درس النساء إلايرانيات إلى النساء العربيات. مرأة حياة حرية ، القدس العربي 28/10/2022. نزار بدران

تلعب النساء الإيرانيات دورا محوريا في تاريخ إيران، وذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر ،وشاركن دائما في تشكيل المجتمع الإيراني، بتمسكهن بحقوقهن ورفض الأطر التقليدية وما تمثله من تمييز. لذلك نرى الآن، على إثر مقتل الشابة اليانعة مهسا أميني بسبب حجاب، حراكا نسائيا قويا تمكن من ايقاظ كافة مكونات الشعب. قد يكون هذا مستهجنا في اوساط المجتمع العربي خصوصاً المحافظ ، فنحن في كافة اشكال النضال ضد الاستبداد، ومنذ عشرات السنين، لا نرى في مشاركة المرأة العربية إلا رافدا أو داعما للرجل في أحسن الأحوال، وليس المبادر بها وقيادتها كما نرى حاليا في إيران. 

 عكس الوضع في جميع الدول العربية، فإن التغيير في القوانين لصالح حقوق النساء في إيران كان دائما نتيجة نضالهن، وليس مِنَّة من الرجال أو من السلطة السياسية. في القرن التاسع عشر شاركت فاطمة النقية (1817-1852) في تأسيس حركة البهائين  رافعة شعار تحرير المرأة والمساواة مع الرجل من منطلق ديني شيعي، وكرست حياتها لهذا الهدف، حتى يحكى أنها رفضت الزواج من ملك اذيربيجان لتؤدي رسالتها.

  زمن حكم الشاه، تمكنت النساء عام 1963 من فرض قانون حق المرأة بالتصويت والمشاركة في الحياة السياسية، ثم  قانون الأحوال الشخصية وحماية العائلة عام 1967 والذي يساوي بين المرأة والرجل ويضع حدا أدنى لسن الزواج ( ثمانية عشر سنة), ويحد من تعدد الزوجات، ومن الحق المطلق للرجل بالطلاق وارجاعه إلى القضاء، وحضانة النساء المطلقات لاطفالهن. كذلك لم تسن قوانين إجبارية بالنسبة للملبس أو منع الاختلاط في المجال العام وتم التراجع عن قانون سُنّ عام 1936 يمنع الحجاب واللباس الديني للرجال والنساء.

كل شي يجب أن يكون إسلاميا

شاركت النساء في الثورة الإيرانية عام 1979, وتعاضد الرجال والنساء تحت شعار « خبز، بيت، حرية »، كذلك شاركن بقوة في الحرب العراقيه الايرانيه دفاعا عن الثورة الإسلامية بدعمهن الدائم للجهد العسكري والاقتصادي. لكن ذلك لم يشفع لهن للحفاظ على الحقوق المكتسبة زمن الشاه.

 تحت زعامة الإمام الخميني تم التراجع عن قانون حمايه العائلة أي الاحوال الشخصية، مؤديا لنتائج مروعة أهمها تخفيض سن الزواج من ثمانية عشر إلى تسعة أعوام، منتهكا حقوق الطفولة، كذلك إعادة السيطرة الكاملة للرجل على عائلته وكأن الزوجة والاطفال ملكه الشخصي، بما في ذلك الطلاق وحضانة الأطفال، بالإضافة للفصل التام بين الرجال والنساء في الفضاء العام. هذا ما دفع النساء إلى القيام بأول احتجاجات تحتاج ايران بعد الثورة، حيث تجمهرن بكثافة في الشوارع في الثامن من آذار 1979 وهو اليوم العالمي لحقوق المرأة، احتجاجا على القانون الجديد الملزم بارتداء الحجاب بالإضافة لالغاء القوانين السابقة، ووضع قوانين جديدة مجحفة للأحوال الشخصية وحماية العائلة. تم بعد ذلك حظر الاحتجاجات وفرض المزيد من القوانين المقيدة للحرية وحقوق النساء، مثل الفصل من الوظائف التي تعتبر حكرا على الرجال، الطرد من العمل، والفصل بين الجنسين في نظام التعليم ، والغيت الحقوق المكتسبة في الستينات، ما عدا حق الانتخاب والذي وقف الخميني ضده عند اقراره  زمن النظام الملكي. وما الحفاظ عليه إلا بهدف اعطاء شرعية واسعة للنظام الجديد. في المقابل لم يرافق هذا الحق الحقوق الأخرى المرتبطة به، مثل شغل الوظائف السياسة والقضائية، وتوج ذلك الارتداد باعدام أول وزيرة للتعليم في إيران ما بين 1968 و 1971 السيدة الطبيبة بارسا فرخرو، بحجة نشر الرذيلة والفساد في الأرض مما يغضب الله.

رغم كل ذلك لم تتراجع النساء عن المطالبة بحقوقهن، لكن بطرق خفية تحت غطاء الاجتماعات البيتية وجلسات القراءة والعمل الأدبي والفني. كما انهن استمرين بالاحتفال باليوم العالمي لحقوق المرأة كل عام في الثامن من آذار، رغم أن النظام حدد يوما آخر. حتى انهن شكلن تجمعا لامهات السجناء السياسيين المفقودين بعد إعدام ثلاثين ألفا منهم مع بداية الحرب مع العراق بأمر من الخميني.

تغيرت الأوضاع قليلا لصالح النساء بعد وفاته، حيث حصل انفتاح سياسي نسبي، سمح بدخول النساء بكثافة في مجال التعليم ودخول الجامعات مع وضع عوائق لبعض التخصصات وتحديد كوتا مثل طب النساء والأطفال.

كان من اسباب عدم تمكن السلطة من اخراس النساء، ذلك التوافق في الرؤى بين التيارات النسائيه الاسلامية وتلك العلمانية، المجموعة الأولى دفعت باتجاه إعادة قراءة النصوص الدينية وتفسيرها بما يتوافق مع العصر، ورفض الرضوخ للتفسير التقليدي الرجعي، وهو ما يتناسب مع الطرح العلماني الحداثي الناظر إلى الغرب. جزء بسيط من النساء ذوات الانتماء الديني التقليدي وقفن بصف السلطة وقوانينها القادمة من أعماق التاريخ وقبلن بلعب دور تجميلي للمجلس، دون أي فائدة لكفاح الحركات النسوية بجناحيها. من الملاحظ أن الحكومات الإصلاحية كانت أكثر قبولا بمطالب النساء مثل القبول بالمعاهدة الدولية للأمم المتحدة «سيدو» والهادفة إلى منع التمييز القضائي والقانوني تجاه النساء، أما تلك المتشددة مثل الحالية بقيادة الرئيس رئيسي فكانت تزيد الخناق وتتراجع عن الإصلاحات السابقة، أو الاعتداء على النماذج الحقوقية مثل ما حدث مع الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2003 السيدة شيرين عبادي ومصادرة جائزتها.

كما يظهر من هذا السرد فالمراة الإيرانية منذ البدأ عملت على صيانة حقوقها في كل الظروف، وما احداث هذه الايام في زمن سلطة متشددة محافظة، إلا جزء من هذه الظاهرة المتأرجحة بين المد والجزر.

المرأة العربية

بالمقابل في بلداننا للأسف لم تتمكن المرأة العربية من أخذ أي دور مهم فعال في كافة أشكال الاحتجاجات والثورات، وبقيت ضحية الظلم السياسي مثل الرجل ، ولكن أيضا ضحية ذلك الرجل بعاداته وتقاليده القبلية.

إن كان لنا أن نستنتج درسا من نضال المرأة الإيرانية، فهو أهمية دور النساء في العمل الثوري وقيادته، فالرجال لم ولن يتمكنوا من الوصول إلى نجاحات سياسية واجتماعية بحكم ارتباطهم الذهني والعاطفي مع مجموعة من التقاليد البالية، حتى أن السلطة السياسية الغير ديمقراطية، لا تستطيع فرض اصلاحات لصالح النساء على قلتها بسبب ذلك (باستثناء تونس زمن الرئيس بورقيبه), فمثلا في الأراضي الفلسطينية لم تتمكن السلطة من اقناع الناس وخصوصا الجمهور الرجالي المحافظ بقبول اتفاقية سيدو للأمم المتحدة.

الدرس الإيراني للنساء العربيات هو ألا ينتظرن أي خير وتقدم لحقوقهن من السلطات السياسية والتي تقمع الجميع، ولا كذلك من المجتمع الذكوري التقليدي. إن لم تاخذ المرأة العربية حقوقها بنفسها أي من الأسفل فلن تاتيها من فوق. هذا سيتم فقط عن طريق تنظيم النساء لانفسهن كما فعلت المرأة الإيرانية، وانتزاع حقوقهن بانفسهن من النصف الذكوري في المجتمع قبل السلطة السياسية.

على المرأة العربية كمثيلتها الإيرانية أن تأخذ دورها في قيادة الحراك الثوري وليس فقط المشاركة. الرجل العربي هو أقل استعدادا لتبني او المطالبة باصلاحات إجتماعية جذرية بسبب إصابته باعاقة مزمنة مرتبطة باوهام وعادات عفا عنها الزمن وكأنها سلاسل في قدميه تعَوَّد عليها وكأنها طبيعة، لا يستطيع التخلص منها دون اجبار. على عكس دول وشعوب عديدة في العالم خاضت ثورات سياسية واجتماعية كبرى مثل دول شرق اوروبا أو امريكا اللاتينيه حيث لا توجد هذه الإعاقة. وحدها المرأة هي المؤهلة لهذه المهمة التاريخية الصعبة؛ إعادة صياغة المجتمع العربي ووضعه على طريق الانفتاح. 

هذا هو درس نساء إيران لنا جميعاً، والذي علينا التمحص به وتقليده.

المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني ، عودة الايديولوجيا… القدس العربي 21/10/2022

المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني

عودة الايديولوجيا 

نزار بدران

انعقد الأحد السادس عشر من تشرين الأول المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني في بكين لانتخاب رئيساً له, وكذلك أعضاء مؤسسات الحزب لمدة خمس سنوات جديدة. نظريا لم يكن للرئيس الحالي شي جين بينغ إمكانية التقدم، فهو قد أنهى فترتين متتاليتين. تغيير الدستور حديثا مكنه من ذلك، ونظريا يستطيع أن يبقى رئيسا مدى الحياة، وهو ما يذكرنا بالرؤساء الملهمين العرب.

للأسف هذا الانحراف عن النظام السياسي الصيني والذي احترمه الرؤساء الثلاثة السابقين، يعني بوضوح تقوية القبضة الحديدية على الشعب الصيني. أحداث هونج كونج في السنوات الأخيرة، وانهاء نظامها الديمقراطي لصالح هيمنة بكين دليل على ذلك، فالرئيس بينغ قال في كلمته امام المؤتمر أنه تمكن من إنهاء الفوضى في هونغ كونغ لصالح النظام. أي أنه يعتبر ببساطه أن نظامها الديمقراطي كان نوعا من الفوضى، متراجعا تماما عن سياسة دولة بنظامين كما كان اتفق عليه عند استعادة الصين سيادتها عليها. هذا ما يدفع تايوان حاليا إلى رفض عرض الرئيس الصيني لاعتماد نفس النهج.

كان من المنتظر أن يتكلم الرئيس عن الوضع الاقتصادي والصحي الداخلي وسياسة كوڤيد صفر والعلاقات الدولية والحرب الروسية، ومشاكل أخرى كثيرة، لكنه في الحقيقة وعلى مدار ساعة ونصف اكتفى بالتركيز على مركزية الحزب الشيوعي الصيني واستعادة تايوان وتقوية الجيش وقوة الردع. أوضح دوره المهم بانهاء الفساد داخل اطر وأعضاء الحزب واستغلاله من طرف اعضاء نافذين للاثراء الغير مشروع، أي أنه في سنوات حكمه العشرة اعاد الحزب إلى الطريق الصحيح وعليه الآن العمل لتطوير القطاع العام.

