »، كذلك شاركن بقوة في الحرب العراقيه الايرانيه دفاعا عن الثورة الإسلامية بدعمهن الدائم للجهد العسكري والاقتصادي. لكن ذلك لم يشفع لهن للحفاظ على الحقوق المكتسبة زمن الشاه.

 تحت زعامة الإمام الخميني تم التراجع عن قانون حمايه العائلة أي الاحوال الشخصية، مؤديا لنتائج مروعة أهمها تخفيض سن الزواج من ثمانية عشر إلى تسعة أعوام، منتهكا حقوق الطفولة، كذلك إعادة السيطرة الكاملة للرجل على عائلته وكأن الزوجة والاطفال ملكه الشخصي، بما في ذلك الطلاق وحضانة الأطفال، بالإضافة للفصل التام بين الرجال والنساء في الفضاء العام. هذا ما دفع النساء إلى القيام بأول احتجاجات تحتاج ايران بعد الثورة، حيث تجمهرن بكثافة في الشوارع في الثامن من آذار 1979 وهو اليوم العالمي لحقوق المرأة، احتجاجا على القانون الجديد الملزم بارتداء الحجاب بالإضافة لالغاء القوانين السابقة، ووضع قوانين جديدة مجحفة للأحوال الشخصية وحماية العائلة. تم بعد ذلك حظر الاحتجاجات وفرض المزيد من القوانين المقيدة للحرية وحقوق النساء، مثل الفصل من الوظائف التي تعتبر حكرا على الرجال، الطرد من العمل، والفصل بين الجنسين في نظام التعليم ، والغيت الحقوق المكتسبة في الستينات، ما عدا حق الانتخاب والذي وقف الخميني ضده عند اقراره  زمن النظام الملكي. وما الحفاظ عليه إلا بهدف اعطاء شرعية واسعة للنظام الجديد. في المقابل لم يرافق هذا الحق الحقوق الأخرى المرتبطة به، مثل شغل الوظائف السياسة والقضائية، وتوج ذلك الارتداد باعدام أول وزيرة للتعليم في إيران ما بين 1968 و 1971 السيدة الطبيبة بارسا فرخرو، بحجة نشر الرذيلة والفساد في الأرض مما يغضب الله.

رغم كل ذلك لم تتراجع النساء عن المطالبة بحقوقهن، لكن بطرق خفية تحت غطاء الاجتماعات البيتية وجلسات القراءة والعمل الأدبي والفني. كما انهن استمرين بالاحتفال باليوم العالمي لحقوق المرأة كل عام في الثامن من آذار، رغم أن النظام حدد يوما آخر. حتى انهن شكلن تجمعا لامهات السجناء السياسيين المفقودين بعد إعدام ثلاثين ألفا منهم مع بداية الحرب مع العراق بأمر من الخميني.

تغيرت الأوضاع قليلا لصالح النساء بعد وفاته، حيث حصل انفتاح سياسي نسبي، سمح بدخول النساء بكثافة في مجال التعليم ودخول الجامعات مع وضع عوائق لبعض التخصصات وتحديد كوتا مثل طب النساء والأطفال.

كان من اسباب عدم تمكن السلطة من اخراس النساء، ذلك التوافق في الرؤى بين التيارات النسائيه الاسلامية وتلك العلمانية، المجموعة الأولى دفعت باتجاه إعادة قراءة النصوص الدينية وتفسيرها بما يتوافق مع العصر، ورفض الرضوخ للتفسير التقليدي الرجعي، وهو ما يتناسب مع الطرح العلماني الحداثي الناظر إلى الغرب. جزء بسيط من النساء ذوات الانتماء الديني التقليدي وقفن بصف السلطة وقوانينها القادمة من أعماق التاريخ وقبلن بلعب دور تجميلي للمجلس، دون أي فائدة لكفاح الحركات النسوية بجناحيها. من الملاحظ أن الحكومات الإصلاحية كانت أكثر قبولا بمطالب النساء مثل القبول بالمعاهدة الدولية للأمم المتحدة «سيدو» والهادفة إلى منع التمييز القضائي والقانوني تجاه النساء، أما تلك المتشددة مثل الحالية بقيادة الرئيس رئيسي فكانت تزيد الخناق وتتراجع عن الإصلاحات السابقة، أو الاعتداء على النماذج الحقوقية مثل ما حدث مع الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2003 السيدة شيرين عبادي ومصادرة جائزتها.

