ديمقراطية إسرائيل العرجاء.. القدس العربي ١٧ آذار ٢٠٢٣…نزار بدران

أول من وضع أسس الدولة الديمقراطية الحديثة وحدد آلياتها هو الفيلسوف الفرنسي توكفيل بعد أن أقام في أمريكا لبضع سنين واصفا عام 1835 من خلال تجربته الشخصية هذه الديمقراطية الناشئة، في وقت لم يكن شكل السلطة قد حُدِّد لصالح النظام الديمقراطي بشكل نهائي في أوروبا.
كان الفلاسفة ومنهم الكبار أمثال«هيغل» ما زالوا يُنظِّرُون آن ذاك إمكانية التوفيق بين النظام الارستقراطي الوراثي والنظام البرلماني في الوقت نفسه.

المجتمع المدني

الديمقراطية التي يدافع عنها توكفيل ويريدها لوطنه فرنسا، تكفل للجميع المساواة وتكافؤ الفرص، ولا تعامل مواطنيها حسب أعراقهم وأديانهم.
تُبْنى على أساس الفصل بين السياسة والحكم من جهة وبين الدين من جهة أخرى، مع إيجاد مجتمع مدني قوي، لتبقى الديمقراطية حية دائما، وليس فقط في لحظات الانتخابات ويزول منها خطر التحكم بالأقليات.
نسمع منذ أسابيع عن حراك إسرائيلي شعبي دفاعا عن ديمقراطية هذه الدولة، وخروج الآلاف في شوارع تل أبيب. وهم على حق في رفض المساس باستقلالية القضاء، هذا طبيعي ومقبول. لكن المستهجن هو تطبيل جزء من المثقفين والمحللين العرب لهذا الحراك، وكأن الخطر الذي تواجهه الديمقراطية الإسرائيلية على أيدي الطرف الأكثر تشددا فيها، سيؤدي إلى نتائج سلبية على حياة الفلسطينيين، وكأننا نعيش الآن في نعيم الاحتلال

.

حق تقرير المصير

الشعب الفلسطيني في الداخل وغزة والضفة، والذي حرم من حق تقرير المصير والاستقلال بعد خروج الانتداب البريطاني، لصالح إقامة دولة أخرى هي إسرائيل، وتُرِك تحت احتلالها وسطوتها، يعاني من استثنائه بالكامل، ومنذ عقود طويلة من الديمقراطية الإسرائيلية يمينها ويسارها. نحن لا نرى أي مساواة بين اليهود والعرب، ولا تكافؤ الفرص، بل على العكس نحن محرومون من كل أشكال ومحاسن الديمقراطية عندما تهدم جرافات الجيش الإسرائيلي البيوت الفلسطينية في القدس وتطرد عائلات بأكملها، وذلك بقرار من القضاء الذي يتظاهر الإسرائيليون من أجل المحافظة عليه. رغم تناقضه مع القانون الدولي، لا يرى اليسار ولا المتظاهرون المحتجون على نتنياهو حرجا في ذلك.
لم يكن أحدا يعتبر النظام الأبيض في جنوب أفريقيا نظاما ديمقراطيا، بل نظام أبارتايد وذلك بسبب عنصريته. لم يتمكن هذا النظام الحفاظ على علاقات مع الغرب ليستمر بالازدهار لصالح البيض فقط، وهو ما أدى فيما بعد إلى سقوطه المدوي، واستبداله بالديمقراطية الوحيدة الممكنة أي التي تساوي بين الجميع.