الحزب الشيوعي، كما قال الرئيس، يجب أن يكون في كل مكان، فالصين هي الحزب والحزب هو الصين، لذلك، أضاف، هو في الشمال والجنوب والشرق والغرب جاعلا الصين نموذجا للآخرين. هذه النقلة النوعية إلى الخلف أي على المستوى الايديولوجي، يعيد ذكريات ماو تسي تونغ الرئيس المؤسس، والذي يعتبره بينغ قدوة له. وتبنى مقولة ماو أن الأهمية هي فقط للشعب وليس للافراد، وكل ما يعني هذا الشعار عن اغلاق أي باب على الحريات العامة والفردية، وفرض رقابة صارمة خصوصاً مع تطور التكنولوجيا الكبير في هذا المجال.

يمكن تفسير هذه القبضة الحديدية بالنجاحات الاقتصادية الكبرى للصين، وهو ما سمح لبينغ بأن يضيف البعد الايديولوجي ويفرض من جديد هذا الغطاء الثقيل على البلاد والذي إسمه الحزب الشيوعي بدون معارضة تذكر. الرؤساء الثلاثة السابقون لم يفعلوا ذلك ،بل اكتفوا بالتبادل التجاري مع الغرب والعالم دون اهتمام بالايدولوجيا، كان إلرئيس الأسبق دنغ جزاو بنغ  يرفع شعار«لا يهم لون القط إن كان قادرا على صيد الفئران». صين بينغ الجديدة لا تطالب فقط بزيادة قوتها الاقتصادية وإنما تصدير نموذجها الايديولوجي إلى العالم وفرض قيم الوتقراطية مقابل حكم الديموقراطية، وادخال تلك القيم إلى المنظمات الدولية مقابل القيم الغربية.

نحن إذا مع شي جين بينغ نسير بالاتجاه المعاكس لما كان يتصوره الغرب وخصوصا امريكا ، زمن الرئيس كلينتون، والذي دافع عن اقتصاد صيني ذو بنية ليبرالية سينتهي بفرض سلطة ليبرالية أيضا. إلرئيس بوش الأب ارسل مبعوثا سريا له لبكين ليطمأنهم على استمرار التبادل التجاري بين البلدين رغم مذابح ساحة تيتان من عام 1989، رغم التنديد الأمريكي الرسمي بذلك. نفس الخطأ ارتكبته أوروبا مع روسيا حيث لم يدفع ربط الاقتصادين خصوصاً المانيا وروسيا بتفادي الانحراف نحو نظام اوتوقراطي عنيف ومعتدي.

مبدأ أن التجارة تستطيع إنهاء النزاعات والصراعات نجحت في غرب أوروبا وبعض المناطق الأخرى ، ولكنها ليست صالحة دائما. كان الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير قبل قرون يصف بورصة لندن الشهيرة قائلا «بأنها توحد الجميع ، يدخلها اليهودي والمسلم والمسيحي ويتعاملون معا وكأنهم من دين واحد. الكافر هو فقط من أعلن افلاسه ».

هذا النموذج الجديد الصيني قد يجد له في دول العالم الغير ديمقراطية من يهتم باستيراده لكن نجاحه مرتبط بشكل عضوي بالنجاح الاقتصادي كما في الصين ، لذلك فهو لن يتوسع برايي كثيرا ، فدولة مثل روسيا لا يمكن أن تكون نموذجا يحتدى به، الصين في وسط هذه الأنظمة في وضع استثنائي وليست القاعدة.

لم يذكر الرئيس الصيني روسيا أو حرب اوكرانيا، من الواضح أن روسيا لا تمثل له شريكا أو حليفا بل فقط منطقة نفوذ. هو يشكل لها خطرا أكبر بكثير من الغرب ، خصوصاً أن الشعب الروسي يعتبر نفسه منتميا إلى الجنس الغربي ويرفض فكرة أن ينتمي إلى شعوب وسط واقصى آسيا. قد تكون الصين من هذا المنظار قادرة على فرض وقف الحرب الروسية حفاظا على طريق الحرير الشمالي.

مركزية الحزب الشيوعي ، تطوير القدرات العسكريه واستعادة تايوان ، هذه هي النقاط التي أثارها الرئيس الصيني. يبقى موقف ورأي الشعب الصيني نفسه بملاينه العديدة. لحد الآن لم نرى إلا بعض الاحتجاجات الخجولة. باستطاعتنا افتراض دعم الشعب لرئيسه، فهو -على طريقة نظرية توماس هوبز في العقد الاجتماعي-  أمن للشعب الأمان والسلام الداخلي والازدهار الاقتصادي، مقابل أن يتنازل هذا الشعب عن حريته. فهل سيقبل الصينيون هذه المعادلة لسنوات طويلة ؟

محلل ومراقب سياسي 

خيارات روسيا المُرَّةالقدس العربي ، نزار بدران ، 15/10/2022

الحرب الروسية على أوكرانيا تزداد استعارا وعنفا. صلابة الصمود الأوكراني شعبا وجيشا وقيادة، محصنا بالدعم الغربي؛ الأمريكي بشكل خاص، لم يسمح لبوتين بتحقيق خطته الأساسية، أي الانتصار السريع وتغيير النظام وتنصيب نظام عميل.
هذا ما دفعه إلى تخفيض سقف آماله والاكتفاء بضم المقاطعات الشرقية الناطقة باللغة الروسية، ولكن في ظل وضع جيش مهزوم في أرض المعركة وغير قادر على إيقاف تقدم الجيش الأوكراني، ما يعني أن هذا الهدف الاخير على محدوديته اصبح بدوره صعب المنال. حتى ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 التي سكت عنها الغرب، عادت من جديد إلى الواجهة مع ضرب الجسر الذي بناه الروس، وما تلاه من قصف صاروخي روسي عنيف لإرهاب المدنيين كما تفعل المنظمات والأنظمة المافوية عندما تنهزم في ميدان المعركة.

سيناريوهات محتملة

إلى أين تتجه إذا الحرب الروسية على أوكرانيا، وهل من سيناريوهات محتملة للخروج منها ؟
لمعرفة ذلك لا يكفي رفع الشعارات الرنانة المنتقاة من ملف الحرب الباردة ، فهي لم تعد تعبر عن واقع ملموس.
علينا أن نتصور ما سيحدث بناء على طبيعة القوى المشاركة في الصراع وإمكاناتها العسكرية والمادية وتحالفاتها الدولية وأهدافها بعيدة المدى.
أولا نظام الكرملين أو بالأصح نظام بوتين هو أقرب إلى سلطة طغمة منه إلى نظام سياسي، هذه الطغمة لا تعبر عن حقيقة الشعب الروسي، يكفي لإدراك ذلك رؤية طوابير الشباب من الطبقة الوسطى المتعلمة، وهم يصطفون على حدود دول الجوار هربا من التعبئة العامة، خوفا من موت محتمل على جبهة لا تعنيهم ولا تعني مستقبلهم، كازاخستان وحدها استقبلت أكثر من مئتي ألف مواطن روسي هارب، ويزيد العدد الإجمالي عن سبعمئة ألف.
هذا النظام لا يهدف في حقيقته إلا إلى بقائه نفسه وإحكام السيطرة على روسيا وشعبها ، وليس كما يدعي الحفاظ على أمن روسيا وتدمير الغرب وتغيير قواعد اللعبة الدولية.
من ناحية القوة هو يمتلك جيشا كان يعتبر الثاني في العالم ، بالإضافة لترسانة نووية هي الأولى. أما اقتصاديا فهو يعتمد بشكل كبير على الدخل الريعي النفطي والغازي وخصوصا المصدر لأوروبا، ولا يتجاوز دخلها القومي الدخل القومي الداخلي لإسبانيا. على عكس أوكرانيا ، ليس للرئيس الروسي حلفاء يتبنون سياساته العدوانية واحتلاله لأجزاء من أوكرانيا.

البعد الاقتصادي

هؤلاء الذين يعتبرهم بوتين حلفاءه الكبار وهم الهند والصين لا يهمهم إلا البعد الاقتصادي لروسيا من ناحية تصدير الطاقة والأسلحة، وليس الدخول في مواجهة مع الغرب الذي يمثل أهم الأسواق أمام منتجاتهم، وتتمسك هي أيضا بمبدأ سيادة الدول، وامتنعوا عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الاخير بخصوص ضم الأراضي الأوكرانية لروسيا، ذلك القرار الذي دعمته الأغلبية الساحقة من دول العالم، مظهرا عزلة روسيا المتنامية.
روسيا البيضاء الحليف الوفي بسبب ارتباط نظام لوكاشنكو بإرادة بوتين الذي ساهم بدعمه قبل بضع سنين أمام انتفاضة شعبية عارمة، تجد نفسها بين نارين روسيا من جهة وشعب أثبت على أرض الواقع رفضه للحرب الروسية.
أما إيران وكوريا الشمالية فهما أقل بكثير من أن تعادل بدعمهما العسكري ما يقدمه الغرب لأوكرانيا.
لا يجمع كل هذه الدول أي تحالفات عسكرية على مستوى دول حلف شمال الأطلسي، بل لها في بعض الأحيان خلافات وحروب.
بالنسبة لما قد يسمى الحليف العربي كموقف تلك المشاركة في منظمة أوبيك بلس، بخفض مستوى الإنتاج لزيادة أسعار النفط خدمة لبوتين، مواقفها تندرج في حقيقتها في حرب هذه الدول ضد الربيع العربي، مظهرين تحالفهم الطبيعي مع نظام استبدادي بدأ في الانهيار، وكأن ذلك سيغير شيئاً في نتيجة الحرب.
الاحتجاجات الشعبية في إيران تزيد الخوف بوصول العدوى إلى هذه الأنظمة نفسها. التقارب بين دول الخليج وروسيا بدأ منذ سنوات عدة في مجال الدعم العسكري والتنسيق النفطي.
كان ذلك ممكنا بسبب عدم اكتراث أمريكا بذلك، النموذج السوري مع تراجع أوباما وترك المكان لروسيا هو أحد أهم مظاهر هذه السياسة.
أما الآن فالأمور قد تغيرت ولم يعد هناك مكان لروسيا من المنظار الأمريكي. لذلك فإن هذه السياسة العربية تجاه موسكو ستجد حدودها قريبا، يرجع ذلك إلى الهيمنة الأمريكية الكاملة منذ عشرات السنين على هذه الدول خصوصاً على مستوى الحماية العسكرية لأنظمتها، وهي من يزودها بالسلاح والعتاد وليس روسيا. للأسف الدول العربية على غناها إلا أنها فاقدة للسيادة الوطنية ولا تملك قرارها بنفسها.
بالنسبة لنا كشعوب فنحن لن نقبل من منطلق العروبة التحالف مع من احتل سوريا وشرد أهلها وقتل أطفالها ودمر أجمل مدنها، ومن منطلق أننا مسلمون لن نقبل التحالف مع من دمر الشيشان وقتل ربع سكانها، ومن منطلق التضامن الإنساني لن نقبل كبشر أن تحتل دولة دولة أخرى ونحن في فلسطين نعاني من احتلال أجنبي منذ عشرات السنين ونطالب جميع الشعوب التضامن معنا.

المعايير الحضارية

في المقابل فنظام الحكم في كييف هو نظام منتخب ديمقراطيا حسب كل المعايير الحضارية الحديثة. لذلك يستطيع دون وجل ولا كذب التعبير الحقيقي عن الشعب الأوكراني، وتعبئته ودفعه إلى النصر. وهو ما نراه يوميا مع بسالة المقاتلين الأوكرانيين على كل الجبهات والتفاف الشعب حولهم.
تمكنت أوكرانيا على مدى العشر سنوات الماضية من بناء جيش مجهز بأحدث الأسلحة، وهو مدعوم بشكل كامل وقوي من حلف شمال الأطلسي، وكافة الدول الغربية في العالم.
هذه المرة اكتشفت هذه المجموعة دور أوكرانيا الاستراتيجي في الدفاع عن أوروبا نفسها، والتي كانت تعتقد أنها بعيدة عن التهديد العسكري. هذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحده يتعدى كونه تحالف مصالح آنية إلى تحالف لبناء مستقبل أكثر امنا. اكتشف الغرب أن أحلام السلام الدائم بعد الحرب العالمية الثانية وزوال الخطر السوفييتي كان خطأ تاريخيا يدفع ثمنه الآن من أمنه واقتصاده وسيادته. لذلك سيدعم أوكرانيا حتى النصر وإن احتاج الأمر فقد يشارك أكثر مباشرة بالقتال. هؤلاء المراهنون على تفكك التحالف الغربي خاطئون هذه المرة.