كما يظهر من هذا السرد فالمراة الإيرانية منذ البدأ عملت على صيانة حقوقها في كل الظروف، وما احداث هذه الايام في زمن سلطة متشددة محافظة، إلا جزء من هذه الظاهرة المتأرجحة بين المد والجزر.

المرأة العربية

بالمقابل في بلداننا للأسف لم تتمكن المرأة العربية من أخذ أي دور مهم فعال في كافة أشكال الاحتجاجات والثورات، وبقيت ضحية الظلم السياسي مثل الرجل ، ولكن أيضا ضحية ذلك الرجل بعاداته وتقاليده القبلية.

إن كان لنا أن نستنتج درسا من نضال المرأة الإيرانية، فهو أهمية دور النساء في العمل الثوري وقيادته، فالرجال لم ولن يتمكنوا من الوصول إلى نجاحات سياسية واجتماعية بحكم ارتباطهم الذهني والعاطفي مع مجموعة من التقاليد البالية، حتى أن السلطة السياسية الغير ديمقراطية، لا تستطيع فرض اصلاحات لصالح النساء على قلتها بسبب ذلك (باستثناء تونس زمن الرئيس بورقيبه), فمثلا في الأراضي الفلسطينية لم تتمكن السلطة من اقناع الناس وخصوصا الجمهور الرجالي المحافظ بقبول اتفاقية سيدو للأمم المتحدة.

الدرس الإيراني للنساء العربيات هو ألا ينتظرن أي خير وتقدم لحقوقهن من السلطات السياسية والتي تقمع الجميع، ولا كذلك من المجتمع الذكوري التقليدي. إن لم تاخذ المرأة العربية حقوقها بنفسها أي من الأسفل فلن تاتيها من فوق. هذا سيتم فقط عن طريق تنظيم النساء لانفسهن كما فعلت المرأة الإيرانية، وانتزاع حقوقهن بانفسهن من النصف الذكوري في المجتمع قبل السلطة السياسية.

على المرأة العربية كمثيلتها الإيرانية أن تأخذ دورها في قيادة الحراك الثوري وليس فقط المشاركة. الرجل العربي هو أقل استعدادا لتبني او المطالبة باصلاحات إجتماعية جذرية بسبب إصابته باعاقة مزمنة مرتبطة باوهام وعادات عفا عنها الزمن وكأنها سلاسل في قدميه تعَوَّد عليها وكأنها طبيعة، لا يستطيع التخلص منها دون اجبار. على عكس دول وشعوب عديدة في العالم خاضت ثورات سياسية واجتماعية كبرى مثل دول شرق اوروبا أو امريكا اللاتينيه حيث لا توجد هذه الإعاقة. وحدها المرأة هي المؤهلة لهذه المهمة التاريخية الصعبة؛ إعادة صياغة المجتمع العربي ووضعه على طريق الانفتاح. 

هذا هو درس نساء إيران لنا جميعاً، والذي علينا التمحص به وتقليده.

المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني ، عودة الايديولوجيا… القدس العربي 21/10/2022

المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني

عودة الايديولوجيا 

نزار بدران

انعقد الأحد السادس عشر من تشرين الأول المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني في بكين لانتخاب رئيساً له, وكذلك أعضاء مؤسسات الحزب لمدة خمس سنوات جديدة. نظريا لم يكن للرئيس الحالي شي جين بينغ إمكانية التقدم، فهو قد أنهى فترتين متتاليتين. تغيير الدستور حديثا مكنه من ذلك، ونظريا يستطيع أن يبقى رئيسا مدى الحياة، وهو ما يذكرنا بالرؤساء الملهمين العرب.

للأسف هذا الانحراف عن النظام السياسي الصيني والذي احترمه الرؤساء الثلاثة السابقين، يعني بوضوح تقوية القبضة الحديدية على الشعب الصيني. أحداث هونج كونج في السنوات الأخيرة، وانهاء نظامها الديمقراطي لصالح هيمنة بكين دليل على ذلك، فالرئيس بينغ قال في كلمته امام المؤتمر أنه تمكن من إنهاء الفوضى في هونغ كونغ لصالح النظام. أي أنه يعتبر ببساطه أن نظامها الديمقراطي كان نوعا من الفوضى، متراجعا تماما عن سياسة دولة بنظامين كما كان اتفق عليه عند استعادة الصين سيادتها عليها. هذا ما يدفع تايوان حاليا إلى رفض عرض الرئيس الصيني لاعتماد نفس النهج.