المحاسبة القضائية

الانتقاص من الديمقراطية الإسرائيلية بسبب قوانين نتنياهو الجديدة للحفاظ على نفسه من المحاسبة القضائية، لا تهمنا نحن العرب في شيء إلا من ناحية « انظروا فقد بدأوا يتعرَّبون.»
أن يخرج الآلاف في شوارع تل أبيب لا يعني أن إسرائيل تملك ديمقراطية ناضجة، تلك التي لا تقبل أبدا كقاعدة دائمة أساسية غير المساواة بين الجميع، وإحقاق الحقوق.
لَخَّص توكفيل مُنظِّر الديمقراطية الغربية وجميع الأنظمة الحديثة في العالم فكره في كتابه عن الديمقراطية قائلا:
« من الواضح أن هناك حدًا لقوة الأغلبية. لنفترض مثلا أنه من بين جنسين يعيشان معًا – السلت والسكسونيون ، على سبيل المثال – قرر الأكثر عددًا جعل الأفراد من العرق الآخر عبيدًا لهم. هل سلطة الأكبر عددا ، في مثل هذه الحالة ، هي صحيحة؟
إذا لم يكن كذلك ، فهناك شيء يجب أن تخضع سلطته له، يجب الاعتراف بقانون يذعن له الصوت الشعبي (الأغلبية والأقلية).

ما هو إذن هذا القانون ، إن لم يكن قانون الإنصاف الكامل – قانون الحرية المتساوية؟ هذه القيود ، التي يرغب الجميع في وضعها بإرادة الأغلبية ، هي بالضبط القيود التي منعها هذا القانون. نحن ننكر حق الأغلبية في القتل أو الاستعباد أو السرقة ، لمجرد أن القتل والاستعباد والسرقة هي انتهاكات لهذا القانون – انتهاكات صارخة للغاية لا يمكن التغاضي عنها. ولكن إذا كانت الانتهاكات الكبيرة لهذا القانون غير عادلة ، فإن الانتهاكات الأصغر تكون كذلك.
إذا لم تستطع إرادة الكثيرين إلغاء المبدأ الأول للأخلاق في هذه الحالات ، فلن يمكنها فعل ذلك في أي حالة أخرى. لذلك ، مهما كانت الأقلية غير ذات أهمية ، ومهما كان صغر التعدي على حقوقها التي يُقترح تحقيقها ، فلا يجوز السماح بمثل هذا الانتهاك.»(نهاية الاقتباس)

العدالة الدولية

الديمقراطية الإسرائيلية لن تحمل بجدارة إسمها الا إذا اذعنت لهذا المنطق ومحت من كيانها كل أشكال الظلم والتمييز. واعترفت بحق كل إنسان وكل لاجئ فلسطيني العودة إلى وطنه، واسترداد ما يملك، والتعويض الكامل عما حدث، وتقديم كل من أجرم للعدالة الدولية والحق في تقرير المصير، غير ذلك تبقى ديمقراطية عرجاء، لا تتطابق مع قواعد توكفيل، ولن تحمي المحتلين ولا الشعب الفلسطيني.

عودة السياسة عنوان العالم الجديد

القدس العربي ١٢ اذار٢٠٢٣

نزار بدران

منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا في نهاية شباط/فبراير من العام المنصرم، تركزت الأنظار على تداعياته على الأمن في أوروبا والغرب، خصوصا مع التلميح المتكرر لإمكانية استعمال السلاح النووي الروسي، والتي تتزايد مع تزايد الهزائم على أرض المعركة.
سبق هذه الحرب العسكرية ومنذ عام 2020، حربا بيولوجية طبيعية عالمية مع انتشار وباء كورونا وتهديده الإنسانية الوجودي، وكأننا عدنا لأزمنة القرون الوسطى وما رافقتها من أوبئة فتاكة مثل الطاعون. لولا تطور الطب وظهور لقاح فعال لكنا ما زلنا مختبئين في بيوتنا، وكأن الخروج للشارع أصبح في حد ذاته مقامرة حياتية. هذا ما رأيناه مؤخرا في الصين بعد التراجع عن سياسة العزل الاجتماعي العام دون تأمين لقاح فعال.