حرب نووية

على ضوء هذه الصورة للقوى الفاعلة ، ما هي احتمالات مستقبل الحرب ؟
الاحتمال الأول هو التوسيع في اتجاه حرب نووية، بعد فشل الحرب التقليدية الروسية في تحقيق أصغر أهدافها، هذا ممكن نظريا بسبب امتلاك روسيا ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية، إلا أن هذا لا يتوافق مع طبيعة النظام، فهو يهدف أولا وأخيرا إلى البقاء وليس الانتحار أو تدمير عدو مفترض، خصوصاً أن هذا العدو كان أكبر داعم للاقتصاد الوطني بشرائه الغاز والنفط، كما أنه سكت عن كل انتهاكات حقوق الإنسان. نحن نعلم أن الاوليغارشيا الروسية تستثمر رؤوس أموالها المنهوبة في الدول الغربية بشكل عام بدل فعل ذلك في روسيا أو الدول ذات الأنظمة المشابهة. هذا الاحتمال يبقى مؤجلا حتى ولو هدد بوتين العالم بسلاحه النووي ليلا نهارا، الشعار الذي يحمله هو ” البقاء في السلطة مهما كان الثمن”.
الاحتمال الثاني هو الانتصار الأوكراني التام واسترجاع الأراضي المحتلة، هذا ممكن من الناحية الواقعية ونحن نرى تقدم الجيش الأوكراني. لكن هل سيقبل الروس بهزيمة عسكرية تدمر سمعتهم لسنوات طويلة كمصدر لبيع الأسلحة ، وكقوة مؤثرة.
الاحتمال الأكبر هو أن تتجه روسيا نفسها إلى محاولة الاحتفاظ بالقرم، عبر وضع مستقبل المقاطعات الأربع المضمومة مؤخراً على طاولة المفاوضات، وقد تدفعها ثمنا للحفاظ على ملكية شبه الجزيره وديمومة النظام، بدل خسارتها عسكريا دون مقابل.
الاحتمال الثالث هو نتيجة ما نراه حاليا من تململ داخل مراكز القيادة في الكرملين، واحتمال تغيير داخلي شكلي عن طريق إزاحة بوتين والبدء في مفاوضات على القاعدة نفسها أي الإبقاء على ملكية القرم وديمومة النظام دون بوتين.
الاحتمال الرابع هو تحرك الشعب الروسي نحو ثورة للإطاحة بالنظام وبناء روسيا ديمقراطية. للأسف لم يعودنا الشعب الروسي في تاريخه الحديث على مثل هذه الثورات، هروب مئات الآلاف حالياً من التجنيد إلى دول الجوار بدل الاحتجاج دليل على ذلك، قد يرجع ذلك لعدم وجود قيادة معارضة فعالة أو تنظيم معارض شعبي، الشعب الروسي يعيش في حالة تشرذم وتفكك كما يحدث في الدول ذات الأنظمة المستبدة والتي لا تترك مجالا لأي معارض.
لكن احتمالات ما بعد الحرب قد تكون أسوأ من الحرب نفسها لروسيا، فنحن أمام قوى غربية مسيطرة في كافة المجالات ولن تقبل أن تجد على حدودها دولة تشكل لها ولمستقبل شعوبها خطرا وجوديا مثل الخطر النووي. لذلك فهذه الدول بقيادة الولايات المتحده الأمريكية ستتجه على أقرب الظن إلى نوع يشبه سقوط الاتحاد السوفيتي، أي انفراط عقد الفدرالية الروسية، وتجريدها من ترسانتها النووية كما فعلوا سابقا مع أوكرانيا نفسها. الولايات المتحده سبق لها أن فعلت ذلك في العراق لإنهاء أي خطر منه نحو إسرائيل، وتاريخ الغرب يظهر مدى مقدرة هذه المجموعة على تقسيم الاخرين، مثل الهند من قبل بريطانيا أو تقسيم الإرث العثماني والذي ما زلنا نعيش آثاره بعد قرن، وأمثله عديده أخرى.
الأحداث علمتنا دائما في مناطق كثيرة في العالم أن المتوقع لا يحدث في أغلب الأحيان، وأن التاريخ يقرر بنفسه إلى أين يذهب، لذلك فالاحتمال الأخير هو قرار التاريخ وليس قرار من يصنع التاريخ. وكما قال أحد المؤرخين الكبار ” هؤلاء الذين يصنعون التاريخ لا يعرفون أي تاريخ يصنعون”

ميلاد القطب الواحد الجديد. القدس العربي 07/10/2022

هل حقاً تهدف الحرب الروسية على أوكرانيا، إنهاء عالم القطب الواحد لصالح تعدد الأقطاب؟
عالم سيطرة أمريكا إلى عالم أكثر توازناً. المُراقب للأوضاع قبل هذه الحرب، قد يَشُك في ذلك، بل على العكس، تبدو نتائجها عكسية تماماً.

العالمان الشيوعي والليبرالي

حدد الرئيس الأمريكي، ترومان عام 1947، مفهوم العالم ثنائي القطب، عندما قسمه إلى جزأين، العالم الشيوعي في جهة، والعالم الليبرالي في جهة أخرى. من جهة السوفييت ومجموعة من الدول الدائرة في فلكهم. وفي الآخر أمريكا ومجموعة أخرى من الدول الدائرة في فلكها. انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة، أدى لهدم هذه الثنائية، لصالح وضع جديد متغير ومتقلب، يمكن تسميته، بعالم «ما بعد ثنائية القطب»، حسب بيرتران بادي، عالم الاجتماع الفرنسي، وليس وحيد القطب، فالقطب المُتبقي، أي الولايات المتحدة، لم يستطع فرض هيمنته بسبب التطور السريع للصين ودول أخرى في العالم على المستوى الاقتصادي والعسكري، بما فيها روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، والتي استعادت التأثير في السياسة العالمية منذ بداية القرن. تعددية الأقطاب هنا تعني بشكل أساسي، أمريكا والصين وروسيا. لكن الواقع يُثبت أن هذه الدول لم تستطع تجنيد وجر دول العالم الأخرى حولها، لتستحق اسم قطب. القطب بالتعريف هو من يَلتف حوله الآخرون. نحن إذاً كنا نتأرجح في سنوات ما بعد الحرب الباردة، بين نظام متعدد الأقطاب وبين نظام ذي قطبين، أو نظام بدون أقطاب.
الحرب الأمريكية في العراق وفشلها الذريع في تحقيق أهدافها، انتقالها بعد ذلك إلى حرب أفغانستان بنتائج مشابهة وخروج مُهين، شكل إعلاناً عالمياً عن نهاية ما سمي من طرف بعض الخبراء، عالم القطب الواحد، وهو ما دفع الصين إلى تقوية نفوذها العالمي، خصوصاً مع تحالفاتها الجديدة مع أفريقيا وآسيا الوسطى، ودفع روسيا إلى التدخل في سوريا، ودول حليفة سابقاً، وقمع الحركات الديمقراطية، كما حدث حديثاً في كازاخستان.

بداية النهاية

هذه الصورة كما يبدو، تُظهر عُقم الادعاءات الروسية، وما يُعلنه بوتين وأصدقاؤه في العالم، من بداية النهاية لعالم القطب الواحد، ودخولنا عالماً متوازناً جديدا، حيث ستجد كل دولة مكانتها في عالم متعدد الأقطاب. هذا الادعاء الساذج على أقل تعبير، يهدف فقط إلى إخفاء حقيقة حروب الرئيس الروسي، والتي تسعى إلى إبعاد أي خطر لانتشار الديمقراطية، أو النظام الليبرالي في روسيا، قد يأتي من الدول المجاورة خصوصاً أوكرانيا، الدولة السابقة المهمة في الاتحاد السوفييتي.
نتائج هذه الحرب، بعد سبعة أشهر، تُظهر أن الأوضاع القطبية العالمية، هي على عكس ما يقول بوتين ومحبوه. أمريكا التي كانت في مسار فقدانها لسيطرتها على دول أوروبا، وحتى على الناتو، والذي لم يعد له دور (عندما أعلن الرئيس الفرنسي أنه ميت سريرياً)، وفي طريق الانكفاء من جديد على نفسها، مع وصول الرئيس ترامب والمحافظين للسلطة، يبدو من جديد أنها استعادت عافيتها، فهي تفرض الآن سياساتها الاقتصادية والعسكرية على أوروبا، وتمكنت بسرعة كبيرة، من إعادة الروح والقوة إلى الجسد المتهالك لحلف الناتو، والذي وجد من جديد هدفاً ليبقى ويقوى، مُمثلاً بالخطر الروسي؛ الاقتصادي (الغاز)، والعسكري مع تهديدات بوتين وأعوانه، باستعمال السلاح النووي. بنفس الوقت أنهت الحرب خرافة الجيش الروسي، الثاني الأقوى في العالم، والذي لم يستطع تحقيق أي من أهداف رئيسه، بل على العكس، فقد عشرات الآلاف من جنوده، وأظهر فساده الداخلي وعجزه التام، عن مواجهة جيش حديث مسلح غربي، مؤدي في النهاية إلى تأكيد تفوق السلاح الأمريكي والغربي على الروسي، مع ما يمثله من ضربة قوية للاقتصاد، حيث يشكل تصدير السلاح، أحد أهم أعمدته، بالإضافة إلى ضربة الحصار الغربي الخانق، في مجالات اقتصادية أخرى.
القطب الروسي على صغره، أي روسيا والدول الدائرة في فلكها، بدأ في التقلص والتفكك، ابتعاد أرمينيا حليفة روسيا التقليدية، وتوجهها نحو الولايات المتحدة، وزيارة رئيسة الكونغرس الأمريكي، نانسي بيلوسي، لها وإعلانها التعهد بدعمها عسكرياً، بالإضافة لتصريحات رئيس كازاخستان، قبل أيام، عن فتحه الحدود أمام الفارين الروس من التجنيد وحمايتهم، ورفضه لسياسة تهديد الدول ذات السيادة، لدليل على التراجع الكبير لهيبة روسيا وهيمنتها على أقرب حلفائها.
ما نراه الآن، وبعد أشهر الحرب هذه، هو عودة أمريكا كقطب حقيقي واحد، تملك كل وسائل السيطرة والهيمنة، مدعومة من أغنى وأقوى دول العالم، وهي الدول الأوروبية واليابان وأستراليا.
هل بقيت الصين في معزل من التأثر من هذه الحرب، وهي الدولة الأهم المرشحة لتكوين قطب سياسي واقتصادي عالمي مع تحالفات واسعة. تدمير هذه الحرب لسياسة الحزام الاقتصادي، أي طريق الحرير الجديد في جزئه الشمالي، المار بآسيا الوسطى وأوكرانيا، والاضطرابات الاقتصادية العالمية الناتجة عن الغزو الروسي، وبدء الاقتصاد الغربي بتغيير سياساته الانفتاحية التقليدية على الصين، لصالح مركزتها من جديد في دول الغرب نفسها. تحالف دول كثيرة في منطقة التأثير الصيني مع أمريكا، إفشال سياسة الصين نحو تايوان، مع إخراج تلك الأخيرة من عزلتها والتعهد بالدفاع عنها، في حالة هجوم صيني (كان متوقعاً عند بعض المحللين نهاية هذا العام)، دفن في رأيي حلم الصين أن تصبح الدولة الأولى في العالم في السنوات القليلة المقبلة، كما كان يتوقع الكثيرون بمن فيهم الغربيون.
أتوقع إن استمرت الحرب لفترة أطول، أن يظهر الشرخ الصيني الروسي والخلافات بينهما أمام الجميع، لما لهذه الحرب من انعكاس سلبي على موقع الصين العالمي.

