في يومها العالمي
دور الفلسفة باضاءة فكر الثورات العربية
د. نزار بدران
يحتفل العالم بالواحد والعشرين من شهر نوفمبر باليوم العالمي للفلسفة، قليلون هم من يهتمون بهذا الحدث والاحتفاء به، خصوصاً بعالمنا العربي، والذي وضع الفلسفة كالبحث العلمي، في مجال الكماليات واللاضروريات. الدول القوية، الغنية، هي من تُكرس أموالاً كثيرة للبحث العلمي، مما يمكنها من البقاء دائماً بالطليعة. نفس الشيء، وإن لم يكن منظوراً كالبحث العلمي ينطبق على الفلسفة، وضرورة الاعتناء بها وتعليمها لكل الأجيال لأهميتها بتطوير الوعي.
الدولة الحديثة والتي وُلدت، مع انطلاق النهضة الأوروبية قبل قرون، ارتبطت عضوياً بموضوع الفكر الإنساني، كمصدر وحيد للمعرفة، والانتهاء تماماً من قرون طويلة، صُبغت بمعتقدات دينية وخرافية، هذا الانتقال لم يكن ممكناً، إلا مع ظهور فلاسفة كبار، أسسوا لعصر الأنوار، بداية بهيوم إلى كانط وهيجل وشوبنهاور وغيرهم.
لإظهار أهمية الفلسفة بوطننا العربي، سأتوقف عن السرد النظري، وسأحاول أن أُظهر للقاريء من خلال أربعة معطيات فلسفية أساسية، الجوانب العملية والحياتية للفلسفة، عن طريق ربطها بالثورات الاجتماعية، الجارية حالياً ببلادنا، أو ما يُسمى بثورات الربيع العربي.
أولى المعطيات وأهمها، هو وحدانية العقل كمصدر للفكر، أي الابتعاد عن اعتماد المعطيات الغيبية الدينية كمرجعية سياسية وأداة حكم. هذه وسيلتنا الوحيدة لإنهاء الخلافات الطائفية، فبخلاف الفكر الإنساني المتغير والمتطور والناظر دوماً إلى المستقبل، لا تقبل المعطيات الدينية أي تبديل، ولا تطرح نفسها للنقد، وإنما فقط للتفسير ناظرة إلى الماضي، فهي بطبيعتها مقدسة، ومصدرها خارج الفكر والعقل الإنساني، فالمسلم أو المسيحي، السني أو الشيعي، لا يحمل قناعات عقلانية، تبناها فكرياً، وإنما صوراً حملها منذ نعومة أظافره، وأصبحت جزء من هوية، وليس جزء من فكر، لا يمكن لأحد أن يُغير دين ومعتقدات أحد آخر بالمناظرة والطرح الفكري، وإلا لرأينا نفس نسب الأديان لمعظم دول العالم، وهذا ليس عليه الحال، فتقريبا 95 بالمئة من سكان الصين، لهم نفس الدين، كذلك الأمر بدول مثل بولندا أو البرازيل، التنوع الديني الموجود بالدول العربية مثلاً قادم من التاريخ، وليس من تغيير الناس لدياناتهم. هذا البُعد الهوياتي للدين، عندما يأخذ بُعداً سياسياً، هو من يُهدد السلم الاجتماعي، ويدفع لنزاعات لا تنتهي، لأن كل طرف يحمل الحقيقة المطلقة، ولا يقبل التنازل عنها، بينما مكان الدين كهوية، هو فقط رفع القيم الإنسانية المشتركة، التي تحملها كل الأديان، كالتآخي والتعاون بين الشعوب والأجناس.
الحراك الثوري اللبناني والعراقي المناوئ للمحاصصة الطائفية كعنوان رئيسي له هو التعبير الأوضح لهذه المعطاة الفلسفية.
المُعطى الثاني المُكمل لذاك، هو التمييز بين أشكال الوعي الذهني، هناك ثلاث مستويات لذلك، الأول هو العلم، وهو يعني دراسة القوانين التي تفسر الطبيعة، ومجالها بامتياز هو البحث العلمي، ذلك البحث المتراكم منذ آلاف السنين، والذي كان صغيراً ببداياته، ولكنه أصبح هائلاً بالحجم والنوع حالياً، وليس له حدود نهائية، هذا البحث يُحدد بنتائجه النقطة الثانية وهي المعرفة، أي الجزء من العلم والذي تم تحديد هويته ومعرفته، قد يفترض العلم وجود كواكب ومجرات عدة، البحث العلمي هو من سيضع هذه النظرية داخل إطار المعرفة. المستوى الأخير هو المُعتقد، بمفهوم ما اكتسبناه بطفولتنا من صور وأفكار ذات صبغة دينية أو تقليدية اجتماعية، هي مُعطيات داخل الذهن الإنساني، قادمة من الماضي وليست نتاج العلم أو البحث العلمي، ولا تدخل لذلك داخل أطر المعرفة وإنما إطار تحديد الهوية والانتماء. محاولات البعض بزج الدين بإطار العلم، عن طريق تفسير بعض الظواهر الطبيعية، أو الاكتشافات العلمية بنصوص دينية، هو شيء يبتعد تماماً عن العلم الحق، وأيضاً عن الدين، والذي لم يُحمل نفسه هذه المسؤولية.
