مجتمع الرمال المتحركه ومؤشرات المستقبل القدس العربي 03 تموز 2019

مجتمع الرمال المتحركة ومؤشرات المستقبل

أظهرت دراسة إحصائية حديثة للباروميتر العربي، نُشرت بالـ «بي بي سي» (المركز الإعلامي البريطاني) الشهير، صورة مُغايرة للشباب العربي، عما هو مُتوقع. المؤشر يُظهر فقط، الوضع الراهن، كما تتصوره العينة المُختارة، بمعايير علمية مُعبرة عن الكل المجتمعي. هي إذاً صورة لحظية وليست حلولاً مطروحة. الذين لم يفهموا التاريخ والمجتمع، بمفهوم علمي، مبني على دراسة الظواهر والتطورات البطيئة، هم من لم يتوقعوا هذه الصورة، المجتمع وخصوصاً الأجيال الجديدة، تختلف دائماً عن الأجيال السابقة، وهي ترجمة لظاهرة التأقلم مع المُعطيات المحلية والعالمية المُتطورة دائماً، فالزمن لا يتجمد، والحدث مهما كان مهماً، لا يخلق التاريخ ولا يُغير المجتمع.

الحروب والتغيرات السياسية

التاريخ إذاً، ليس مجموعة من الأحداث الكبيرة والمهمة، مثل الحروب والتغيرات السياسية العنيفة، وإنما هي مجموع التغيرات البطيئة المتراكمة، والتي تؤدي إلى التغيير العميق والتطور، والتراكمات التي حدثت بالوطن العربي، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، هي التي أدت إلى تغيُر في رؤية وممارسة الأجيال الجديدة، وأدت إلى الربيع العربي. نذكر منها: ازدياد التعليم خصوصاً للنساء، واللواتي دخلن عالم الجامعات والعمل، بل أصبحن في بعض التخصصات أكثر من الرجال. الانخفاض الكبير بنسبة الخصوبة، بسبب رفض المرأة الجديدة البقاء بالبيت والاستمرار بالمهام المُناطة بها كالإنجاب والترفيه عن الرجل، مُعدل النسبة الحالية للإنجاب العربي، لا يتعـدى المستويات العـالمية، ولا حـتى الأوروبيـة.
تطور العلمنة الاجتماعية بمفهوم خروج معظم النشاطات، مثل العمل والتعليم، من دائرة الدروس الدينية والزوايا، إلى دائرة المعرفة الإنسانية، فالطب والهندسة والاقتصاد وباقي المهن، تعتمد على العلم الإنساني وليس على خوارق الغيبيات والعقل الخرافي، ولم يعد هناك عملياً مكان لدراسات علمية دينية.

الإيديولوجيات التقليدية

البدء باستبدال الإيديولوجيات التقليدية الجامدة الشمولية، السائدة حالياً، بقيم حقوقية نسعى لتحقيقها مرتبطة بالمحافظة على حقوق المواطن، الفرد الإنسان والذي يجب أن يكون هدف كل سياسة وعمل اجتماعي والمصدر الوحيد للشرعية. كما أن تطور بنية المجتمع المدني عن طريق بناء جمعياته ومنظماته، بعيداً عن الأُطر الرسمية للدولة والأحزاب السياسية، رغم القمع السياسي والمعيقات التي تُوضع أمامه.
الثورة المعلوماتية التي فتحت الآفاق أمام الشباب، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي نافذة على العالم لآ يمكن اغلاقها، وهو ما حدّ من انتشار الفكر الواحد غير القابل للنقاش وهز الايديولوجيات السائدة، وأوصل نجاحات الشعوب الأخرى للشباب العربي الساعي للانعتاق.
التحول التدريجي بالمُمارسة الدينية، من ممارسة اجتماعية مُراقِبة عامة مُعلنةٍ، إلى ممارسات فردية شخصية، كل يمارس دينه كما يشاء، بدون اتباع العلماء والشيوخ، رغم كثرتهم على صفحات الفيس بوك. كذلك اتساع مساحة المُمارسة الشخصية الفردية باللباس والطعام ونوعية العلاقات الاجتماعية.
تراجع التدين حسب استطلاع الباروميتر العربي، ولو بنسبة قليلة، هو حقيقة، تقدم لقوى الحداثة الشبابية، التي لم تعد تقبل تدخل الدين ورجال الدين، بالحياة العامة والسياسة والاقتصاد، وكل صغيرة وكبيرة، وتبرر ظلم الحكام. البحث عن أسباب ذلك، كظاهرة سلبية يجب علاجها، هو برأيي خطأ، فهي على العكس ظاهرة صحية، تضع الأمور بمكانها، فالدين لم يعد له مكان بالسياسة والعلم بأي دولة بالعالم تدعي الحداثة، الصحيح أن مؤشر التدين يتزامن دائماً مع زيادة الجهل والظلم الاجتماعي، ويتناقص دائما مع تحسن مستوى الحريات العامة وارتفاع مستوى التعلم كما نرى بدول عديدة بالعالم. وهو ما يظهره المؤشر المذكور عند الطبقة الوسطى المتعلمة، والتي كانت موضوع الدراسة الإحصائية المذكورة.