فترة التردد

نحن نعيش إذاً في هذه الأيام، ميلاد عالم القطب الواحد الحقيقي، وانتهاء فترة التردد وتعدد الأقطاب الوهمية. لم تُنه حرب بوتين على أوكرانيا، عالم الغرب المُهيمن، بل على عكس ذلك، أعادته لهذه الهيمنة، بعد أن كان قد بدأ في فُقدانها. إن كان هناك فشل واحد لبوتين، فهو أنه قوى من كان يَدعي أنهم أعداؤه، بالإضافة لتدمير اقتصاد بلاده نفسها، وعزلها وإفقارها. هذا بالتأكيد سيدفع ثمنه الروس أنفسهم، ولكن أيضاً دولا كثيرة في العالم وفي أولها الصين.

كاتب ومحلل سياسي

غورباتشوف ووهم التغيير

غورباتشوف ووهم التغيير

د. نزار بدران. القدس العربي 04/09/2022

أثار موت أول وآخر رئيس سوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، تعليقات عديدة في الصحافة العالمية وفي الأوساط السياسة. فهذا الرجل، كان وبجدارة، رجل القرن العشرين. وما زالت سنوات حكمه الستة، من عام 1985 إلى عام 1991، حيث استقال علناً أمام جماهير الشعوب السوفيتية، ومن على شاشة التلفزيون، بعد أن رفض البرلمان، إصلاحاته الليبرالية الهادفة لربط اقتصاد الاتحاد السوفيتي المُتهالك مع الاقتصاد العالمي. ما زالت تلك الفترة تُلقي بظلالها على مناطق كثيرة في العالم، وآخرها الحرب الحالية في أوكرانيا. لكن هذه السنوات العِجاف، بالنسبة للروس، حيث ازداد الوضع الاقتصادي تدهوراً، بدل أن يتحسن، مع سياسات البريسترويكا، أي إعادة البناء، لم تكن كذلك بالنسبة لباقي دول الاتحاد السوفيتي سابقاً، فكل دول أوروبا الشرقية، عندما تم رفع الغطاء السوفيتي عن قادتها الشيوعيين المُستبدين، انتقلت وبشكل سريع إلى الأنظمة الديمقراطية، والتحقت في معظمها بالاتحاد الأوروبي، وحتى بحلف شمال الأطلسي. أكبر رمز على هذا التغيير الهائل، هو انهيار حائط برلين، عام 1989، والذي كان يرمز للحرب الباردة وتمزق القارة الأوروبية. انتقلت ألمانيا الشرقية لحضن ألمانيا الغربية، وتدريجياً انتقلت باقي الدول، إلى حضن الاتحاد الأوروبي مع ما يُمثل ذلك بالنسبة لشعوبها من نعمة اقتصادية وحرية مُستَعادة. 

في المقابل، لم يستفد المواطن الروسي من أي شيء، لا على المستوى الاقتصادي، والذي زاد سوءا، ولا على المستوى السياسي أو الفساد ولا على المستوى الرمزي مع انهيار إمبراطورية كانوا هم عمدتها. تدريجياً وبسبب ذلك، ورغم الدعم الشعبي في بدايات السنوات الست، إلا أن الأمور عادت إلى أشبه ما كانت عليه زمن السوفيت، خصوصاً بعد وصول الرئيس بوتين خلفاً للرئيس يلتسن المُثير للجدل، الذي أنهى حرية الصحافة، وكافة الحريات المدنية الأخرى، بعد أن كانت في أوجها زمن غورباتشوف، وأغلق وعطل كافة المؤسسات المدنية، مثل جمعيات حقوق الإنسان. أُغلقت أيضاً جميع الأبواب أمام المعارضة، ولم يعُد يُسمَع إلا صوت الرئيس وجوقته الدعائية. الآن وبعد فترة بضعة سنوات من التحسن الاقتصادي، بسبب انفتاح الأسواق الغربية، أمام الغاز والنفط الروسي، نرى غرق روسيا في مستنقع أوكرانيا، والذي لن ينتج عنه إلا الأسوء بالنسبة للروس، وهو خطر تفكك الاتحاد الروسي.

لم يستطع الرئيس غورباتشوف، رغم حسن نيته، في إخراج الاتحاد السوفيتي من محنته الاقتصادية الطاحنة، التي كان يعيشها في منتصف الثمانينات، رغم إنهائه الحرب في أفغانستان عام 1988. لم تستطع إصلاحاته الليبرالية وانفتاحه على الغرب وإنهاء الحرب الباردة، من تعديل هذا الوضع. المصاعب لم تكن قليلة؛ في الداخل هناك تلك الطبقة الموغلة في الفساد والمستفيدة من حكم الحزب الشيوعي منذ سنوات طويلة، لم يكن لها أية مصلحة بالانتقال إلى الديمقراطية والحكم الرشيد، مع ما يعني ذلك من مكافحة سرقة المال العام. كما أنه لم يستطع تحقيق ما كان يُخطط له من الحد من الإنفاق العسكري، وتحويل الميزانية إلى الإنتاج لصالح المواطن، بسبب قوة المُمسكين بهذه الصناعة والمستفيدين منها. من ناحية أخرى لم يكن بالإمكان طلب الدعم من الدول الغربية، ألمانيا مثلا كانت في أوج مرحلة التوحيد (بين شرقها وغربها) ولم يكن المستشار كول، على استعداد أو مقدرة لمد يد العون. رفض أيضاً الرئيس الأمريكي ريغان، دعم غورباتشوف اقتصادياً ومادياً، بسبب تفكك البُنية الاقتصادية للدولة، وكما قال، لم يكن ليضع مليارات الدولارات في بئر بدون قاع. كانت الصين في ذلك الوقت، بزعامة دنج كزاو بنج، في موقف معاد لغورباتشوف، خصوصاً أنه دعم الحركة الديمقراطية فيها، بعد مذابح ساحة تيننمن في بكين، عام 1989، كما أن نموذجه بالإصلاح السياسي، لا يتناسب أبداً مع أهداف وتطلعات الحزب الشيوعي الصيني، الذي لم يكن يركز إلا على الاقتصاد.

رفض الشعب الروسي لسياساته الاقتصادية وخذلان الغرب له، كتب على هذا الرجل الفشل في بلاده نفسها، بينما نجحت سياساته في الدول الأخرى التابعة سابقاً للاتحاد السوفيتي. 

هل من درس للعرب وشعوب الأرض في ذلك؟. بالنسبة لي فالشيء الذي أستخلصه، هو أن التغيير السياسي لا يمكن أن يأتي بدون إرادة شعبية، تكون هي مصدره وموجهته، الإصلاح من داخل القصر لا يقلب الأوضاع، على الأكثر قد يُصلح بعض الشيء، لكنه في النهاية يصبح مضراً. التغيير لا يمكن أن يأتي إلا من القاعدة. دون ثورات عميقة، تُنهي النظام السابق بكل أعمدته، لا يمكن بناء شيء ثابت. هذا ما تعلمناه من ثورة قصر غورباتشوف، وصوله للسلطة، كرئيس المكتب السياسي للحزب الشيوعي، لم يغير شيئاً في هيكلة السلطة السوفيتية المُتحجرة، والتي في النهاية أزالته. أن ما حمله هذا الرجل، للأسف وحَلُم به، هو حلم كل مواطن في روسيا وفي العالم، الحرية والديمقراطية والرفاهية والسلام. كل ذلك لن يتحقق في دولنا العربية، إن انتظرنا المسيح المنقذ، فلا إصلاحات النظام الطائفي في لبنان، ستُجدي نفعاً، ولا تلك التي يقوم بها أمير المملكة السعودية، أو الحكم الانفرادي الحالي في تونس. 

على شعوبنا أن تستعيد حقها الطبيعي، بأن تكون هي مصدر العمل والفعل السياسي، ومن يُحدد ما يجب فعله، ومن يُمثلها لتحقيقه وإعطاءه سلطة مراقبة. وحدها الشعوب، عن طريق الثورات، من يُزيل كل العقبات والصعاب للنجاح.

وما فشل الرئيس غورباتشوف، إلا بسبب نسيانه لتلك المعادلة البديهية البسيطة، لكنه أيضاً لم يكن من موقعه، في قلب السلطة، ليستطيع القيام بثورة، فأعداءه هم بنفس الوقت أصدقاءه، كانوا محيطين به داخل قصر الكرملين، أو كانوا في عواصم الدول الغربية، والذين لم يكن يهمهم إلا الانتصار في الحرب الباردة، وإبعاد الخطر السوفيتي، ودحر الشيوعية.

توقعات نهاية الحرب في اوكرانيا. القدس العربي 19/5/2022

توقعات نهاية الحرب في اوكرانيا

د. نزار بدران

هل من إمكانية لتوقع كيفية إنتهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي يبدو أنها ستطول كثيراً. يوحي الوضع الحالي، والتصريحات الرسمية، للمسؤولين الروس، أنهم رغم إنهاك جيشهم وخسائره الكبيرة، مصرون على الاستمرار حتى ولو اضطروا إلى استعمال الوسائل النووية، وما تحمل من نتائج كارثية على الإنسانية جمعاء وكوكب الأرض.

كيف لنا في هذه الغابة الشائكة، من الاحتمالات المتناقضة، أن نتوقع المستقبل، ولو القريب منه. هل الغرب على استعداد لدعم أوكرانيا إلى ما لا نهاية، وهل الصين ستبقى على موقفها المتفرج، البعيد حقيقة عن التحالف مع روسيا. لا نرى حتى اللحظة، إلا زيارات رؤساء ومسؤولي الدول الغربية إلى كييف، وإعلان جزء كبير منهم، عن النية لإيقاف بوتين وفرض الهزيمة الكاملة عليه. هل هذا حقاً موقف استراتيجي، أم تكتيكي، في انتظار عودة الخطاب الروسي إلى نبرة أقل حدية. ما أظنه شخصياً مربط الفرس، في هذه التوقعات، هو تحديد طبيعة النظام الروسي، فهي من سيُحدد مدى استعداد الجيش الروسي، السير بالحرب رغم الصعاب أو التوقف. 

الأنظمة السياسية المستبدة، والتي ينتمي إليها بوتين، (رغم انتخاباته المشوهة، حيث لا وجود لأي معارض)، ليس لها جميعا نفس اللون. هناك بتقديري على الأقل ثلاثة أنواع؛ الأول ذلك الذي يتبع مبدأ العقد الاجتماعي، على طريقة توماس هوبز. أي تخلي الناس عن حريتهم بإرادتهم لصالح النظام المُستبد، مقابل تأمين هذا النظام لهم الأمن والسلام والازدهار. هدفه الأساسي، إنهاء الصراعات الداخلية. هذا النموذج ينطبق على الصين، فهو ينطلق دائماً من مصلحة الشعب والدولة الصينية، من منظار المستولين على السلطة. فرغم مذابح تينن من، عام 1989، وقمع المعارضة، إلا أن الصين تؤمن لمواطنيها السلم والأمن والتقدم المستمر.

النموذج الثاني، هو الأنظمة العقائدية، وهي شديدة الخطورة، لأنها لا تبحث عن حماية الدولة والشعب وتأمين الحياة الكريمة، وإنما إلى انتصار فكر عقائدي معين. مثال ذلك الاتحاد السوفيتي سابقاً، أو كمبوديا بول بوت، أو حديثاً، الأنظمة الدينية كما نرى في إيران أو أفغانستان. المهم هو تطبيق ما يظنونه أفكار ماركس هنا، أو الشريعة هناك، رغم كل ما تؤدي إلى تناقض مع مصالح الشعب بالأمن والسلام والحياة الكريمة.

النموذج الثالث، هو ذلك النظام المافيوي، المبني على استيلاء مجموعة من أصحاب النفوذ على السلطة، لصالحهم الخاص فقط، دون اي اعتبار لأي عقيدة أو أي مصلحة وطنية. هدفهم الوحيد هو الاستحواذ على موقع القرار، وما الدولة والشعب، إلا وسائل لتحقيق هذه المصلحة، دون أي اعتبار للأمن والسلم الداخلي، أو ازدهار البلاد وتطورها. هذا للأسف، يُعبر عن الأوضاع في كثير من الدول العربية، خصوصاً ذات الثروات المعدنية أو النفطية، والتي لا يهم السلطة فيها، إلا سرقة هذه الثروات لصالح المسؤولين فقط. وهو ما يُؤدي إلى إفقار المواطن وإضعاف الوطن، مقابل زيادة غناء أهل السلطة وعملائها.