المُعطى الثالث الفلسفي، هو تعريف الهوية الإنسانية، باستقلالية الفكر، أو ما أُطلق عليه “الحاكمية”، وهو يعني أن ما يميز الإنسان هو الحُكم على الأشياء بشكل مستقل، أي الابتعاد عن الفكر الجاهز المفروض والذي يرفض النقاش. احتكار طبقة أو سلطة تحديد ماهية النظام الاجتماعي أو ما يجب أن يفكر به الناس يتنافى مع هذه المعطاة الفلسفية. الحكم الشمولي أو الديكتاتوري يصادر حق الناس الطبيعي بوضع قوانينهم وتنظيم أمور حياتهم.
الحضارة الإنسانية الحديثة بنيت على الأسس الديمقراطية بمفهوم استعادة الناس لحقهم باستقلالية الفكر، ويتساوى كافة الناس بهذا الحق، وهو ما يعبر عنه عن طريق الانتخابات والتمثيل البرلماني، الاغلبية بهذه الحالة تمثل ما يمكن تسميته بالعقل الجماعي أو حكم الأغلبية.
مطالبة الجماهير المتظاهرة والثائرة بالدول العربيه بإسقاط الأنظمة الاستبدادية واستبدالها بأنظمة منتخبة مدنية هو التعبير الأفضل لهذه المعطاة الفلسفية.
كان ابن رشد وهو فيلسوف مسلم من الأندلس قد دافع عن استقلالية الفكر واولوية العقل قبل الفلاسفة الأوروبيين بعدة قرون، ولكن لم يسمعه بزمانه غلاة الدين والمتسلطين على الحكم، ولكن كتاباته وترجمته المميزة لفكر أرسطو أبو الفلسفة اليونانية وتعليقاته عليها هي التي ألهمت الفكر الغربي فيما بعد.
المُعطى الرابع والأخير، الذي أريد ذكره، هو أن الفلسفة وضعت الإنسان بمكان المركز، وكما يقول إيمانويل كانط، بالقرن الثامن عشر، فإن الإنسان هو هدف بذاته، ولا يمكن أن يُستعمل كوسيلة، الإنسان هو الهدف النهائي لكل جهد وعمل إنساني. وهو ما يتناقض عملياً مع الواقع العربي، حيث لا نرى بالمواطن إلا وسيلة للنهب والسرقة، ولا توضع سياسات لصالحه، وإنما لصالح المجموعة المُتمسكة بالسلطة.
ولدلالة على هذه المقولة الفلسفية نعطي مثال استخدام الجاليات المهاجرة بالدول العربية كوسيلة ضغط او انتقام نظام من آخر ، فالجالية الفلسطينية بالكويت او السعوديه كانت ضحية الموقف المنسوب لياسر عرفات زمن الحرب العراقية واحتلال الكويت حيث طرد معظم الفلسطينيين. كذلك وضع نفس هذه الجالية بليبيا زمن القذافي . يمكن أن نرى ذلك للأسف بالخلافات بين فتح وحماس وما يتبعة من مضايقات من هذه السلطة أو تلك للموظفين من قطع رواتب أو تحديد حريات عامة.
النظام المصري كغيرة من الأنظمة القهرية لا يتوانى عن اعتقال أبناء او اقارب معارضيه كانتقام وتخويف. استعمال داعش للنساء وحتى الاطفال لتنفيذ هجمات انتحارية هو أكثر الأشكال وضوحا لتحويل الإنسان من هدف للعمل والجهد إلى مجرد قنبلة تفجر متى يريد الزعيم. خارج الدول العربية نرى مثلا إستخدام تركيا للاجئين السوريين وغيرهم كورقة ضغط على بعض الدول الأوروبية من ناحية منعهم من السفر او التهديد بفتح الحدود أمامهم للذهاب إلى أوروبا الغربية.
عدم احترام مركزية الإنسان هو إنهاء لانسانيته. مطالب الثوار بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هو ترجمة أمينة لهذه المقولة الفلسفية.
ثورات الربيع العربي، تُظهر أن المفاهيم الفلسفية العريقة، والتي بُنيت عليها الحضارة الغربية الحديثة، وكل الأمم الديمقراطية بالعالم هي نفسها التي تحرك الناس بالشوارع والساحات، دافعة باتجاه بناء الدولة الحديثة، والتي تضع الإنسان المواطن، بالمركز كهدف لكل سياساتها وجهدها، وتحمي حقه بالحرية، واستقلالية الفكر، عن طريق الانتخابات وغيره من الوسائل، وتؤمن له السلم الاجتماعي، عن طريق نبذ الطائفية والقوالب الفكرية، التي تتنافى مع المفهوم الفلسفي لحرية الفكر المستقل “الحاكمية”.
تعليم الفلسفة بالمدارس، باعتبارها مادة مهمة لنتعلم كيف نتعلم وكيف ننقد، وتطوير البحث الفلسفي العربي، بناءً على تاريخنا الطويل، والانفتاح على المقولات الفلسفية للشعوب الأخرى، وكلها متقاربة ومتساوية، يحمل بنظري نفس الأهمية التي يحملها البحث العلمي، فلا علم ممكن بدون وعي وفكر متطور.
كاتب و محلل سياسي