التهديد النووي الروسي

التهديد النووي الروسي والبيولوجي الطبيعي وضع الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية في وضع مغاير لما كانت عليه، باستطاعتنا أن نقول إن الكرة الأرضية قبل 2020 ليست هي نفسها ما بعد ذلك.
القارئ لما يقوله المحللون والسياسيون والمختصون، قد لا يستفيد شيئا من كل ما يقرأ، فهو يتغير ويتبدل كل يوم. تحالفات تنتهي وأخرى تبدأ، تجمعات ورؤى جديدة، هذا عالم يولد من جديد وليس فقط تغير في العلاقات الدولية على مبدأ الأقطاب والتحالفات.
العالم الذي سبق عام 2020 هو عالم مبني على مركزية الاقتصاد وهيمنته على السياسة، ما ترجم بمفهوم العولمة الاقتصادية. أصحاب الشركات الكبرى هم من يحدد للساسة ما عليهم فعله، حرية السوق على مستوى العالم هي المرجعية المطلقة، ليس على السياسة إلا اللحاق بها وتسهيل عمل مستثمري رأس المال وليس وضع الخطط لمراقبة أنشطتهم وأرباحهم.
صانعو السيارات اليابانية أو الأمريكية يعملون ذلك في كل بقاع الأرض، كذلك الأمر بالنسبة للأدوية وكافة أشكال الصناعة. قليلة تلك الأنشطة الاقتصادية التي كانت مرتبطة بسياسة دولة معينة (مثل مراقبة بعض الأنشطة العسكرية، التكنولوجيا الحساسة أو المركبات الفضائية). ما نستهلكه يوميا من مأكل وملبس وحركة سفر وغيره هو معولم بالكامل. هذا ما سمح بتطوير دول عديدة وانتقالها من الفقر إلى وضع أكثر غناء، كما رأينا مع الصين، كوريا الجنوبية، فيتنام، تركيا أو أندونيسيا ودول عديدة في جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
العولمة على علاتها كانت شيئا ايجابيا، لأنها قصرت المسافات بين الشعوب والدول، وسمحت لمن امتلك الجرأة بالمضي في طريق الانعتاق الاقتصادي.
الذين لم يستفيدوا من العولمة هم تلك البلدان التي لم تعمل أنظمتها السياسية شيئا غير نهب ثروات شعوبها، مثال عدد كبير من الدول العربية، عكس دول إسلامية عدة.

النظام الصحي الغربي

الآن برأيي انتهت هذه الفترة الزمنية بإيجابياتها وسلبياتها، وبدأت السياسة في الدول الغربية بالعودة إلى دورها التقليدي، ومحاولة توجيه الاقتصاد بدل الانجرار خلفه، ذلك عن طريق استرداد معظم الصناعات والأنشطة الاقتصادية التي كانت شركاتها حولتها إلى دول العالم تحت حجة الربح وتقليل الكلفة. وباء كورونا أظهر مثلا هشاشة النظام الصحي الغربي بسبب اعتماده في حاجاته الأساسية رغم بساطتها على الصناعات الطبية الهندية والصينية (مثل الكمامات). كذلك الأمر في مجال الملابس أو صناعة السيارات، وعديد من قطاعات الإنتاج المصنع.
عدة عوامل دفعت بهذا الاتجاه، ارتفاع أسعار الطاقة مما جعل النقل البحري أو الجوي كبير الكلفة لاغيا بذلك انخفاض كلفة الإنتاج المأمولة، الاهتمام المتزايد داخل الرأي العام الغربي بضرورة تقليل الاعتماد على الطاقة الأحفورية وما تمخض من قبوله لزيادة الأسعار، وأخيرا عودة هاجس الحرب داخل الدول الغربية نفسها وضرورة الاعتماد على الإنتاج المحلي حتى في مجال الصناعات البسيطة.
السوق الحر الليبرالي لم يعد نموذجا فعالا ومقنعا، لأنه لم يترافق مع وضع قوانين عالمية ملزمة للجميع، ما أدى إلى الفوضى وليس إلى التكامل. استمر التهديد باستعمال العنف، بسبب ذلك لم تتمكن الأمم المتحدة القيام بدورها الطبيعي بالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. بات واضحا للجميع أن العولمة الاقتصادية وحدها ليست الوسيلة الفعالة للوصول إلى السلام الدائم.
خطوط الغاز التي ربطت روسيا مع أوروبا على أهميتها لكلا الطرفين لم تكف لمنع عودة الحرب إلى أوروبا من جديد، والتي كانت تظن انها قد تخلصت منها إلى الأبد.