من هذا المنظار، كيف لنا أن نصنف نظام بوتين. هل هو عقائدي (كما كان مثلاً هتلر أو ستالين)؟. أم ينتمي إلى عائلة الدول ذات العقود الاجتماعية، حتى ولو كانت على طريقة هوبز. الناظر لبوتين ومن أين أتى، وما فعل منذ وصوله للحكم، بعد أن ورثة عن يلتسن، مقابل صفقة حماية له. يُلاحظ انتماء هذا الأخير، إلى العائلة الثالثة، أي الأنظمة المافاوية. هو لا يملك عقيدة سياسية معينة، ينتمي لأقصى اليمين وأقصى اليسار بنفس الوقت، وهو ما يُفسر دعم هؤلاء له في كل دول العالم، وتسميته بالرفيق عند بعضهم، رغم احتضانه من كل أحزاب وحكام اليمين المتطرف في العالم، كما نرى مع ترامب وبولسنارو ومارين لوبين. هو لم يؤمن للشعب الروسي الحد الأدنى من الحياة الكريمة، عندما نرى مدى تراجع القوة الشرائية للمواطن، وتخلف البلاد على كافة المستويات، بما فيها التغطية الصحية، والصناعة، رغم الدخل الهائل الناتج عن بيع الغاز والنفط. فكل الصناعة التي ورثها عن الاتحاد السوفيتي، موجهة فقط نحو السلاح. هي إذاً دولة ريعية بامتياز، هذا الريع كما نرى، يذهب إلى طبقة الأوليغارك الروسية، وليس إلى جيب المواطن.

لو عدنا من جديد إلى توقع نتائج الحرب، فإننا نرى، أن الأنظمة العقائدية مستعدة للذهاب إلى الهاوية والدمار، كما فعل هتلر في زمنه، وكما تفعل إيران وأفغانستان حالياً. بينما النظام المبني على العقد الاجتماعي، على الطريقة الصينية، يبقى عقلانياً، لا يمكنه تدمير البلاد والعباد، فقط لإرضاء شخص أو مجموعة من المتسلطين. في المقابل، محرك النظام المافيوي الأساسي هو البقاء في السلطة، مهما كان الثمن، وكل ما يفعله يصب في هذا الاتجاه. الحرب على أوكرانيا، تهدف أساساً، إلى إبعاد خطر وجود ديمقراطية في جوار روسيا، قد تكون مصدر عدوى لشعبها، حتى أن بوتين فعل نفس الشيء في دول غير مجاورة بعيدة، مثل سوريا. كل التدخلات الروسية في إفريقيا، هي أيضاً بنفس الهدف، أي دعم الأنظمة المافياوية المشابهة وإبعاد خطر الديمقراطية، هو ما يُسميه أصدقاء بوتين «إنهاء السيطرة الغربية، وإقامة نظام متعدد الأقطاب»، بينما في الحقيقة، الشيء لا علاقة له لا في الغرب ولا في الأقطاب. الهدف هو فقط إحكام السيطرة على روسيا وشعبها.

ماذا يمكن لبوتين عمله الآن، وهو يواجه ما لم يتوقعه في مشروعه الأوكراني، والذي حطم صمود شعبها، أحلامه الوردية. هل سيتصرف كدولة مثل الصين، أي البحث عن مصلحة الشعب الروسي. هذا ليس في وارد وفكر هكذا النظام، أم سيذهب للنهاية، وتطبيق منطق (علي وعلى أعدائي يا رب) كالأنظمة العقائدية، هذا أيضاً ليس ممكناً، فهو لا يُدافع عن عقيدة معينة. وليس عدائه للغرب إلا حجة واهية يُقدمها فقط للشعب الروسي، ليبقى مكبل اليدين. كل ناهبي ثروات روسيا، قطط بوتين السمينة، لا يستثمرون أموالهم المنهوبة إلا في البنوك الغربية والأمريكية خصوصاً، وليس في الاقتصاد الروسي.

ما أتوقعه أن يدخل بوتين في مربع النظام العراقي لصدام حسين، أي إنهاء الحرب، دون رفع العقوبات كاملة، ودون أي انتصار لبوتين، لكن مقابل ألا يعمل الغرب على إسقاطه من السلطة؛ هدفه الوحيد. هم أصلاً غير راغبين في ذلك، فقد فشلت هذه السياسة في مناطق أخرى في العالم. ولا أظن أنهم مهتمون حقاً، في تغيير شكل النظام الروسي. تاريخ الغرب الحديث، يُظهر أنهم لم يقدموا أي دعم حقيقي للمعارضة الروسية، بل العكس، تعاملوا مع بوتين كشريك موثوق به، وسكتوا عن كل جرائمه السابقة، داخل وخارج روسيا.

بعد انتهاء الحرب، ستبقى روسيا محاصرة بحجة جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان في أوكرانيا، واحتلال شبه جزيرة القرم، ولكن سيبقى نظام بوتين جاثماً على صدور الروس. الحل الوحيد لهذه المصيدة، التي تقع فيها روسيا، هو أن يتحرك أبناؤها، للتخلص من العصابة التي تحكمهم منذ أكثر من عشرين عاماً، ولم تؤدي، كما قالت الصحفية الروسية المعارضة انا بوليتكوفسكايا والتي اغتالها بوتين عام 2006، إلا إلى الهاوية السحيقة.

دول الغرب، ستضم أوكرانيا لها، وسيتوسع ويقوى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، عكس ما يوهم به بوتين شعبه، وستعود الحياة العادية للعالم، ولن يجد بوتين حلفاءً يحمونه و يدعمونه، فحجم روسيا الاقتصادي لا يسمح بذلك. القوة النووية، لا يمكنها تغيير شيء. هي لا تصلح إلا إلى الإحكام على الشعب الروسي والانفراد به، كما يفعل كيم جونج أون في كوريا الشمالية. 

محبو وداعمو بوتين، من مثقفي الأحزاب اليسارية العربية، أظهروا بمواقفهم الغريبة، مدى إصابتهم بالعمى السياسي. وأضاعوا تلك الفرصة للعودة من جديد، لصف الشعوب المناضلة من أجل طرد المُحتل مهما كان وفي أي مكان كان. خصوصاً وأننا رأينا ونرى دائماً، ما يفعل المُحتل الروسي الشرس، في مدن عربية عزيزة على قلوبنا جميعاً مثل حلب. وما أظهره من عنف لا حدود له ضد السكان المدنيين العُزل في سوريا والشيشان. هل هكذا نظام ممكن أن يكون موضع دعمنا، وهو يدمر أعز ما نملك. سينتصر الشعب الأوكراني الشجاع لا محالة، كما فعلت قبله كل الشعوب الشجاعة، من الجزائر إلى فيتنام، وسيشكل ذلك بالنسبة لنا عودة للأمل من جديد في سوريا ومن بعدها شعلة الربيع العربي. 

التحالف الصيني الروسي… حقيقة أم خيال / القدس العربي 08/04/2022

التحالف الصيني الروسي… حقيقة أم خيال؟

 د. نزار بدران

مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا وتزايد أعداد اللاجئين الفارين إلى دول الجوار الأوروبي، واكتشاف فظاعات الحرب على السكان المدنيين، كما رأينا مع القتلى المدنيين في مدينة بوتشا وحصار ماريوبول، يتساءل الكثيرون إن كان هناك دور لدولة بحجم الصين لإنهاء هذه الحرب، ووضع حد لنتائجها الكارثية.
الأمل المعقود على الصين مرتبط بما يتصوره بعض الساسة، من وجود تحالف صيني روسي. الإعلان المشترك في بداية الألعاب الشتوية الأولمبية في بكين، يدل على ذلك، حيث أعلن الرئيس الصيني كسي جنبنج أن العلاقات بين البلدين قوية كالصخر.
هل هذه العلاقة هي بهذه القوة حقا ؟ وهل تاريخ العلاقات بينهما يوحي بمثل هذا التحالف المعلن.
ما يربط البلدين هو في الحقيقة صداقة «كاذبة» ولكنها غامضة، كاذبة، لأنها مبنية فقط على كرههما المشترك للأنظمة الليبرالية الديمقراطية، ولكل الثورات الديمقراطية في العالم.

مرتزقة فاغنر

حرب سوريا وحالياً أوكرانيا تقعان في إطار قمع هذه الثورات. تواجد مرتزقة فاغنر في بقاع عديدة في العالم كذلك. ضغط بكين المستمر على هونغ كونغ وتهديدها لتايوان هو بنفس الهدف. يتقاسم النظامان أيضا رغبتهما للثأر من ماض قريب، والخوف من التحالفات الجديدة، خصوصاً في جنوب المحيط الهادئ بقيادة الولايات المتحدة. كذلك رغبتهما في إيجاد عالم آخر جديد خارج الغرب.
لكننا أيضا نرى غموض هذه العلاقة، فالصين لم تصوت لصالح روسيا في الأمم المتحدة في إدانتها للغزو الروسي.
هناك غموض أيضا في علاقتهما الاقتصادية؛ لا ترى الصين روسيا كموقع أساسي لمشروعها الاقتصادي، فهي تنظر إلى الشرق، بينما تنظر روسيا نحو الغرب. حجم التجارة الخارجية للصين مع روسيا لا يتعدى اثنين بالمئة فقط، بينما بالنسبة لروسيا هذا يمثل عشرين بالمئة.
من جهة أخرى تسعى الصين لتصبح قوة اقتصادية عالمية مهيمنة، وهي تملك مقومات ذلك، بينما لا تملك روسيا مشروعا مشابها، ولا تملك المقومات نفسها.
ما يجمعهما حقا، هو ما يملكان من قوة لإيذاء المشاريع الغربية ومحاولة إعاقتها، كتمدد حلف شمال الأطلسي أو التجمعات الاقتصادية السياسية في المحيط الهادئ، كتجمع دول الأوكس (أستراليا، المملكة المتحده، الولايات المتحدة)

التوازن الاستراتيجي

تميزت العلاقات بين الصين والاتحاد السوفييتي بالعداء، وتحولت بعد انهيار هذا الأخير إلى علاقة تعاون مع خليفته روسيا، خصوصاً بعد زيارة الرئيس الصيني، لي بنج لموسكو، في بداية التسعينيات، وإنشاء ما سمي بالتوازن الاستراتيجي في نهاية العقد. تزامن ذلك أيضا مع التقارب مع الهند القوة الناشئة الجديدة.

لكن أكثر ما زاد التقارب بينهما كان حرب القرم عام 2014، بعد أن فرضت الدول الغربية مجموعة من العقوبات على روسيا.
وضعت الصين حلا لهذه العقوبات، فقد فتحت بكين لموسكو باب الأمان، وزاد التبادل التجاري بينهما بشكل كبير ليصل إلى عشرين مليار دولار في عام 2021. هذا ما أنهى أي شعور بالخطر السياسي من طرف نحو الآخر، كما كان سابقاً.
هل سيتكرر هذا السيناريو من جديد مع الحرب على أوكرانيا، ورد الدول الغربية مختلف تماما هذه المرة؟
تتقاسم الصين وروسيا أيضا رؤيتهما لمفهوم الأمن القومي، هو يعني لهما أولا، الأمن السياسي، أي ثبات وديمومة النظام، ذلك قبل الأمن الاجتماعي أو الاقتصادي، كل شيء يجير لهذا الهدف، فهما تضعان سلامة النظام قبل كل شيء. هذه إحدى صفات الأنظمة المستبدة بشكل عام. الإعلان المشترك في بداية الألعاب الأولمبية في بكين هذا العام وضع على رأس أولوياته، انتقاد الأنظمة الليبرالية الديموقراطية، وتمجيد نظام بكين وموسكو كصورة لمستقبل الأنظمة في العالم.

