مصادر شرعية السلطة بين الأمس واليوم نزار بدران

مصادر شرعية السلطة بين الأمس واليوم

نزار بدران

 

تغيرت مصادر الشرعية للسلطة على مر الزمن، وما زالت أشكالها تتعايش حتى اللحظة بين القديم والحديث، وهو ما يُميز الدول عن بعضها البعض، بالنسبة لمفهوم العلاقة بين السلطة والشعب المحكوم.

يمكن اعتبار المفكر والعلامة الإسلامي، ابن خلدون (1332-1406)، مؤسس علم الاجتماع، أول من وصف هذه العلاقة، عندما درس تاريخ الدول والإمبراطوريات، بما فيها الدولة الإسلامية، واستنتج أن المُستولي على الحكم، هو بالأساس غريب عن الشعب أو الشعوب المحكومة، ويظهر ذلك حتى من لغته، وفي بعض الأحيان من لون جلده، كما كان ذلك زمن المماليك، الذين حكموا مصر ووصلوا بلاد الشام وشمال افريقيا والشرق الادنى ( 1250 – 1517).

منذ وُجدت السلطات والدول، وحتى القرن الثامن عشر، كان يمكن التمييز بين نوعين من الشرعية، الأولى هي الشرعية الغيبيةالمستندة بشكل عام إلى الدين أو المُعتقدات الدينية، والثانية هي شرعية القوة، استنادا إلى أصحاب السلاح والعصبية، كما يقول ابن خلدون، الذين يحكمون الجمهور المُسالم غير المُسلح، والعامل المُنتج، والفلاحين ومجموع الموظفين والعاملين في القطاع العام والخاص، حيث يجري التعامل معهم كقطيع ضريبي ليس إلا.

الثروة في تلك الأزمان، كانت هي الإنسان أساساً، فالمناطق العديدة التي تكتظ بالسكان، مثل بلاد ما بين النهرين ومصر، كانت محط أطماع كافة العصبيات والسلطات الناشئة، من سَيطر عليها بُنيت حضارته، ومن يفقدها يفقد مصدر ثروته وغناه. فُقدان الإمبراطورية الرومانية لمنطقة الشرق، يُعتبر أحد أسباب انهيارها، ووصول الفتوحات الإسلامية لتلك المناطق، هو أحد أسباب عظمتها، وفُقدانها فيما بعد أدى إلى انهيارها.

قد تتعايش شرعية السلطة الدينية مع شرعية سلطة القوة، وفي كثير من الأحيان تختلطان وتمتزجان سوية، كما حدث عندما كان خليفة بغداد يملك ولا يحكم، والسلطة الحقيقية بيد أحد السلاطين السلاجقة (الدولة السلجوقية ما بين 1037-1157) أو غيرهم. القاسم العام لهذه الفترة الطويلة، هو غياب أي مصدر للشرعية استنادا إلى الناس المحكومين، الذين لم يكن يُنظر إليهم إلا كوسيلة إنتاج بشكل أساسي.

كانت هذه الوضعية مُسيطرة على العالم أجمع، من الصين إلى أوروبا، مروراً بالدولة الإسلامية. نظرية ابن خلدون المعروضة بمؤلفه الشهير مقدمة ابن خلدون، والتي قدمت لكتابه كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبرلعام 1377، كانت نظرية صحيحة وتحليل صائب لهذه الأوضاع. الاطلاع على هذا الفكر المبدع في القرن الرابع عشر، وجب أن يكون وفق مناهج كل الراغبين بالتعلم والتعليم.

استمر تحليل ابن خلدون صائباً بشكل عام، في توصيف الامم حتى بداية العصر الحديث، والذي بدأ مع نهوض الحضارة الغربية، وبدء الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ببريطانيا أولاُ، حيث اسست لها الثورة ألعلمية، ثم الثورة الاجتماعية والسياسية التي تبعتها في فرنسا. انتقل بعدها العنصر المؤسس للإنتاج، أي مصدر الحضارة والغنى، من الإنسان وحده إلى الإنسان صاحب الآلة المُنتجة، والتي أدت إلى مضاعفة هذا الإنتاج عدة مرات، وبذا أصبحت الآلة والمواد الخام المُشغلة لها، هي مصدر الثروة والغنى والحضارة، وهو ما نقل مركز ثقل العالم من الصين والشرق الإسلامي إلى أوروبا.