الممارسة الفردية

الانتماء الديني قد يكون جزءا من الهوية الوطنية أو الممارسة الفردية، ولكنه ليس جزءاً من الفكر العلمي أو الفكر السياسي لتنظيم المجتمع خارج القواعد العامة المتفق عليها انسانيا. عودته إلى وضعه الطبيعي، أي الدعوة للقيم الإنسانية العامة والتضامن، هو موقعه العادي، وليس إقحام نفسه بالتنظيم الاجتماعي والسياسي للمجتمع، وهذا ما قد يحافظ على استمرارية الهوية الدينية على مدى طويل، ويترك مجالا للتدين داخل إطار الدولة الديمقراطية. ظهور التطرف الديني خلال السنوات الأخيرة والتشدد مع استعمال العنف، لتطبيق تعاليم الدين، ما هو بالحقيقة إلا انعكاس لتخوف الاتجاهات الدينية على نفسها من الانقراض، وهي ترى طبقة الشباب تبتعد عنها رويداً رويداً، هو إذاً نوع من أنواع التمترس في مجتمع متحرك ومتغير.
هذه التحولات وغيرها كثيرة، لم يتبعها تغيير بالنظام السياسي القمعي الأبوي، والذي تحجر تماماً ولا يرى أي تغيير، مما يزيد التناقض بين هذه الطبقة الوسطى، الآخذة بالاتساع، والساعية إلى التواصل مع العالم، والانفتاح على الآخر، وبين هذه الأنظمة. النتيجة طبعاً ما نراه حالياً من انفجارات وثورات وما يتبعها من قمع وحروب، بين الجديد الطارىء، والقديم المتمكن بوسائل الاقتصاد والحكم المتمسك بالسلطة.
أشياء أخرى كثيرة ذكرها هذا الاستقصاء الإحصائي، كوضع الديمقراطية بالدول العربية وتراجعها، وبشكل خاص الرغبة بالهجرة إلى الخارج، المرتبطة بعوامل اقتصادية، وانهيار منظومة الحريات العامة. هجرة الشباب أو البحث عن الهجرة، هي أكبر مؤشر على فشل النظام السياسي العربي، ونظام الدولـة القطـرية العربيـة.
فهم مشاكلنا هو بيد شبابنا وطبقاتنا الوسطى، طبقة المتعلمين، رغم قلة عددهم النسبي، إلا أنها هي المُحرك الأساسي للتغيير. وعيهم بصعوبة المرحلة ورغبتهم العارمة بحياة حرة وكريمة، هي التي ستؤدي، عاجلاً أم آجلاً، إلى التغيير السياسي المأمول، الذي سيكون بداية الحل لمشاكل المجتمع وهمومه.

محلل ومراقب سياسي مستقل

كلمات مفتاحية