الخلافات الجوهرية

هذا التوافق الظاهري، لا يجب أن يخفي عن الأنظار مجموعة من الاختلافات والخلافات الجوهرية والتي تبدو بعيدة عن الصداقة.
التوغل الصيني في آسيا الوسطى وإفريقيا أخذ المكان الذي تركه الاتحاد السوفييتي، والذي هيمن لعقود على جزء كبير منها. تشارك الصين حاليا في تطوير البنية التحتية لمعظم دول القارة الأفريقية، حتى أن مقر الاتحاد الإفريقي بنته الصين في أديس أبابا عام 2012 وهي لا تظهر أي شكل من الاهتمام بالأمور السياسية الداخلية لهذه الدول، ما فتح لها أبوابا واسعة.
من ناحية أخرى، استولت الصين أيضا على مكانة الاتحاد السوفييتي في ما يخص استكشاف الفضاء، والذي كان رائدا في هذا المجال. ولا ننسى يوري غاغارين الروسي، أول رجل في التاريخ يصل الفضاء ويدور حول الأرض. التعاون الحالي بين البلدين في مشروع الوصول إلى القمر مثلا هو مشروع صيني، ولا تلعب فيه روسيا إلا دورا ثانويا.
نستطيع القول إن الصين هي أحد كبار المستفيدين من انهيار وتمزق الاتحاد السوفييتي، هو ما سمح لها أن تصبح القوة الثانية في العالم على المستوى الاقتصادي، ويعتقد الصينيون أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرنا صينيا بامتياز.
بعد أكثر من ستة أسابيع من الحرب في أوكرانيا، لم تفعل الصين شيئا مع أو ضد روسيا. بل اكتفت السلطات بإعلان مبادئ عامة، أي وقوفها مع السلام ضد الحرب، وحدها وسائل الإعلام الصينية ومواقع التواصل الاجتماعي من يكرر ادعاءات موسكو بشأن اتهام الغرب وأمريكا خصوصاً، بإشعال الحرب والتحضير لاستعمال الأسلحة البيولوجية.
هل تريد الصين حقا أن تتوسط لحل النزاع القائم. اجتماع دول الاتحاد الأوروبي والصين، والذي عقد في الأول من نيسان – أبريل في العاصمة الأوروبية بروكسل، لم يظهر أي تحمس للصين لفعل ذلك، ورفضت الطلب الأوروبي بالتوسط.
هي برأيي تنتظر تطور الأمور حتى تعرف كيف تستغل هذه الحرب لصالحها، كي تظهر بعد الحصول من الغرب على تنازلات كثمن، وكأنها منقذة العالم من حرب مدمرة، فهي الوحيدة التي تملك الأوراق الكافية لإجبار بوتين على التراجع، مع إعطائه مخرجا لحفظ ماء الوجه أمام شعبه.
ولكن هل حقا تريد الصين إنقاذ روسيا من الانهيار، ونحن رأينا أنها استفادت من تفكك الاتحاد السوفييتي.
هل قرار الرئيس بوتين في حربه على أوكرانيا هو شيء ممكن للصين تقبله؟
لا أظن أن القادة الصينيين مستعدون للسير في مشروع يفرض عليهم من الخارج، حتى ولو كان من حليف. هذا يعني اقحامهم في نزاع قد يكون مسلحا مع أمريكا والغرب، وهم يشكلون سوقها التجاري الأول، ومن أمن بسوقهم الاستهلاكي الكبير والاستثمارات الهائلة، ازدهار الصناعات الصينية.
أظن على عكس ذلك إن دولة تزن عشر مرات روسيا سكانا واقتصادا، لا يمكنها أن تسير في مشروع يهدف الى إعادة إحياء قدرات الاتحاد السوفييتي عدوها السابق.

أزمات عالمية

لا أحد منا يتصور مثلا أن تجر الولايات المتحدة إلى حروب وأزمات عالمية دون أن تكون صاحبة القرار فيه.
لا يمكن لأي رئيس صيني أن يسير عكس ما تخطط له الصين منذ سنوات عديدة، وهو أن تصبح القوة الأولى في العالم، بواسطة استعمال القوة الناعمة، أهم مشروع اقتصادي في العالم حاليا هو مشروع طريق الحرير الجديد، الذي يمر في جزئه الشمالي في ست عشرة دولة من دول آسيا الوسطى وشرق أوروبا.
هذا المشروع توقف تماما مع الحرب، فأوكرانيا هي إحدى هذه الدول.
حرب بوتين المتهورة، ستلحق أيضا الضرر في المشروع الصيني الكبير لإعادة توحيد الصين، عن طريق ضم تايوان والسيطرة السياسية على هونغ كونغ.
فقد وحدت هذه الحرب، وما أعادت من ذكريات الحروب العظمى الأوروبية، السياسات والشعوب الغربية، التي كان تفرقها مصدر ثقة الصين بمشاريعها العملاقة خصوصاً بعد تجربة احتلال شبه جزيرة القرم دون رد فعل غربي وازن.
النظام الصيني رغم استبداده، إلا أنه عقلاني يخطط وينفذ، الوقائع على الأرض تعطيه المصداقية في ذلك، فقد استطاعت الصين إخراج مئات الملايين من الفقر المدقع، يوما بعد يوم يتمتع الشعب الصيني بمستوى دخل ورفاهية أكبر، بينما مع بوتين ونظامه فإننا نرى في روسيا عكس ذلك تماما.
من ينتظر أن تنقذ الصين روسيا هو خاطئ في رأيي، هي فقط تنتظر متى سيضع الدب الروسي ركبة على الأرض حتى تبدأ بأخذ نصيبها من الوليمة.
كاتب فلسطيني

د. نزار بدران

 

دروس الحرب للشرق والغرب/ القدس العربي 22/03/2022

دروس الحرب للشرق والغرب

دروس الحرب للشرق والغرب

د. نزار بدران

لم تنتهي الحرب الروسية على أوكرانيا بعد، وقد تدوم طويلا. من الصعب التكهن بنتائج هذا الصراع وتأثيراته على العالم، لكننا نستطيع أن نستخلص بعض العبر من مسرى الأحداث. 

ما يهمني هنا، هو ما يحصل حالياً بالوعي الجماعي للشعوب والحكومات. فما كان مُسلماً به يوم 23 شباط، تحطم على صخرة الهجوم الروسي يوم 24. هذه المُسلمات موجودة في كل بقاع الأرض، هي تُشبه المواد المنومة، فنحن نعتقدها دائمة أبدية.

السلام الدائم

أولى هذه المُسلمات في القارة الأوروبية، هي ديمومة السلام. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، قبل أكثر من 75 عاماً، لم تشهد الساحة الأوروبية صراعات بين دولها الرئيسية تُهدد سلامها ورفاهيتها. هذا الانطباع بانتهاء زمن الحروب، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وما تبع ذلك من تقدم اقتصادي، وتقدم تقني وعلمي في كافة المجالات، أنسى الشعوب والحكومات، الأُسس التي بُني عليها الاتحاد الأوروبي. ما أدى مثلاً، لخروج بريطانيا قبل بضعة سنوات لحماية سوق عملها من وُصول العمالة القادمة من دول أوروبا الشرقية، بشكل خاص، كذلك هو ما دفع باتجاه رفض الدستور الأوروبي في كافة الاستفتاءات، وعودة الدعوات لسيطرة الدول على حدودها، وتقوية أحزاب سياسية يمينية متطرفة، ترفع شعار القومية وحتى الخروج من الاتحاد.

الشعور بالسلام الأبدي، أصبح إذاً عائقاً أمام استكمال الوحدة الأوروبية، دافعاً نحو تحوله إلى نادي دول وشعوب غنية، لا تتقاسم مخاوف وُجودية حقيقية. هي فقط تتنافس على من يقطف ثمار الازدهار الاقتصادي.

 عادت فجأة أوروبا، إلى المفهوم المؤسس للاتحاد: إنهاء الحروب في القارة أولاً وقبل كل شيء. هو ما سيؤدي بتقديري إلى تأسيس وعي آخر بديل، يدفع بالاتجاه المعاكس، أي مزيد من الوحدة، ومزيد من القوة العسكرية، والتلاحم مع الولايات المتحدة تحت مظلة حلف شمال الأطلسي.

 بدأت ملامح هذا الاتجاه واضحة في صحوة المارد الألماني، وخروجه من عقدة القوة العسكرية، أول خطواتها هي تخصيص مئة مليار دولار، لتطوير الصناعات العسكرية. شيء كهذا كان مستحيلاً حدوثه قبل الحرب، الاتجاه العام في كافة الدول الغربية، كان نحو تقليل المصاريف العسكرية. من ناحية أخرى، بدأت دول أوروبا المحايدة بالتفكير للانتماء للاتحاد وحلف الناتو لحماية نفسها. هذا يُظهر أيضاً خطأ التحاليل السياسية التي كانت تنتظر انفراط العقد الغربي، وانحلاله لصالح القُوى النامية، خصوصاً الصين. 

أولوية الاقتصاد 

ثاني هذه المُسلمات، وهو مرتبط بالأول، هي أولوية الاقتصاد على السياسة. التنافس التجاري العالمي لكسب مزيد من الأسواق، هو ما يُحدد الخيارات السياسية، وليس العكس. تُرجم ذلك على مستوى أوروبا وأمريكا بتناسي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في دول عدة، ومنها طبعاً روسيا بوتين. لم تُعر الدول الغربية اهتماماً لتراجع الحريات العامة في الاتحاد الروسي، ولا حتى لحروبه الداخلية، وتدميره جزء من شعبه، كما فعل مع جمهورية الشيشان، ومحو عاصمتها من الوجود. كذلك تعميق مركزية الدولة على حساب حقوق الجنسيات والقوميات المُشكلة للاتحاد. وقمع المعارضة السياسية وتحييد الإعلام والسيطرة على القضاء وتزوير الانتخابات بكافة الوسائل، للوصول لبرلمان يتبع قرارات الرئيس دون أدنى اعتراض. لم يرى الأوروبيون والأمريكيون أن هذه أسبابا كافية لإعادة النظر في علاقاتهم مع بوتين، ولا حتى تدخله العسكري عام 2014، واحتلاله أجزاء من جمهورية أوكرانيا، وقبلها مناطق من جورجيا. هذه الأولوية، أي الاقتصاد قبل السياسة، هي من منع التضامن مع الشعب الروسي، الذي هو الضحية الأولى لهذا النظام.

أولوية الربح التجاري، ليس خصوصية غربية، فنحن نراها في كل دول العالم، ما سمح باستمرار قمع المعارضة بدول عدة، مثل الدول العربية، أو قمع الأقليات كما حدث ويحدث مع الأقليات المسلمة في الصين أو بورما أو الهند. 

الحرب الروسية على أوكرانيا، أفاق الغرب من نوم عميق، دعم الأنظمة الاستبدادية، ليس دوماً مصدر رفاهية، بل كما نراه الآن في الحالة الروسية، هو مصدر رعب وتهديد بحرب عالمية ثالثة.

الأزمة الحالية قد تؤدي إلى وعي جديد أيضاً، وهو العودة إلى أولوية السياسة على الاقتصاد. بناء نظام اقتصادي عالمي يأخذ بالحسبان الحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان في كل دول العالم، وليس فقط في الدول الغربية والديمقراطية. هذا طبعاً أمنيات طوباوية، لكن الظرف الحالي قد يكون مناسباً للدفع بهذا الاتجاه.

أوروبا والعرب

هل سيكون هناك تغييراً في السياسات الغربية تجاه القضايا العربية، أولها الحرب الروسية على سوريا منذ 2015، كذلك حق الشعب الفلسطيني بالعودة إلى وطنه والحصول على حقوقه، والحالة الأوكرانية تُذكر الجميع، بأن الشعب الفلسطيني يُعاني من ويلات الاحتلال منذ عقود عديدة، ولا يجد من يُناصره. كذلك حراك الشعوب العربية للتحرر من الأنظمة المُستبدة منذ عام 2011، وما نراه من عودة هذه الأنظمة بدعم من الدول الغربية، تحت شعار، أولوية الربح الاقتصادي على السياسة أو ما يسمى السياسة الواقعية. 

ما نراه الآن، يُشير إلى العكس، فالحاجة لحصار روسيا، تدفع أمريكا لرفع العقوبات عن النظام الإيراني المستبد، وبعض الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية. لكن هذا في الحقيقة هو عمل سياسي واضح الهدف، وسينتهي بمجرد انتهاء الحاجة إليه (عزل بوتين وتعويض البترول والغاز الروسي).