تزامن ذلك مع انتقال الشرعية، من المصادر الدينية أو العصبيات المسلحة (الفاتيكان أو الملوك والإقطاعيين) إلى الشعب ممثلاً بالثورة الفرنسية، والتي كانت رائدة وطليعة بناء دولة المواطنة وحقوق الإنسان، واضعة اللوائح المُؤسسة لها. لينتشر هذا النظام فيما بعد بكل أوروبا، وأصبح هو الشكل الثالث الجديد لشرعية السلطة.

تزامن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع انتقال الحضارة ومعاييرها من الشرق الأقصى (الصين) والأدنى (المنطقة الإسلامية) إلى أوروبا، بمفهوم بناء دول تستمد شرعيتها من شعوبها، عن طريق الانتخابات، وتعيد ترتيب علاقاتها الاجتماعية على اساس الحرية الفردية. هذا النظام الجديد كان محط أنظار المفكرين المسلمين، ومسؤولي الدولة العثمانية، وهو ما ساهم بوضع قوانين مدنية في نهاياتها، خصوصاً زمن السلطان عبد الحميد الثاني. كذلك كان ذلك مصدر تفكير، لإصلاحيين إسلاميين مشهورين، أمثال الشيخ محمد عبدو والشيخ جمال الدين الأفغاني، اللذان اختارا باريس لإصدار صحيفتهما الإصلاحية العروة الوثقى“. كذلك إصلاحيون آخرون، خصوصاً في شمال أفريقيا، أمثال الوزير خير الدين (أول دستور لدولة مسلمة وُضع بتونس عام 1861). والنقاشات التي كانت دائرة بباريس بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت تُنقل أيضاً إلى مصر والشرق العربي، عن طريق الشيخين عبدو والأفغاني وتلاميذهما، وكان النقاش أيضاً محتدماً، كما بفرنسا، بين المدافعين عن العلمانية والفصل بين الدين والدولة، والداعين لنظام إسلامي حداثي يتفق مع العصر.

أنتهى كل ذلك، بعد وفاة الشيخ محمد عبدو في عام 1905، وبدء الحملات الاستعمارية الغربية، الفرنسية والبريطانية، على مصر وشمال أفريقيا وغيرها. هذه الحملات التي كانت تهدف للحصول على مصادر المواد الخام، الضرورية لتشغيل آلات الدول الصناعية الناشئة بأوروبا. هذه كانت سمة العصر، حيث لم تعد السيطرة على مصادر الكثافة السكانية، هو هدف الحروب وإنشاء الإمبراطوريات، وإنما السيطرة على مصادر الثروات الطبيعية وتأمين طرق وصولها إلى أوروبا.

التأثر بالحداثة الأوروبية، والحضارة الجديدة التي قامت على احترام حق المواطن، وأولويته كمصدر للشرعية، بدل القوة العصبية أو الدين، انتهت مع الحملة الغربية، والتي أدت إلى تأجيج الحراك الوطني التحرري ضد ألاستعمار، وتأكيد المعايير الدينية لتثبيت الهوية الإسلامية أولاً، ثم المعايير القومية لتأكيد عروبة الشعوب في مرحلة لاحقة.

لم يعد بالإمكان في ظل هذا التناقض العنيف مع الغرب، أن يسمع أي صوت لنشأة دولة جديدة مبنية على المبادئ التي حملتها الثورة الفرنسية والغرب عامة، وهذا ما أنهى أي فكر حداثي او إصلاحي من قبيل ما كانت تنشره صحيفة العروة الوثقى، وأدخلنا فيما بعد إلى زمن الديكتاتوريات العسكرية القومية المُعلنة عدائها لكل ما هو غربي، بما في ذلك مفهوم الحرية الاجتماعية.

وضعنا الحالي، هو نتاج الماضي، كما حلله ابن خلدون، وشرعية حكامنا ما زالت تأخذ إما بمبدأ الشرعية الغيبيةالمستند مباشرة إلى النصوص الدينية (إيران، السعودية، المغرب…..الخ) أو شرعية العصبيات والعسكر، كما هو الحال في مصر أو سوريا. الشرعية التي مصدرها الشعب تكاد لا توجد، وإن وُجدت يُقضى عليها أو يحاول الآخرون إنهاءها، حتى لا تصبح مثالاً. قد تُستبدل شرعية المواطنة في بعض المناطق، بشرعية القبيلة أو العائلة أو الطائفة، وهي بالحقيقة عودة إلى الشرعية الدينيةومشتقاتها.