كان من المنتظر أن يتكلم الرئيس عن الوضع الاقتصادي والصحي الداخلي وسياسة كوڤيد صفر والعلاقات الدولية والحرب الروسية، ومشاكل أخرى كثيرة، لكنه في الحقيقة وعلى مدار ساعة ونصف اكتفى بالتركيز على مركزية الحزب الشيوعي الصيني واستعادة تايوان وتقوية الجيش وقوة الردع. أوضح دوره المهم بانهاء الفساد داخل اطر وأعضاء الحزب واستغلاله من طرف اعضاء نافذين للاثراء الغير مشروع، أي أنه في سنوات حكمه العشرة اعاد الحزب إلى الطريق الصحيح وعليه الآن العمل لتطوير القطاع العام.

الحزب الشيوعي، كما قال الرئيس، يجب أن يكون في كل مكان، فالصين هي الحزب والحزب هو الصين، لذلك، أضاف، هو في الشمال والجنوب والشرق والغرب جاعلا الصين نموذجا للآخرين. هذه النقلة النوعية إلى الخلف أي على المستوى الايديولوجي، يعيد ذكريات ماو تسي تونغ الرئيس المؤسس، والذي يعتبره بينغ قدوة له. وتبنى مقولة ماو أن الأهمية هي فقط للشعب وليس للافراد، وكل ما يعني هذا الشعار عن اغلاق أي باب على الحريات العامة والفردية، وفرض رقابة صارمة خصوصاً مع تطور التكنولوجيا الكبير في هذا المجال.

يمكن تفسير هذه القبضة الحديدية بالنجاحات الاقتصادية الكبرى للصين، وهو ما سمح لبينغ بأن يضيف البعد الايديولوجي ويفرض من جديد هذا الغطاء الثقيل على البلاد والذي إسمه الحزب الشيوعي بدون معارضة تذكر. الرؤساء الثلاثة السابقون لم يفعلوا ذلك ،بل اكتفوا بالتبادل التجاري مع الغرب والعالم دون اهتمام بالايدولوجيا، كان إلرئيس الأسبق دنغ جزاو بنغ  يرفع شعار«لا يهم لون القط إن كان قادرا على صيد الفئران». صين بينغ الجديدة لا تطالب فقط بزيادة قوتها الاقتصادية وإنما تصدير نموذجها الايديولوجي إلى العالم وفرض قيم الوتقراطية مقابل حكم الديموقراطية، وادخال تلك القيم إلى المنظمات الدولية مقابل القيم الغربية.

نحن إذا مع شي جين بينغ نسير بالاتجاه المعاكس لما كان يتصوره الغرب وخصوصا امريكا ، زمن الرئيس كلينتون، والذي دافع عن اقتصاد صيني ذو بنية ليبرالية سينتهي بفرض سلطة ليبرالية أيضا. إلرئيس بوش الأب ارسل مبعوثا سريا له لبكين ليطمأنهم على استمرار التبادل التجاري بين البلدين رغم مذابح ساحة تيتان من عام 1989، رغم التنديد الأمريكي الرسمي بذلك. نفس الخطأ ارتكبته أوروبا مع روسيا حيث لم يدفع ربط الاقتصادين خصوصاً المانيا وروسيا بتفادي الانحراف نحو نظام اوتوقراطي عنيف ومعتدي.

مبدأ أن التجارة تستطيع إنهاء النزاعات والصراعات نجحت في غرب أوروبا وبعض المناطق الأخرى ، ولكنها ليست صالحة دائما. كان الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير قبل قرون يصف بورصة لندن الشهيرة قائلا «بأنها توحد الجميع ، يدخلها اليهودي والمسلم والمسيحي ويتعاملون معا وكأنهم من دين واحد. الكافر هو فقط من أعلن افلاسه ».

هذا النموذج الجديد الصيني قد يجد له في دول العالم الغير ديمقراطية من يهتم باستيراده لكن نجاحه مرتبط بشكل عضوي بالنجاح الاقتصادي كما في الصين ، لذلك فهو لن يتوسع برايي كثيرا ، فدولة مثل روسيا لا يمكن أن تكون نموذجا يحتدى به، الصين في وسط هذه الأنظمة في وضع استثنائي وليست القاعدة.

