غورباتشوف ووهم التغيير

غورباتشوف ووهم التغيير

د. نزار بدران. القدس العربي 04/09/2022

أثار موت أول وآخر رئيس سوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، تعليقات عديدة في الصحافة العالمية وفي الأوساط السياسة. فهذا الرجل، كان وبجدارة، رجل القرن العشرين. وما زالت سنوات حكمه الستة، من عام 1985 إلى عام 1991، حيث استقال علناً أمام جماهير الشعوب السوفيتية، ومن على شاشة التلفزيون، بعد أن رفض البرلمان، إصلاحاته الليبرالية الهادفة لربط اقتصاد الاتحاد السوفيتي المُتهالك مع الاقتصاد العالمي. ما زالت تلك الفترة تُلقي بظلالها على مناطق كثيرة في العالم، وآخرها الحرب الحالية في أوكرانيا. لكن هذه السنوات العِجاف، بالنسبة للروس، حيث ازداد الوضع الاقتصادي تدهوراً، بدل أن يتحسن، مع سياسات البريسترويكا، أي إعادة البناء، لم تكن كذلك بالنسبة لباقي دول الاتحاد السوفيتي سابقاً، فكل دول أوروبا الشرقية، عندما تم رفع الغطاء السوفيتي عن قادتها الشيوعيين المُستبدين، انتقلت وبشكل سريع إلى الأنظمة الديمقراطية، والتحقت في معظمها بالاتحاد الأوروبي، وحتى بحلف شمال الأطلسي. أكبر رمز على هذا التغيير الهائل، هو انهيار حائط برلين، عام 1989، والذي كان يرمز للحرب الباردة وتمزق القارة الأوروبية. انتقلت ألمانيا الشرقية لحضن ألمانيا الغربية، وتدريجياً انتقلت باقي الدول، إلى حضن الاتحاد الأوروبي مع ما يُمثل ذلك بالنسبة لشعوبها من نعمة اقتصادية وحرية مُستَعادة. 

في المقابل، لم يستفد المواطن الروسي من أي شيء، لا على المستوى الاقتصادي، والذي زاد سوءا، ولا على المستوى السياسي أو الفساد ولا على المستوى الرمزي مع انهيار إمبراطورية كانوا هم عمدتها. تدريجياً وبسبب ذلك، ورغم الدعم الشعبي في بدايات السنوات الست، إلا أن الأمور عادت إلى أشبه ما كانت عليه زمن السوفيت، خصوصاً بعد وصول الرئيس بوتين خلفاً للرئيس يلتسن المُثير للجدل، الذي أنهى حرية الصحافة، وكافة الحريات المدنية الأخرى، بعد أن كانت في أوجها زمن غورباتشوف، وأغلق وعطل كافة المؤسسات المدنية، مثل جمعيات حقوق الإنسان. أُغلقت أيضاً جميع الأبواب أمام المعارضة، ولم يعُد يُسمَع إلا صوت الرئيس وجوقته الدعائية. الآن وبعد فترة بضعة سنوات من التحسن الاقتصادي، بسبب انفتاح الأسواق الغربية، أمام الغاز والنفط الروسي، نرى غرق روسيا في مستنقع أوكرانيا، والذي لن ينتج عنه إلا الأسوء بالنسبة للروس، وهو خطر تفكك الاتحاد الروسي.