الآن وقد دحرت الدول الوطنية الاستعمار، الذي خرج من مصر وسوريا والعراق والجزائر وباقي الدول العربية (باستثناء فلسطين)، لم يعد بالإمكان الاستمرار، بالدفاع عن النظام الذي وصفه ابن خلدون قبل ستة قرون، وعدم اللحاق بموكب الأنظمة السياسية الحديثة التي حلت محلها منذ حوالي قرنين, والتي هي الوسيلة الوحيدة للحصول على الحرية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي.

هزيمة اليابان بالحرب العالمية الثانية، وقصفها من طرف أمريكا بقنبلتين ذريتين، لم يمنعها بعد ذلك من إنهاء حكم الامبراطور، والانتقال إلى الحكم الديمقراطي، مع أنه كان نظام عدوها اللدود. وانهيار حكم بينوشيه بتشيلي، الذي جاء بانقلاب عسكري مدعوما من الغرب وتحديدا الولايات المتحدة، والشركات المتعددة الجنسية، لم يمنع هذه الدولة من اعتماد النظام الديمقراطي، وشرعية الشعب بدل شرعية العسكر، كذلك الأمر بالبرازيل والأرجنتين وجنوب أفريقيا الحرة، بعد أن هزم مانديلا نظام التمييز العنصري الغربي.

في بلادنا الآن، لا يفيدنا بشيء الاستمرار برفع راية العداء للغرب كأولوية مطلقة، بينما مئات الآلاف يهربون ويموتون من أجل الوصول إلى أوروبا، وإنما الذهاب نحو الاستناد للشرعية القادمة من الشعب، بدل تلك القادمة من الغيب والعسكر، والعمل لتغيير أوضاعنا وعدم القبول بمصادرة حرياتنا العامة والخاصة وحقوقنا، تحت رايات مزيفة من العداء للغرب والاستعمار ورفع رايات الممانعة، على ما هو حال النظامين الحاكمين في كل من إيران وسوريا.

إن البدء بترتيب الأولويات في النظر إلى التناقضات، لصالح البدء بالبيت العربي الداخلي، هي أساس لحاقنا بالعالم الجديد ودخولنا فيه، وإلا فسنبقى وحدنا نبكي حظنا العاثر، ونعيش في كنف نظرية ابن خلدون التي عفا عليها الزمن.

النظام العربي أسباب هشاشته بين الزبائنية والفساد نزار بدران

النظام العربي أسباب هشاشته بين الزبائنية والفساد

نزار بدران

نرى ونقرأ يوميا من يكتب أو يضع على صفحته الإلكترونية استغراب المواطنين من التناقض الهائل بين إمكانيات الأمة الاقتصادية والإنسانية من جهة ونقص رفاهية المواطن العربي وأمنه وقلة حاله من جهة أخرى، وهو ما يؤدي غالبا الى مطالبة المسؤولين بالدولة بالتحلي بالنزاهة والابتعاد عن الفساد والعمل الدؤوب لخدمة المواطن. ولكن هذه المناشدات لم تؤدى إلى شيء إلا إلى مزيد من إهدار حقوق الناس.
هل الزعماء والمسؤلون العرب طرش بكم لا يريدون الاستماع، وهل تغيير الأمور يعتمد فقط على إرادتهم وإستماعهم لهموم المواطن ؟
الحقيقة أن الأزمة ليست عند الرئيس أو الوزير أو مدير المؤسسة أو مسؤول معين، ولكنها بداخل البنية التركيبية للدولة العربيه الحديثة والتي أتت بعد التخلص من الاستعمار والحصول على الاستقلال.
بنيت الدولة العربية على أسس أربعة وهي الزبائنية السياسية بشقيها الداخلي والخارجي، الفساد الاقتصادي والنهب الممنهج ، ضعف المؤسسات وتبعيتها وتبني السلطة لمفهوم الشرعية الذاتية.
هذه السيم هي ما يميز الدولة العربية بعد الاستقلال ويفسر أيضا فشلها، وهو ما أدى الى الخلط بين السلطة والدولة، وبين الدولة والملك الخاص، وتجيير مؤسسات الدولة لمصلحة النظام فقط وفي معظم الاحيان لأشخاص النظام وعائلاتهم وأقاربهم أو في أحيان أخرى لقبائلهم وطوائفهم . السلطة ليست بخدمة الدولة ومؤسساتها لتحقيق مصالح المواطن وإنما المواطن ومؤسسات الدولة لخدمة السلطة وأصحابها وتأمين امتيازاتهم.