لم يذكر الرئيس الصيني روسيا أو حرب اوكرانيا، من الواضح أن روسيا لا تمثل له شريكا أو حليفا بل فقط منطقة نفوذ. هو يشكل لها خطرا أكبر بكثير من الغرب ، خصوصاً أن الشعب الروسي يعتبر نفسه منتميا إلى الجنس الغربي ويرفض فكرة أن ينتمي إلى شعوب وسط واقصى آسيا. قد تكون الصين من هذا المنظار قادرة على فرض وقف الحرب الروسية حفاظا على طريق الحرير الشمالي.

مركزية الحزب الشيوعي ، تطوير القدرات العسكريه واستعادة تايوان ، هذه هي النقاط التي أثارها الرئيس الصيني. يبقى موقف ورأي الشعب الصيني نفسه بملاينه العديدة. لحد الآن لم نرى إلا بعض الاحتجاجات الخجولة. باستطاعتنا افتراض دعم الشعب لرئيسه، فهو -على طريقة نظرية توماس هوبز في العقد الاجتماعي-  أمن للشعب الأمان والسلام الداخلي والازدهار الاقتصادي، مقابل أن يتنازل هذا الشعب عن حريته. فهل سيقبل الصينيون هذه المعادلة لسنوات طويلة ؟

محلل ومراقب سياسي 

خيارات روسيا المُرَّةالقدس العربي ، نزار بدران ، 15/10/2022

الحرب الروسية على أوكرانيا تزداد استعارا وعنفا. صلابة الصمود الأوكراني شعبا وجيشا وقيادة، محصنا بالدعم الغربي؛ الأمريكي بشكل خاص، لم يسمح لبوتين بتحقيق خطته الأساسية، أي الانتصار السريع وتغيير النظام وتنصيب نظام عميل.
هذا ما دفعه إلى تخفيض سقف آماله والاكتفاء بضم المقاطعات الشرقية الناطقة باللغة الروسية، ولكن في ظل وضع جيش مهزوم في أرض المعركة وغير قادر على إيقاف تقدم الجيش الأوكراني، ما يعني أن هذا الهدف الاخير على محدوديته اصبح بدوره صعب المنال. حتى ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 التي سكت عنها الغرب، عادت من جديد إلى الواجهة مع ضرب الجسر الذي بناه الروس، وما تلاه من قصف صاروخي روسي عنيف لإرهاب المدنيين كما تفعل المنظمات والأنظمة المافوية عندما تنهزم في ميدان المعركة.

سيناريوهات محتملة

إلى أين تتجه إذا الحرب الروسية على أوكرانيا، وهل من سيناريوهات محتملة للخروج منها ؟
لمعرفة ذلك لا يكفي رفع الشعارات الرنانة المنتقاة من ملف الحرب الباردة ، فهي لم تعد تعبر عن واقع ملموس.
علينا أن نتصور ما سيحدث بناء على طبيعة القوى المشاركة في الصراع وإمكاناتها العسكرية والمادية وتحالفاتها الدولية وأهدافها بعيدة المدى.
أولا نظام الكرملين أو بالأصح نظام بوتين هو أقرب إلى سلطة طغمة منه إلى نظام سياسي، هذه الطغمة لا تعبر عن حقيقة الشعب الروسي، يكفي لإدراك ذلك رؤية طوابير الشباب من الطبقة الوسطى المتعلمة، وهم يصطفون على حدود دول الجوار هربا من التعبئة العامة، خوفا من موت محتمل على جبهة لا تعنيهم ولا تعني مستقبلهم، كازاخستان وحدها استقبلت أكثر من مئتي ألف مواطن روسي هارب، ويزيد العدد الإجمالي عن سبعمئة ألف.
هذا النظام لا يهدف في حقيقته إلا إلى بقائه نفسه وإحكام السيطرة على روسيا وشعبها ، وليس كما يدعي الحفاظ على أمن روسيا وتدمير الغرب وتغيير قواعد اللعبة الدولية.
من ناحية القوة هو يمتلك جيشا كان يعتبر الثاني في العالم ، بالإضافة لترسانة نووية هي الأولى. أما اقتصاديا فهو يعتمد بشكل كبير على الدخل الريعي النفطي والغازي وخصوصا المصدر لأوروبا، ولا يتجاوز دخلها القومي الدخل القومي الداخلي لإسبانيا. على عكس أوكرانيا ، ليس للرئيس الروسي حلفاء يتبنون سياساته العدوانية واحتلاله لأجزاء من أوكرانيا.