لم يستطع الرئيس غورباتشوف، رغم حسن نيته، في إخراج الاتحاد السوفيتي من محنته الاقتصادية الطاحنة، التي كان يعيشها في منتصف الثمانينات، رغم إنهائه الحرب في أفغانستان عام 1988. لم تستطع إصلاحاته الليبرالية وانفتاحه على الغرب وإنهاء الحرب الباردة، من تعديل هذا الوضع. المصاعب لم تكن قليلة؛ في الداخل هناك تلك الطبقة الموغلة في الفساد والمستفيدة من حكم الحزب الشيوعي منذ سنوات طويلة، لم يكن لها أية مصلحة بالانتقال إلى الديمقراطية والحكم الرشيد، مع ما يعني ذلك من مكافحة سرقة المال العام. كما أنه لم يستطع تحقيق ما كان يُخطط له من الحد من الإنفاق العسكري، وتحويل الميزانية إلى الإنتاج لصالح المواطن، بسبب قوة المُمسكين بهذه الصناعة والمستفيدين منها. من ناحية أخرى لم يكن بالإمكان طلب الدعم من الدول الغربية، ألمانيا مثلا كانت في أوج مرحلة التوحيد (بين شرقها وغربها) ولم يكن المستشار كول، على استعداد أو مقدرة لمد يد العون. رفض أيضاً الرئيس الأمريكي ريغان، دعم غورباتشوف اقتصادياً ومادياً، بسبب تفكك البُنية الاقتصادية للدولة، وكما قال، لم يكن ليضع مليارات الدولارات في بئر بدون قاع. كانت الصين في ذلك الوقت، بزعامة دنج كزاو بنج، في موقف معاد لغورباتشوف، خصوصاً أنه دعم الحركة الديمقراطية فيها، بعد مذابح ساحة تيننمن في بكين، عام 1989، كما أن نموذجه بالإصلاح السياسي، لا يتناسب أبداً مع أهداف وتطلعات الحزب الشيوعي الصيني، الذي لم يكن يركز إلا على الاقتصاد.

رفض الشعب الروسي لسياساته الاقتصادية وخذلان الغرب له، كتب على هذا الرجل الفشل في بلاده نفسها، بينما نجحت سياساته في الدول الأخرى التابعة سابقاً للاتحاد السوفيتي. 

هل من درس للعرب وشعوب الأرض في ذلك؟. بالنسبة لي فالشيء الذي أستخلصه، هو أن التغيير السياسي لا يمكن أن يأتي بدون إرادة شعبية، تكون هي مصدره وموجهته، الإصلاح من داخل القصر لا يقلب الأوضاع، على الأكثر قد يُصلح بعض الشيء، لكنه في النهاية يصبح مضراً. التغيير لا يمكن أن يأتي إلا من القاعدة. دون ثورات عميقة، تُنهي النظام السابق بكل أعمدته، لا يمكن بناء شيء ثابت. هذا ما تعلمناه من ثورة قصر غورباتشوف، وصوله للسلطة، كرئيس المكتب السياسي للحزب الشيوعي، لم يغير شيئاً في هيكلة السلطة السوفيتية المُتحجرة، والتي في النهاية أزالته. أن ما حمله هذا الرجل، للأسف وحَلُم به، هو حلم كل مواطن في روسيا وفي العالم، الحرية والديمقراطية والرفاهية والسلام. كل ذلك لن يتحقق في دولنا العربية، إن انتظرنا المسيح المنقذ، فلا إصلاحات النظام الطائفي في لبنان، ستُجدي نفعاً، ولا تلك التي يقوم بها أمير المملكة السعودية، أو الحكم الانفرادي الحالي في تونس. 

على شعوبنا أن تستعيد حقها الطبيعي، بأن تكون هي مصدر العمل والفعل السياسي، ومن يُحدد ما يجب فعله، ومن يُمثلها لتحقيقه وإعطاءه سلطة مراقبة. وحدها الشعوب، عن طريق الثورات، من يُزيل كل العقبات والصعاب للنجاح.

وما فشل الرئيس غورباتشوف، إلا بسبب نسيانه لتلك المعادلة البديهية البسيطة، لكنه أيضاً لم يكن من موقعه، في قلب السلطة، ليستطيع القيام بثورة، فأعداءه هم بنفس الوقت أصدقاءه، كانوا محيطين به داخل قصر الكرملين، أو كانوا في عواصم الدول الغربية، والذين لم يكن يهمهم إلا الانتصار في الحرب الباردة، وإبعاد الخطر السوفيتي، ودحر الشيوعية.