الشرعية
في الدولة الحديثة الديمقراطية والتي انتشرت بشكل واسع بكل بقاع الأرض باستثناء دول العرب، منطلقة من أوروبا العتيقة الى آسيا وأمريكا اللاتينية، أو أفريقيا السوداء وشرق أوروبا منذ انتهاء الحقبة السوفيتية، تستمد السلطة شرعيتها من الشعب عن طريق الإنتخابات الحرة الديمقراطية التعددية المراقبة بعد حملات متوازنة للتنافس بين الأحزاب برعاية الدستور وهيئات مستقلة عن السلطة.
في بلاد العرب عامة ما زال مصدر الشرعية هو السلطة نفسها والتي تشرعن لنفسها حق البقاء والاستمرار متلحفة بشرعيات لا تمت بصلة للدولة الحديثة بل مرتبطة بالماضي وخاصة الشرعية الغيبية المرتبطة بالدين أو الشرعية الوراثية بالمملكات أو جمهوريات التوريث ، هذا النظام الذي ساد بالعالم قبل ميلاد القوميات والدولة الحديثة كما حلله عالم الإجتماع الفرنسي بيير بورديو بوصفه للاقطاع حيث يختلط العام بالخاص والملك بالملكية ويتعامل الملك مع الناس من منطلق عمال المزرعة. ولدت الدولة الحديثة بعد إنهيار النظام الإقطاعي أو ما يسمى نظام السلاله المالكة او ديناستي عن طريق خلق مؤسسات للدولة مستقلة عن السلطة والفصل التام بالسياسة بين الخاص والعام.
عندنا لحد الآن نحن بنظام قبلي لا علاقة له بالدولة الحديثة إلا شكليا، الجيش بمصر مثلا هو مصدر الشرعية، العائلة المالكة هي مصدر الشرعية بدول كالسعودية والمغرب، القبيلة هي مصدر الشرعية بنظام البعث بسوريا المرتكز على الطائفة العلوية ضد أغلبية الشعب السوري.
قد تجري بهذه الدول انتخابات ولكن حتى ولو كانت حرة ومراقبة فإنها لا تهدف إلى اختيار السلطة الحاكمة وإنما إلى اختيار وسائط بين الشعب والسلطة، الشعب بهذه الانتخابات لا يصل الى السلطة مطلقا ولا ينتخبها، البرلمانات العربية في أحسن الأحوال هي غرف تسجيل، النائب العربى في الدولة العربية حتى ولو كان منتخبا يقوم فقط بدور الوسيط بين عائلته أو قبيلته والسلطة للحصول على بعض المصالح وتحقيق بعض الطلبات. في هذا النوع من الانتخابات يضطر المواطن أن يختار ممثلا من عائلته أو قبيلته أو عشيرته للعب دور الوسيط لدى السلطة، وهو ما يكرس المفهوم القبلي والطائفي بدل تجاوزه ، كما نرى مثلا بلبنان.
انتخاب الوسيط لدى السلطة حتى ولو كان حرا هو إضرارا بالديمقراطية والتلاحم الشعبي ووحدة الأمة. هناك فرق عند المواطن بين اختيار من سيتوسط له عند النافذين وأصحاب القرار وبين انتخاب أصحاب القرار أنفسهم. انتخب الشعب المغربي حكومته والشعب الإيراني رئيسه ولكنهما في كلا الحالتين لم ينتخبا صاحب القرار والمستولي على الشرعية الحاكمة الحقيقية والتي هي بيد المخزن من جهة وبيد الولي الفقيه من جهة ثانيه.