البعد الاقتصادي

هؤلاء الذين يعتبرهم بوتين حلفاءه الكبار وهم الهند والصين لا يهمهم إلا البعد الاقتصادي لروسيا من ناحية تصدير الطاقة والأسلحة، وليس الدخول في مواجهة مع الغرب الذي يمثل أهم الأسواق أمام منتجاتهم، وتتمسك هي أيضا بمبدأ سيادة الدول، وامتنعوا عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الاخير بخصوص ضم الأراضي الأوكرانية لروسيا، ذلك القرار الذي دعمته الأغلبية الساحقة من دول العالم، مظهرا عزلة روسيا المتنامية.
روسيا البيضاء الحليف الوفي بسبب ارتباط نظام لوكاشنكو بإرادة بوتين الذي ساهم بدعمه قبل بضع سنين أمام انتفاضة شعبية عارمة، تجد نفسها بين نارين روسيا من جهة وشعب أثبت على أرض الواقع رفضه للحرب الروسية.
أما إيران وكوريا الشمالية فهما أقل بكثير من أن تعادل بدعمهما العسكري ما يقدمه الغرب لأوكرانيا.
لا يجمع كل هذه الدول أي تحالفات عسكرية على مستوى دول حلف شمال الأطلسي، بل لها في بعض الأحيان خلافات وحروب.
بالنسبة لما قد يسمى الحليف العربي كموقف تلك المشاركة في منظمة أوبيك بلس، بخفض مستوى الإنتاج لزيادة أسعار النفط خدمة لبوتين، مواقفها تندرج في حقيقتها في حرب هذه الدول ضد الربيع العربي، مظهرين تحالفهم الطبيعي مع نظام استبدادي بدأ في الانهيار، وكأن ذلك سيغير شيئاً في نتيجة الحرب.
الاحتجاجات الشعبية في إيران تزيد الخوف بوصول العدوى إلى هذه الأنظمة نفسها. التقارب بين دول الخليج وروسيا بدأ منذ سنوات عدة في مجال الدعم العسكري والتنسيق النفطي.
كان ذلك ممكنا بسبب عدم اكتراث أمريكا بذلك، النموذج السوري مع تراجع أوباما وترك المكان لروسيا هو أحد أهم مظاهر هذه السياسة.
أما الآن فالأمور قد تغيرت ولم يعد هناك مكان لروسيا من المنظار الأمريكي. لذلك فإن هذه السياسة العربية تجاه موسكو ستجد حدودها قريبا، يرجع ذلك إلى الهيمنة الأمريكية الكاملة منذ عشرات السنين على هذه الدول خصوصاً على مستوى الحماية العسكرية لأنظمتها، وهي من يزودها بالسلاح والعتاد وليس روسيا. للأسف الدول العربية على غناها إلا أنها فاقدة للسيادة الوطنية ولا تملك قرارها بنفسها.
بالنسبة لنا كشعوب فنحن لن نقبل من منطلق العروبة التحالف مع من احتل سوريا وشرد أهلها وقتل أطفالها ودمر أجمل مدنها، ومن منطلق أننا مسلمون لن نقبل التحالف مع من دمر الشيشان وقتل ربع سكانها، ومن منطلق التضامن الإنساني لن نقبل كبشر أن تحتل دولة دولة أخرى ونحن في فلسطين نعاني من احتلال أجنبي منذ عشرات السنين ونطالب جميع الشعوب التضامن معنا.

المعايير الحضارية

في المقابل فنظام الحكم في كييف هو نظام منتخب ديمقراطيا حسب كل المعايير الحضارية الحديثة. لذلك يستطيع دون وجل ولا كذب التعبير الحقيقي عن الشعب الأوكراني، وتعبئته ودفعه إلى النصر. وهو ما نراه يوميا مع بسالة المقاتلين الأوكرانيين على كل الجبهات والتفاف الشعب حولهم.
تمكنت أوكرانيا على مدى العشر سنوات الماضية من بناء جيش مجهز بأحدث الأسلحة، وهو مدعوم بشكل كامل وقوي من حلف شمال الأطلسي، وكافة الدول الغربية في العالم.
هذه المرة اكتشفت هذه المجموعة دور أوكرانيا الاستراتيجي في الدفاع عن أوروبا نفسها، والتي كانت تعتقد أنها بعيدة عن التهديد العسكري. هذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحده يتعدى كونه تحالف مصالح آنية إلى تحالف لبناء مستقبل أكثر امنا. اكتشف الغرب أن أحلام السلام الدائم بعد الحرب العالمية الثانية وزوال الخطر السوفييتي كان خطأ تاريخيا يدفع ثمنه الآن من أمنه واقتصاده وسيادته. لذلك سيدعم أوكرانيا حتى النصر وإن احتاج الأمر فقد يشارك أكثر مباشرة بالقتال. هؤلاء المراهنون على تفكك التحالف الغربي خاطئون هذه المرة.