هذا الوعي الغربي الجديد، بأولوية السياسة على المصالح الاقتصادية، لن يُترجم إلى فعل على أرض الواقع، إلا حين تقوم شعوب البلاد المحرومة من الحرية بالدفاع عن نفسها، كما يفعل الشعب الأوكراني هذه الأيام. الانخراط في العمل النضالي، للحصول على الإصلاحات المرجُوة في كل دولة، هو من سيدفع الغرب والدول الديمقراطية، بشكل عام، نحو احترام حقوق الشعوب الأخرى. هل ستتمكن المعارضة العربية وشباب الربيع العربي من الدفع بهذا الاتجاه، مع فضح التواطؤ الغربي مع أنظمة مثل النظام المصري أو عسكر السودان والتمييز العرقي في فلسطين. 

على شعوب حوض البحر المتوسط شماله وجنوبه، أن تعي وحدة مصيرها، ازدهار الشمال لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، على حساب فقر الجنوب، ديمقراطية الشمال على حساب دعم استبدادية الجنوب. مآسي الهجرة إلى أوروبا وانتشار الإرهاب في دول الجنوب كما في دول الشمال، هو دليل على ضرورة توحيد مصالح الجميع وليس تضاربها. مصالح دول الجنوب هي أولاً بالحصول على الحرية والديمقراطية، هذا ما على دول الشمال أن تفهمه لتتمكن من الاحتفاظ برفاهيتها وأمن مواطنيها على المدى البعيد.

الدرس الأوكراني للشعوب

الدرس الأخير لهذا الحرب، هو درس الشعب الأوكراني للشعوب العربية، الصمود والوحدة التي أبداها هذا الشعب المُذهل، واستعداده للتضحية مهما كانت التكاليف، هو الأساس في هزيمة مشروع الديكتاتور الروسي، بوتين لا يريد على حدوده، ولا حتى في العالم، أي نفس ديمقراطي.

لن نهزم أعدائنا فقط بالصياح والاستجداء وطلب الدعم والتأييد، عندما نكون نحن أنفسنا من يجلب المُحتَل لبلادنا، كما حدث في سوريا مع التواجد الإيراني والروسي، أو في العراق بعد الحرب على الكويت، وتكوين تحالف غربي عربي مسلم لاحتلال هذا البلد. نحن من جلبنا إيران إلى اليمن عن طريق الحوثيين، والروس إلى ليبيا عن طريق المُشير حفتر. هذه خصوصية عربية تاريخية، أن نجلب المُحتَل عندنا ثم نبكي منه، والمثل الفلسطيني مع اتفاقيات أوسلو والتنسيق مع إسرائيل على مستويات عدة، مع توسيع الاستيطان بنفس الوقت.

درس الشعب الأوكراني للعرب، هو أن ننهض بأنفسنا أولاً، قبل أن نطلب دعم الآخر. الرئيس زيلنسكي، رفض العرض الأمريكي بالهرب من كييف في بداية الحرب، وأظهر شجاعة لا نجدها عند معظم قيادات الأمة العربية ولا حتى معارضيها. هذا الرئيس الشاب القادم من عالم الفن، سيتمكن بشجاعة شعبه من هزيمة المشروع الروسي، ولا ننسى أن الرئيس رونالد ريغان، هو الذي أسقط الاتحاد السوفيتي، وكان في بداية حياته ممثل أفلام كوبوي فاشل. 

الشعب الأوكراني يُدعى تاريخياً بالقوزاق، والذي لم يقبل يوماً الاستعمار والتبعية لأحد، فكلمة قوزاق تعني باللغة الأوكرانية الرجال الأحرار.

الحرب الباردة الثانية وحوض المتوسط

القدس العربي 10 آذار 2022

د. نزار بدران

لن تتوقف تداعيات الغزو الروسي  لأوكرانيا، على القارة الأوروبية فقط، بل ستتجاوزها إلى أماكن كثيرة في العالم. 

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، نتيجة ما كان يُسمى «حرب النجوم»، التي فرضها الرئيس الأمريكي، دونالد ريغان في الثمانينات، والتي هي عبارة عن سباق تسلح باهظ الثمن، لم يتمكن السوفيت من مجاراته. تصور الجميع أن ذلك يعني نهاية الحرب الباردة. ما سمح مع بداية القرن الواحد والعشرين، في انفتاح روسي اقتصادي واجتماعي، على أوروبا وأمريكا، ولكن أيضاً على بقية العالم، خالقاً نوعاً من الطبقة المستفيدة، التي استولت على الإرث السوفيتي، واستثمرته خارج روسيا، خصوصاً في الدول الغربية. 

تعايش الغرب مع هذه الوضعية، المُريحة بالنسبة له. إسكات المعارضة الروسية، التطور بالنظام السياسي الروسي، نحو انفراد بوتين بالسلطة، وعدم سماحه بوجود إمكانيات حقيقية للتغيير، مسيطراً على كل مفاصل الدولة، بما فيها القضاء والإعلام. كل ذلك، اُعتبر من طرف الغرب كوضع مقبول. وكما ادعى بعض الباحثين، فإن الروس والجنس السلافي بشكل أوسع، ليس مستعداً لتقبل الديمقراطية (كما يُقال الآن عن العرب والمسلمين)، ولم يعرفها في تاريخه قط.

تمكن الاتحاد الروسي، وريث الاتحاد السوفيتي الرسمي (لكن دون إمكانياته الاقتصادية والبشرية) من الدخول قليلاً قليلاً، مناطق العالم التي كانت سابقاً، تدور في فلك السوفيت. من هذا المنطق، رأينا عودة الروس إلى منطقة البحر المتوسط. 

لم تضع أمريكا أية عوائق لهذا الانتشار الروسي الجديد، ذلك من مُنطلق عدم وجود أهمية استراتيجية لهذه المنطقة الآن خصوصاً بعد انتهاء تداعيات هجمات نيويورك عام 2001، فالخطر الشيوعي لم يعد موجوداً، الحاجة الماسة للنفط القادم من الشرق الأوسط، لم يعد أولوية مع تحول أمريكا من دولة مُستهلكة إلى أكبر مُنتج للعالم للنفط والغاز. حماية أمن إسرائيل الاستراتيجي لها، لم يعد بهذه الضرورة، فهذه الدولة، تمكنت من فرض هيمنتها على عدد كبير من الدول والأنظمة العربية، والتي لم تعد تعتبرها عدوة، إن لم تُصبح حليفة. هذه الأسباب سمحت كما نرى، بعودة الروس لسوريا ودعم النظام البعثي. تدمير سوريا وتقتيل أهلها وتشريدهم، لم تكن تعتبره أمريكا سبباً كافياً، لتغيير سياساتها في المنطقة، خصوصاً مع وجود توافق واضح بين إسرائيل وروسيا.

انتهاء الاهتمام بالشرق الأوسط، كمنطقة استراتيجية لأمريكا، وانتقال ذلك الاهتمام إلى الصين وجنوب شرق آسيا، هو ما أدى مثلاً إلى تراجع الرئيس أوباما سنة 2013، عن معاقبة النظام السوري عسكرياً.

ما لم ينتبه إليه المعسكر الغربي، هو إمكانية العودة من جديد لأيام الحرب الباردة، خصوصاً مع انتقال معظم دول الاتحاد السوفيتي السابق، نحو أنظمة ديمقراطية، تتناقض تماماً مع شكل نظام موسكو.

الغزو الروسي لأوكرانيا بهذا الشكل الفج، ومحاولة إنهاء استقلال دولة أوروبية، من الدول السابقة للاتحاد السوفيتي، التي حصلت على استقلالها بعرق جبينها، رغم محاولات موسكو المتعددة لمنع ذلك؛ من تسميم رئيسها الأول إلى احتلال أجزاء من أوكرانيا عام 2014، تحت ذرائع عرقية. هذا أيقظ تماماً المارد الغربي من أحلامه الوردية، وأعاده إلى إمكانية الحرب الشاملة المدمرة، على الساحة الأوروبية، مع التهديد الروسي بحرب نووية.

من هذا المنطلق فإننا نرى، أن التواجد الروسي في البحر المتوسط، الذي كان مقبولاً ومسكوتاً عنه، لعدم تشكيله إزعاجاً للقوى الغربية، أصبح الآن، جزءاً من الحرب الباردة الساخنة الجديدة. 

أول مظاهر ذلك، هو عودة تركيا إلى حضن الغرب، وإغلاقها ممر الدردنيل والبوسفور، أمام السفن الروسية، وتزويدها أوكرانيا بالطائرات المُسيرة، وهي التي لم تفعل أي شيء من هذا القبيل لدعم الشعب السوري، بل أنها طورت علاقاتها مع روسيا واشترت منها منصات صواريخ س س 400 رغم معارضة أمريكا. هذه المرة، لم يحتاج الأمر إلا إلى مكالمة هاتفية واحدة من الرئيس بايدن، حتى تنخرط تركيا من جديد في التحالف مع الغرب، واضعة نفسها في موضع العدو المُحتمل لروسيا، وهدفاً لأسلحتها في حالة حرب شاملة، كما كان عليه الحال زمن الحرب الباردة الأولى. من المتوقع مقابل ذلك، أن تستعيد تركيا الدعم الأمريكي الأوروبي لاقتصادها المُتهالك، هذا ما يبحث عنه الرئيس أردوغان، في مُحاولة لاسترجاع شعبيته المُتآكلة. وما قاله الرئيس بايدن، عندما كان مرشحاً للرئاسة، بضرورة إزاحة أردوغان عن السلطة، أصبح في خبر كان.

هذه الوضعية الجديدة لتركيا، قد تسمح للشعب السوري وقواه الحية، إن استغلت الفرصة، من تحسين مواقعها في مواجهة القوات الروسية، بعد أن تراجع الاهتمام بالحرب السورية، لصالح الحرب في أوكرانيا.

هل هناك انعكاسات على القضية الفلسطينية؟ لا نظن ذلك، فالقيادة الفلسطينية مُتخبطة، ولا تملك أصلاً مشروعاً وطنياً واضحاً. إسرائيل كعادتها ستتأقلم مع الوضع الجديد مهما كان، وستكون مع الطرف الأقوى، رغم اتجاهها الطبيعي حالياً لدعم الموقف الروسي أو الحياد، بسبب الجالية الروسية الكبيرة، التي تتجاوز المليوني إسرائيلي من أصول روسية. 

نرى أيضاً، بنفس المفهوم، استعداد الغرب وأمريكا لإنهاء الملف النووي الإيراني. لكن ذلك لن يتم، إلا من منظار محاصرة موسكو. أي رفع للعقوبات عن إيران، سيهدف فقط حالياً إلى عزل روسيا، وليس إلى تخفيف الضغط على أحد حلفائها في المنطقة.

السودان بدوره، والذي حصل زمن الرئيس البشير، على دعم مجموعات المرتزقة الروس فاغنر، قدم على ما يُقال كميات كبيرة من الذهب للخزينة الروسية (رحلات حديثة لحمديتي إلى موسكو)، لحمايتها من العقوبات. قد يجد هذا البلد نفسه أيضاً من جديد، بدائرة الاهتمام الغربي. أمريكا لم تقم رغم تبجحها بالعكس، بدعم التغيير الديمقراطي السوداني، تاركة المجال للعسكر الإحكام على السلطة، بدعم من حليفتها المقربة إسرائيل. دعم هؤلاء العسكر، وخصوصاً حمديتي للروس، بفتح مناجم الذهب أمامهم، لن يبقى أمراً داخلياً سودانياً، بل سيقع على ما أظن، في دائرة العقوبات الأمريكية الغربية، ولن يكون هناك مجال للعسكر وحلفائهم الإسرائيليين، إلا الانضمام للمقاطعة أمام خطر دعم الإدارة الأمريكية، للانتقال الديمقراطي السوداني من جديد.

التقارب العسكري الروسي الجزائري، وتحالفاتهم القديمة والجديدة، وأحدثها في مالي، والتعاون الاقتصادي والعلمي ومجالات عديدة أخرى منذ سنوات طويلة، خصوصاً بعد إلغاء الديون الروسية على الجزائر عام 2006، بقيمة 4.7 مليون دولار، مقابل صفقات عديدة، منها إقامة محطة نووية لإنتاج الكهرباء، كان مُنتظرا أن ترى النور ما بين 2025-2030. التشابه بين النظامين بطبيعتهما العسكرية، وتنامي الخطر عليهما من التحولات الجارية على المستوى الاجتماعي. كل ذلك لم يكن يعني كثيراً الإدارة الأمريكية، حتى دخول الجيش الروسي لأوكرانيا.