الزبائنية السياسية
تبني السلطة الفاقدة للشرعية الحقيقية النابعة من الشعب علاقاتها مع المجتمع على مبدأ الزبائنية السياسية الداخلية، المرتبطة عضويا بالفساد المالي والذي هو السمة المكملة لها حتى ولو اختلف عنها بالمفهوم.
الزبائنية السياسية كما درسها أستاذ السياسة الأمريكي جيمس سكوت والمختص بالدراسات الإجتماعية الفرنسي جان فرانسوا ميدار هي العلاقة ألغير متكافئة بالقدرات والمركز بين طرفين، يستعملها الطرف القوي المعطي اي المسؤول السياسي لشراء ذمم الناس مقابل خدمات إجتماعية قد تكون حقوق أصلا أو تجاوزا للحقوق. هذا يعني الخلط التام بين المنصب السياسي ومصلحة الشخص الذي يحتل هذا المنصب، فهو يقدم الخدمات الاجتماعية مقابل الولاء واصوات الناخبين، فالصحة مثلا هي هبة من القائد تعطى بمكرمات وليس حقا مضمونا بالدستور.
الامتيازات الإقتصادية تعطى للمقربين والنافذين بالمجتمع لضمان ولائهم وفي فترة الإنتخابات أصواتهم، وهكذا بكل المجالات، التعليم والتسجيل بالجامعة أو الحصول على عمل وغيره.
لا يوجد بالنظام الزبائني السياسي مؤسسات فاعلة للدولة فوزارة الصحة أو التعليم أو العمل لا تستطيع تجاوز هذا النظام ولا تستطيع تقديم أي خدمة للمواطن كحق له رغم ادعاء العكس.
مقابل الزبائنية الداخلية توجد هناك زبائنية خارجية تنظم العلاقة الفاسدة بين السلطة والقوى الخارجية الحامية لها، مقابل حماية ودعم الطرف الخارجي تؤمن السلطة خدمات مثل تسهيل الإستثمار لهذه الدول أو إتخاذ مواقف سياسة تناسبها كما نرى حاليا مثلا بين بعض دول الخليج أو مصر وأمريكا وإسرائيل. الطرف القوي بهذه المعادلة هو الطرف الأجنبي والطرف الضعيف متلقي خدمة الحماية هو السلطة وذلك بعكس الزبائنية الداخلية.

الفساد الإقتصادي
الفساد المالي والاقتصادي يختلف عن الزبائنية السياسية ولكنه مرتبط بها بشكل وثيق، وله نوعان الفساد الاصغر وهو يعني بهذه الحالة الرشوة العينية التي تقدم للمسؤول السياسي لإعطاء موافقته على مشروع أو تمرير تشريع. صاحب النفوذ الاقتصادي من رجال الأعمال الأغنياء عرب أو أجانب يشتري بهذه الحالة التشريع الذي سيسمح له بعمل ما يشاء من خصخصة المال العام أو الحصول على إمتيازات تمنع المنافسة الحرة والتي تؤدي الى زيادة الأسعار وتقليل الجودة وسرقة المواطن والأضرار بالاقتصاد الوطني لصالح مجموعة نافذة.
النوع الثاني هو الفساد الأكبر المرتبط ببنية الدولة والنظام منذ نشأة الدولة وحتى بمرحلة التحرر الوطني التي سبقته وهو ذا علاقة باستيلاء مجموعة تمتهن العنف للسلطة، هذا النوع من السلطة حول بعد سنوات الدولة الرأسمالية ألتي تبعت الإستقلال إلى دولة مافوية حيث يستولي المقربون والاقرباء على ثروات الأمة بقرار سياسي.
لا يستعمل الفساد فقط في الدول الريعية مثلا للحفاظ على السلم الإجتماعي وإبعاد شبح الاحتجاجات الجماهيرية وإبعاد العنف ضد السلطة ، وإنما على العكس تماما الشكل الأكبر للفساد لا يترعرع إلا بإطار العنف ، القائمون على السلطة وهم في معظم الدول العربية من العسكر يقومون بايقاد العنف المفرط حتى ترتفع كلفة أي احتجاج ضد التحول الإقتصادي المافوي، كاتما أي صوت منتقد.
يحلل المؤرخ الجزائري محمد همشاوي الفساد بالجزائر بفترة التسعينات والحرب على الإرهاب وكيف توازى ذلك مع خصخصة الإقتصاد لصالح رجال الاعمال،
نفس الشيئ نجده بمصر بنفس الفترة وبنفس الغطاء زمن حسني مبارك . الحزب الواحد ليس بهذه الدول إلا غطاء شكلي للطغمة العسكرية الحاكمة .
ظاهرة إستعمال العنف لتمرير الفساد واستيلاء أشخاص مقربون على إقتصاد البلد هي ظاهرة عالمية أيضا ، رأيناها بالتشيلي زمن بنوشي أو روسيا السين وبعده بوتين.
في الفساد الأكبر السياسة هي من تعطي وتأخذ وليس التطور الطبيعى للحركة الإقتصادية.
العنف إذا هو الوسيلة عند هذه الأنظمة لتحقيق الأرباح والاستيلاء على المقدرات بدون معارضة تحت شعار الحرب على الإرهاب الإسلامي بالدول الإسلامية أو الشيوعية بالتشيلي أو الفاشية بروسيا.
أسماء مثل عبد المؤمن خليفة وأحمد عز ورامي مخلوف هي فقط الشجرة التي نراها وتحجب غابة الفساد.
لا تستطيع هذه الأنظمة حتى بالدول الغنية السير نحو انفتاح اقتصادي كما حدث بكوريا الجنوبية أو سنغافورة بسبب انها وضعت نفسها بقفص فولاذي منذ البدء، فالانفتاح على المجتمع المدني يعني زوالها ومحاكمتها بعد حين. ألا أن خيارها الآخر بالانغلاق والتقوقع يفتح الباب أمام الانقلابات داخل الطغمة العسكرية نفسها، هي اذا دائما بين نارين.