حرب نووية

على ضوء هذه الصورة للقوى الفاعلة ، ما هي احتمالات مستقبل الحرب ؟
الاحتمال الأول هو التوسيع في اتجاه حرب نووية، بعد فشل الحرب التقليدية الروسية في تحقيق أصغر أهدافها، هذا ممكن نظريا بسبب امتلاك روسيا ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية، إلا أن هذا لا يتوافق مع طبيعة النظام، فهو يهدف أولا وأخيرا إلى البقاء وليس الانتحار أو تدمير عدو مفترض، خصوصاً أن هذا العدو كان أكبر داعم للاقتصاد الوطني بشرائه الغاز والنفط، كما أنه سكت عن كل انتهاكات حقوق الإنسان. نحن نعلم أن الاوليغارشيا الروسية تستثمر رؤوس أموالها المنهوبة في الدول الغربية بشكل عام بدل فعل ذلك في روسيا أو الدول ذات الأنظمة المشابهة. هذا الاحتمال يبقى مؤجلا حتى ولو هدد بوتين العالم بسلاحه النووي ليلا نهارا، الشعار الذي يحمله هو ” البقاء في السلطة مهما كان الثمن”.
الاحتمال الثاني هو الانتصار الأوكراني التام واسترجاع الأراضي المحتلة، هذا ممكن من الناحية الواقعية ونحن نرى تقدم الجيش الأوكراني. لكن هل سيقبل الروس بهزيمة عسكرية تدمر سمعتهم لسنوات طويلة كمصدر لبيع الأسلحة ، وكقوة مؤثرة.
الاحتمال الأكبر هو أن تتجه روسيا نفسها إلى محاولة الاحتفاظ بالقرم، عبر وضع مستقبل المقاطعات الأربع المضمومة مؤخراً على طاولة المفاوضات، وقد تدفعها ثمنا للحفاظ على ملكية شبه الجزيره وديمومة النظام، بدل خسارتها عسكريا دون مقابل.
الاحتمال الثالث هو نتيجة ما نراه حاليا من تململ داخل مراكز القيادة في الكرملين، واحتمال تغيير داخلي شكلي عن طريق إزاحة بوتين والبدء في مفاوضات على القاعدة نفسها أي الإبقاء على ملكية القرم وديمومة النظام دون بوتين.
الاحتمال الرابع هو تحرك الشعب الروسي نحو ثورة للإطاحة بالنظام وبناء روسيا ديمقراطية. للأسف لم يعودنا الشعب الروسي في تاريخه الحديث على مثل هذه الثورات، هروب مئات الآلاف حالياً من التجنيد إلى دول الجوار بدل الاحتجاج دليل على ذلك، قد يرجع ذلك لعدم وجود قيادة معارضة فعالة أو تنظيم معارض شعبي، الشعب الروسي يعيش في حالة تشرذم وتفكك كما يحدث في الدول ذات الأنظمة المستبدة والتي لا تترك مجالا لأي معارض.
لكن احتمالات ما بعد الحرب قد تكون أسوأ من الحرب نفسها لروسيا، فنحن أمام قوى غربية مسيطرة في كافة المجالات ولن تقبل أن تجد على حدودها دولة تشكل لها ولمستقبل شعوبها خطرا وجوديا مثل الخطر النووي. لذلك فهذه الدول بقيادة الولايات المتحده الأمريكية ستتجه على أقرب الظن إلى نوع يشبه سقوط الاتحاد السوفيتي، أي انفراط عقد الفدرالية الروسية، وتجريدها من ترسانتها النووية كما فعلوا سابقا مع أوكرانيا نفسها. الولايات المتحده سبق لها أن فعلت ذلك في العراق لإنهاء أي خطر منه نحو إسرائيل، وتاريخ الغرب يظهر مدى مقدرة هذه المجموعة على تقسيم الاخرين، مثل الهند من قبل بريطانيا أو تقسيم الإرث العثماني والذي ما زلنا نعيش آثاره بعد قرن، وأمثله عديده أخرى.
الأحداث علمتنا دائما في مناطق كثيرة في العالم أن المتوقع لا يحدث في أغلب الأحيان، وأن التاريخ يقرر بنفسه إلى أين يذهب، لذلك فالاحتمال الأخير هو قرار التاريخ وليس قرار من يصنع التاريخ. وكما قال أحد المؤرخين الكبار ” هؤلاء الذين يصنعون التاريخ لا يعرفون أي تاريخ يصنعون”