هنالك مناطق ودول عديدة، بمنطقة البحر المتوسط وأفريقيا، يتواجد فيها الروس، دون انزعاج أمريكي، مثل أفريقيا الوسطى ومالي.

الرد الغربي الأمريكي على الغزو الروسي، سينتقل تدريجياً إلى كل هذه المناطق. فنحن عشنا الحرب الباردة الأولى، ونعرف أن وقودها كان دائماً من فقراء العالم وليس من أغنيائها. يُقدر عدد ضحايا الحرب الباردة، بين الاتحاد السوفيتي والغرب، بأكثر من ثلاثين مليون قتيل، كلهم طبعاً في الدول الفقيرة. هل نحن على أبواب حرب باردة جديدة، والعودة بمسلسل المجازر بحق شعوب «العالم الثالث». ؟

أخطاء الدب الروسي

أخطاء الدب الروسي. القدس العربي 28/02/2022

د. نزار بدران

منذ الحرب العالمية الثانية، لم نر وضعاً يهدد السلم العالمي كما نراه الآن في الحرب الروسية على أوكرانيا. فمن خلف ستار تلك الحرب نرى خطر المواجهة العسكرية، بين قوى نووية عظمى، وما يشكل ذلك من كارثة على الإنسانية والحياة على كوكب الأرض. 

عندما قرر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إطلاق حملته ضد أوكرانيا، لأسباب يعتبرها وجيهة، لم يكن على ما أظن، قد حسب كل النتائج الممكنة، وأولها توحيد الشعب الأوكراني كله خلف جيشه وقيادته السياسية. مرد ذلك برأيي، هو في طبيعة الأنظمة الديكتاتورية، والتي ينفرد فيها شخص واحد في اتخاذ القرار. في الدول الديمقراطية، هناك هيئات ولجان وخبراء وأشياء كثيرة تسبق القرار السياسي، ذلك في جو من البحث عن المعرفة الدقيقة للمسببات والنتائج المحتملة قبل اتخاذ أي قرار. أما في دولة مثل روسيا، حيث القرار هو في يد شخص واحد، فإن هذه الهيئات المُفترض فيها تشخيص المشاكل وتقديم الاقتراحات، بناء على معرفة دقيقة، تتميز بشيئين هما: أولاً التملق للرئيس، وإعطاءه المقولات التي تناسب توجهه ورغباته، وثانيهما، عدم الكفاءة بالدور المنوط بها، ذلك لأن التعيينات بهذه اللجان والمناصب العليا، يتم عبر آلية الولاء وليس المقدرة (ونحن متعودون على ذلك في بلادنا). هذا يؤدي إلى ضبابية كاملة أمام الرئيس، والذي يتخذ قراره النهائي دون أي رؤية حقيقية.

من هذا المُنطلق، فإننا نقول أن النظام الاستبدادي، هو خطر حقيقي على شعبه أولاً، قبل أن يكون خطراً على الآخرين. والأمثلة كثيرة من نظام صدام حسين وبشار الأسد إلى عمر البشير ومادورو بفنزويلا والملالي بإيران.

لو أردنا بعد بضعة أيام من صمود الشعب والجيش الأوكراني، تقييم النتائج على المدى المتوسط والبعيد، مهما كانت نتيجة الصراع، انسحاب أو احتلال روسي، فإننا نستطيع إعطاءها عنواناً عاماً، هو أن الرئيس بوتين حقق وبسرعة فائقة، كل ما كان يبحث عن إبعاده، أي أنه سيصل على نتائج عكسية تماماً عما كان يأمل.

على المستوى الأوكراني، لم يعد هذا الشعب الصديق للروس، والذي يتقاسم معه الأصول السلافية والثقافة والدين وحتى اللغة، لن يعود صديقاً بعد اليوم. تدمير مدنه وحصارها وقتل أبنائه وتشريد مئات الآلاف، ليس من علامات الصداقة المُتفق عليها. ستقترب أوكرانيا أكثر وأكثر من حُلفائها الغربيين، والمُطالبة بالالتحاق بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، حتى تحمي نفسها من الدب الروسي. صمودها لحد الآن يُبرر لها ذلك، فهذا الصمود، هو أيضاً حماية لأوروبا، سيعترف الأوروبيون بذلك ولن يستطيعوا رفض طلبها. هذا ما سيُقرب حدود الناتو من روسيا بدل إبعادها.

على المستوى الأوروبي، فإن التيارات الاجتماعية والفكرية، التي كانت وراء رفض الصيغة الفيدرالية للاتحاد، هذا عُبر عنه عن طريق رفض الدستور الأوروبي في جميع الاستفتاءات التي حصلت سابقاً، حتى العودة للخلف وبدء الخروج من الاتحاد، كما فعلت بريطانيا عام 2016. هذا التيار سيتراجع، أكبر معبر عنه هو اليمين المتطرف الذي يقاسمه بوتين الفكر. التهديد الوجودي الذي استشعره الأوروبيون، خصوصاً الخطر النووي، يدفع نحو تقوية أواصر الاتحاد، ودفعه باتجاه العسكرة والتسلح، كما رأينا مع القرارات الألمانية الأخيرة، وانضمام كل الدول الأوروبية الخارجة عنه، مثل السويد.

على مستوى حلف شمال الأطلسي، أي بشكل خاص، التواجد العسكري الأمريكي في أوروبا، إنه لمن المؤكد توسع هذا الحلف نحو دول جديدة، وإعادة الحياة له، بعد فترة سُبات تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، والانتهاء المُفترض للحرب الباردة. سنرى أن التيارات الفكرية المُعارضة له أوروبياً، وخصوصاً أمريكياً، لن تصمد بعد عودة الخطر الروسي إلى أوروبا، وما يشمله من تهديد بحرب عالمية ثالثة. 

على مستوى جنوب البحر المتوسط والمنطقة العربية، فهناك التواجد الروسي منذ عام 2015 بسوريا، والمسكوت عنه غربياً. فدول الناتو لم تكن تعتبر هذا النزاع ذا بُعد استراتيجي لها، بل فقط اشكالية تكتيكية. عودة الحرب الباردة، وحتى الساخنة، قد تُغير الموقف الغربي ودول حلف شمال الأطلسي، في كل أماكن تواجدهم، بما فيه سوريا وليبيا وبعض الدول الأفريقية.

بالنسبة لإسرائيل، بسبب وجود ملايين المواطنين من أصول روسية، فإن موقعها لن يكون مريحاً، هذا ما يفتح للفلسطينيين، إن استغلوا الفرصة، الإمكانية لتعميق الشرخ الأمريكي الإسرائيلي وقد امتنعت إسرائيل يوم الجمعة الماضي في الأمم المتحدة عن إدانة الهجوم الروسي، وهو ما أثار حفيظة الأميركيين. 

على مستوى الصين، فإن المراهنين على التحالف الروسي الصيني، واهمون، كما كانوا واهمين مع التحالف الروسي الصيني لإنقاذ إيران. الصين لا تنزعج كثيراً من تغيير اتجاهات الاهتمام الأمريكي من جنوب وشرق آسيا إلى أوروبا وروسيا. هذا سيضعها في موقع أكثر راحة، وهي قوة اقتصادية بشكل أساسي، وتبني علاقاتها مع الغرب، على مبدأ التبادل التجاري، وليس على مستوى التحالفات الإيديولوجية. روسيا في هذا المجال الاقتصادي، لا تُشكل وزناً راجحاً، حتى تقوم الصين بالابتعاد عن أمريكا، أو إزعاجها، فأمريكا أكبر مُستهلك في العالم لبضائعها. الميزان التجاري بينهما، هو بشكل كبير لصالح الصين، ما كان السبب الرئيسي للخلاف بينهما زمن الرئيس دونالد ترامب وحالياً. كما أن هذه الأزمة، بحرفها اهتمامات أمريكا والغرب بشكل عام، تُعطي الصين حرية أكبر بالتحكم في منطقتها الجغرافية، خصوصاً مع تايوان وتطوير طرق الحرير، مشروعها الاقتصادي الكبير.

الأهم هو على المستوى الروسي، بوتين لم يكن حقيقة يبحث عن مواجهة أمريكا أو الناتو، بل فقط إبعاد كل توجه ديمقراطي في الدول المجاورة لروسيا، كما فعل في جورجيا وأوكرانيا أيضاً، عندما ضم شبه جزيرة القرم. خوفه من العدوى الديمقراطية في بلاده، هو برأيي الدافع الرئيسي لسياساته، تحت غطاء الخطر القادم من الغرب. لكن صمود الشعب والجيش الأوكراني، والدعم الهائل الذي يحصلون عليه من الغرب، لن يسمح بالنجاح هذه المرة، على عكس المرات السابقة. هذا ما سبب في بدء الشعب الروسي بالتعبير الواضح عن رفضه لسياسات بوتين العسكرية. كلما زاد طول الحرب والمقاومة، وتوسع المستنقع الأوكراني، كلما زاد تحرك الشعب الروسي وزاد وعيه بالخطر المُحدق به من هكذا سياسات انفرادية.

أمريكا والغرب كعادتهما، لن يرفعا العقوبات ولن يتوقفا عن دعم أوكرانيا، وإعادة تمركز الناتو وتوسعه في أوروبا، بل سيذهبان برأيي أيضاً إلى محاولة تحييد الخطر الروسي، حتى لو انتهت الحرب الأوكرانية لصالح أو ضد بوتين. كما عودتنا السياسات الأمريكية في مناطق أخرى في العالم، فإنها ستدفع نحو تقوية المعارضة الديمقراطية للنظام، ولكن أيضاً للأسف، نحو تقوية التوجهات القومية، والتي ستؤسس لمشاكل داخلية لروسيا، قد تصل إلى حد مطالبة بعض القوميات بالاستقلال، كما رأينا مثلاً بالشيشان، والثمن الباهظ الذي دفعته لذلك. تحييد الخطر الروسي لن يكون مرتبطاً بنوعية النظام السياسي الروسي، هو مثل الخطر المصري على إسرائيل، فهو ليس مرتبطاً بنوعية النظام المصري، بل بطبيعة الخطر المتواجد بشكل عضوي في الطرف الروسي. ستقوم أمريكا برأيي، بمحاولة استكمال إنهاء الحرب الباردة، والتي على ما يبدو لم تكن قد انتهت كما ظن الجميع. بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي، لن يكون من المُستبعد أن تستمر في محاولات لتفكيك الاتحاد الروسي. ونحن نعلم أن روسيا تحتوي على 128 جنسية مختلفة، ولكن الروس يشكلون الأغلبية الكبرى، علما أن بوتين تراجع عن معاهدات عديدة مع هذه المناطق وُقَّعَت بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، لصالح سلطة مركزية قوية على عكس طموحات هذه القوميات.

النظام السياسي في روسيا، المبني على حكم الفرد ورجال الأعمال الفاسدين، هو في الحقيقة أكبر خطر على روسيا حالياً ومستقبلاً. وليس كما يدعي بوتين الخطر الغربي، والذي كان في طريقه للانحسار والاختفاء، لصالح نزاع جديد مع الصين.

على الدول الغربية أن تتعلم أيضا أن دعم الأنظمة التسلطية كما يفعلون في بلاد عديدة، وكما فعلوا مع بوتين، ساكتين عن انتهاكاته المستمرة للدول المجاورة او لحقوق معارضته ، هو سيف ذو حدين، وان إحترام حقوق الشعوب بالحرية والديمقراطية لا يجوز أن يضحى به لصالح منافع اقتصادية مؤقته. 

بالنسبة لنا، الاختباء خلف الشعارات الفارغة، وتصنيف الناس داخل علب فكرية، كما نرى حالياً في النقاشات الدائرة في دولنا، لن تُفيد شيئاً. علينا رؤية الأشياء كما هي، وليس كما نتمنى.