دولة اللامؤسسات
السمة الأخيرة للدولة العربية هي سمة جامعة تفسر ما سبق ذكره. هزال النظام المؤسساتي العربي هو سبب ونتيجة لغياب الدولة بعد سيطرة الطغم الحاكمة أو الأحزاب عليها وتجيرها لصالحهم.
مفهوم الدولة حسب النظرية المؤسسة لها للفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو في كتابه روح القوانين عام 1748 هي حماية المواطن من الانفراد بالسلطة والابتعاد عن العنف الطبيعي الذي كان سائدا بمفهوم الكل ضد الكل الى تقنين العلاقات داخل المجتمع لصالح الجميع. لذلك وضع مونيتسكيو مبدأ دولة المؤسسات والفصل التام بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
نرى أن المشكلة العربية هي في غياب الفصل بين السلطات، فالتشريع والقضاء وكل مظاهر الدولة هي تحت تصرف السلطة التنفيذية، كذلك تجير وسائل الدولة والمجتمع مثل الصحافة والديبلوماسية والجيش والبوليس والمحاكم لتنفيذ رغباتها.
القانون بالدولة الديمقراطية المؤسساتية يعاقب الفاسد بينما نفس القانون بالدولة الديكتاتورية يحميه.
ضعف دولة المؤسسات يؤدي أيضا الى توغل الأحزاب وسيطرتهم عليها والخلط بين الدولة والسلطة لصالح الاخيرة، وهذا ما نراه مع الزعماء الأقوياء الذين ينقلون مؤسسة ومركز السلطة معهم عندما يغيرون منصبهم، هذا ما حدث بروسيا بلعبة الكراسي الموسيقية بين بوتين ومدفيدف وأيضا مع اوردجان بتركيا حسب موقعة في زمنه بين سلطة رئيس الوزراء وسلطة الرئيس. يحدث العكس بالضبط بدول المؤسسات القوية ، فقد تعزل المؤسسة عند الحاجة الرئيس وتحاكمه كما رأينا منذ أشهر بالبرازيل أو كوريا الجنوبية.
وقد حدى تسلط الأحزاب على السلطة حتى بدوله عريقة بالديمقراطية كفرنسا الرئيس الأسبق شارل ديجول لإرساء الجمهورية الخامسة لإنهاء ما كان يسمى زمنه حكم الأحزاب عام 1958.
الدولة العربية تفتقر للحد الأدنى من استقلالية المؤسسات وهذا مرتبط ببنية هذه الدولة منذ الاستقلال حيث حكم الطغمة واستئثارها بالسلطة لا يتوافق مع وجود مؤسسات مستقلة تعمل وتراقب السلطة.
وخلاصة القول أن تطور وتوسع الطبقة الوسطى بالمجتمعات العربية وانفتاحها على العالم لا يتناسب مع تقوقع الأنظمة وتمترسها، خصوصا مع ازدياد رفض الشعوب للفساد والتغييب بكل القارات كما رأينا حديثا بانتخابات المكسيك.
الانفتاح على المجتمع المدني هو بنظري أنجع الوسائل لأبعاد خطر العنف والدمار الذي نراه بدول عربية عدة ، وهو أيضا وسيلتنا لبناء السلم الإجتماعي والبدء بعملية ترميم المهدم وبناء مستقبل الأمة.