الواقع العربي

ما يهمنا في هذا العرض هو ارتداد هذا العالم الجديد على واقعنا العربي، هل سنتأقلم معه ونأخذ العبر للتغيير، أم نستمر كما هو حالنا منذ عشرات السنين بالسبات وانتظار الفرج الإلهي. توقعات المستقبل على المستوى العالمي تسير الآن عكس التيار الذي حكم العالم لعقود، أي أولوية الاقتصاد على السياسة. عودة السياسة تعني عودة الحماية وعودة الأسوار، ولكن هذه المرة بهدف مراقبة وإغلاق الأسواق الداخلية خصوصا تلك الغنية، والتي بإمكاناتها الاستهلاكية الكبيرة أمنت الطفرات الاقتصادية النوعية لجزء كبير من العالم.
اقتصاد النظام الجديد يتبع السياسة وليس العكس. اقتصاد العولمة يترك مكانه للاقتصاد الإقليمي. نحن نبدأ العيش في عالم الدول والتجمعات الكبيرة، ذات الأعداد السكانية والإمكانات الاستهلاكية والإنتاجية الضخمة، التبادل داخل دول هذه التجمعات سيتعدى بأهميته التبادل بينها.
الدول العربية الحالية لا تعرف تقريبا تبادلا داخليا إنتاجيا أو استهلاكيا، فكل تجارتنا تقريبا هي مع الدول الأخرى في العالم، خصوصا الدول الغربية، مثل بيع النفط والغاز الطبيعي واستيراد التكنولوجيا والمواد الضرورية للحياة.
هذه الوضعية قد تكون كافية لحد الآن، خصوصا بمفهوم السماح للأنظمة ببيع ثروات البلاد وتأمين بقائها، لكن المستقبل سيفرض عليها التعاون فيما بينها لتتمكن من الاستمرار، الأسواق الغربية ستبدأ بالتبدل، وكما رأينا مع إغلاق السوق الأوروبي أمام الغاز الروسي ثم النفط والأسمدة، فقد نكون بدورنا ذات يوم نواجه أشياء مشابهة. وحده التكامل العربي حتى خارج الأطر الديمقراطية من سيؤمن لهذه الدول وخصوصا لهذه الأنظمة نوعا من الديمومة.


هل هناك من سيفهم هذه التغيرات، يستبق الأحداث ويقوم ببناء الجسور بين الدول العربية. الإنتاج والاستهلاك يمكن له أن يكون عربيا عربيا. نحن مجموعة كبيرة سكانا ومساحة، وبلادنا تعج بكل أسباب التقدم والغناء. حاليا البنية السياسية العربية لا تسمح بذلك، لكن التغير العالمي حولنا قد يدفعها في هذا الاتجاه. عدم التأقلم مع هذه التغيرات سيؤدي إلى مزيد من الشرذمة ومزيد من الفقر وبالتالي مزيد من الحروب الداخلية والبقاء تحت سيطرة الأقوياء ولمصلحتهم فقط.
أن تفهم الأنظمة العربية ذلك لأخذ القرار السياسي المناسب ولمصلحتها اولا قبل مصلحة شعوبها، هو مشكوك فيه. هل ستتمكن النخب الفكرية القيام بدورها التنويري، هذا ما أشك به أيضا عندما نرى تغييب كل الكفاءات الفكرية إما سجنا وقتلا أو تهجيرا.

معطيات الزمن الجديد

هل ستكون هناك مجموعة عربية اقتصادية كما يحدث حاليا مع هؤلاء الذين استوعبوا معطيات الزمن الجديد، وتمكنوا من أخذ القرار السياسي المناسب مثل دول أمريكا اللاتينية أو التجمع الجديد لدول شرق آسيا حول اليابان، طبعا لا أذكر الصين أو الهند فكل منهما تشكل مجموعة بوحدها.
الاتحاد الأوروبي أثبت أهمية وفعالية هذه التجمعات في إنقاذ اقتصاديات دولها، كما رأينا في مواجهتها لوباء الكورونا ثم الحرب في أوكرانيا.
نحن نودع معادلة عالم العولمة الاقتصادية السهل وندخل معادلة عالم السياسة الإقليمية وقراراته السياسية الصعبة، لم نكن جزءا من الأولى، فهل سنكون غير ذلك في المعادلة المقبلة.

كاتب فلسطيني