ميلاد القطب الواحد الجديد. القدس العربي 07/10/2022

هل حقاً تهدف الحرب الروسية على أوكرانيا، إنهاء عالم القطب الواحد لصالح تعدد الأقطاب؟
عالم سيطرة أمريكا إلى عالم أكثر توازناً. المُراقب للأوضاع قبل هذه الحرب، قد يَشُك في ذلك، بل على العكس، تبدو نتائجها عكسية تماماً.

العالمان الشيوعي والليبرالي

حدد الرئيس الأمريكي، ترومان عام 1947، مفهوم العالم ثنائي القطب، عندما قسمه إلى جزأين، العالم الشيوعي في جهة، والعالم الليبرالي في جهة أخرى. من جهة السوفييت ومجموعة من الدول الدائرة في فلكهم. وفي الآخر أمريكا ومجموعة أخرى من الدول الدائرة في فلكها. انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، أدى لهدم هذه الثنائية، لصالح وضع جديد متغير ومتقلب، يمكن تسميته، بعالم «ما بعد ثنائية القطب»، حسب بيرتران بادي، عالم الاجتماع الفرنسي، وليس وحيد القطب، فالقطب المُتبقي، أي الولايات المتحدة، لم يستطع فرض هيمنته بسبب التطور السريع للصين ودول أخرى في العالم على المستوى الاقتصادي والعسكري، بما فيها روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، والتي استعادت التأثير في السياسة العالمية منذ بداية القرن. تعددية الأقطاب هنا تعني بشكل أساسي، أمريكا والصين وروسيا. لكن الواقع يُثبت أن هذه الدول لم تستطع تجنيد وجر دول العالم الأخرى حولها، لتستحق اسم قطب. القطب بالتعريف هو من يَلتف حوله الآخرون. نحن إذاً كنا نتأرجح في سنوات ما بعد الحرب الباردة، بين نظام متعدد الأقطاب وبين نظام ذي قطبين، أو نظام بدون أقطاب.
الحرب الأمريكية في العراق وفشلها الذريع في تحقيق أهدافها، انتقالها بعد ذلك إلى حرب أفغانستان بنتائج مشابهة وخروج مُهين، شكل إعلاناً عالمياً عن نهاية ما سمي من طرف بعض الخبراء، عالم القطب الواحد، وهو ما دفع الصين إلى تقوية نفوذها العالمي، خصوصاً مع تحالفاتها الجديدة مع أفريقيا وآسيا الوسطى، ودفع روسيا إلى التدخل في سوريا، ودول حليفة سابقاً، وقمع الحركات الديمقراطية، كما حدث حديثاً في كازاخستان.

بداية النهاية

هذه الصورة كما يبدو، تُظهر عُقم الادعاءات الروسية، وما يُعلنه بوتين وأصدقاؤه في العالم، من بداية النهاية لعالم القطب الواحد، ودخولنا عالماً متوازناً جديدا، حيث ستجد كل دولة مكانتها في عالم متعدد الأقطاب. هذا الادعاء الساذج على أقل تعبير، يهدف فقط إلى إخفاء حقيقة حروب الرئيس الروسي، والتي تسعى إلى إبعاد أي خطر لانتشار الديمقراطية، أو النظام الليبرالي في روسيا، قد يأتي من الدول المجاورة خصوصاً أوكرانيا، الدولة السابقة المهمة في الاتحاد السوفييتي.
نتائج هذه الحرب، بعد سبعة أشهر، تُظهر أن الأوضاع القطبية العالمية، هي على عكس ما يقول بوتين ومحبوه. أمريكا التي كانت في مسار فقدانها لسيطرتها على دول أوروبا، وحتى على الناتو، والذي لم يعد له دور (عندما أعلن الرئيس الفرنسي أنه ميت سريرياً)، وفي طريق الانكفاء من جديد على نفسها، مع وصول الرئيس ترامب والمحافظين للسلطة، يبدو من جديد أنها استعادت عافيتها، فهي تفرض الآن سياساتها الاقتصادية والعسكرية على أوروبا، وتمكنت بسرعة كبيرة، من إعادة الروح والقوة إلى الجسد المتهالك لحلف الناتو، والذي وجد من جديد هدفاً ليبقى ويقوى، مُمثلاً بالخطر الروسي؛ الاقتصادي (الغاز)، والعسكري مع تهديدات بوتين وأعوانه، باستعمال السلاح النووي. بنفس الوقت أنهت الحرب خرافة الجيش الروسي، الثاني الأقوى في العالم، والذي لم يستطع تحقيق أي من أهداف رئيسه، بل على العكس، فقد عشرات الآلاف من جنوده، وأظهر فساده الداخلي وعجزه التام، عن مواجهة جيش حديث مسلح غربي، مؤدي في النهاية إلى تأكيد تفوق السلاح الأمريكي والغربي على الروسي، مع ما يمثله من ضربة قوية للاقتصاد، حيث يشكل تصدير السلاح، أحد أهم أعمدته، بالإضافة إلى ضربة الحصار الغربي الخانق، في مجالات اقتصادية أخرى.
القطب الروسي على صغره، أي روسيا والدول الدائرة في فلكها، بدأ في التقلص والتفكك، ابتعاد أرمينيا حليفة روسيا التقليدية، وتوجهها نحو الولايات المتحدة، وزيارة رئيسة الكونغرس الأمريكي، نانسي بيلوسي، لها وإعلانها التعهد بدعمها عسكرياً، بالإضافة لتصريحات رئيس كازاخستان، قبل أيام، عن فتحه الحدود أمام الفارين الروس من التجنيد وحمايتهم، ورفضه لسياسة تهديد الدول ذات السيادة، لدليل على التراجع الكبير لهيبة روسيا وهيمنتها على أقرب حلفائها.
ما نراه الآن، وبعد أشهر الحرب هذه، هو عودة أمريكا كقطب حقيقي واحد، تملك كل وسائل السيطرة والهيمنة، مدعومة من أغنى وأقوى دول العالم، وهي الدول الأوروبية واليابان وأستراليا.
هل بقيت الصين في معزل من التأثر من هذه الحرب، وهي الدولة الأهم المرشحة لتكوين قطب سياسي واقتصادي عالمي مع تحالفات واسعة. تدمير هذه الحرب لسياسة الحزام الاقتصادي، أي طريق الحرير الجديد في جزئه الشمالي، المار بآسيا الوسطى وأوكرانيا، والاضطرابات الاقتصادية العالمية الناتجة عن الغزو الروسي، وبدء الاقتصاد الغربي بتغيير سياساته الانفتاحية التقليدية على الصين، لصالح مركزتها من جديد في دول الغرب نفسها. تحالف دول كثيرة في منطقة التأثير الصيني مع أمريكا، إفشال سياسة الصين نحو تايوان، مع إخراج تلك الأخيرة من عزلتها والتعهد بالدفاع عنها، في حالة هجوم صيني (كان متوقعاً عند بعض المحللين نهاية هذا العام)، دفن في رأيي حلم الصين أن تصبح الدولة الأولى في العالم في السنوات القليلة المقبلة، كما كان يتوقع الكثيرون بمن فيهم الغربيون.
أتوقع إن استمرت الحرب لفترة أطول، أن يظهر الشرخ الصيني الروسي والخلافات بينهما أمام الجميع، لما لهذه الحرب من انعكاس سلبي على موقع الصين العالمي.

فترة التردد

نحن نعيش إذاً في هذه الأيام، ميلاد عالم القطب الواحد الحقيقي، وانتهاء فترة التردد وتعدد الأقطاب الوهمية. لم تُنه حرب بوتين على أوكرانيا، عالم الغرب المُهيمن، بل على عكس ذلك، أعادته لهذه الهيمنة، بعد أن كان قد بدأ في فُقدانها. إن كان هناك فشل واحد لبوتين، فهو أنه قوى من كان يَدعي أنهم أعداؤه، بالإضافة لتدمير اقتصاد بلاده نفسها، وعزلها وإفقارها. هذا بالتأكيد سيدفع ثمنه الروس أنفسهم، ولكن أيضاً دولا كثيرة في العالم وفي أولها الصين.

كاتب ومحلل سياسي