تاريخ العراق الحديث: درس لروسيا

8 – يونيو – 2023

 د. نزار بدران

تزداد هجمات الجيش الأوكراني على الداخل الروسي مظهرة هشاشة هذا الأخير، خصوصا إنهاكه في حرب لم يكن يظنها ستطول. بالمقابل تزداد عدة وعتاد الجيش الأوكراني والذي يتمتع بصفة أساسية لا يملكها الطرف الآخر وهي الدفاع عن أرضه وسيادته.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أدخل بلاده في دوامة لا يمكن أن تنتهي إلا بالهزيمة، فهو لا يملك مقومات حرب طويلة ماديا ولا أخلاقيا، ولم يتمكن رغم جعجعاته الكلامية، حشد دول داعمة كما فعلت أوكرانيا.
الصين أو البرازيل أو باقي دول البريكس لا تقدم له إلا ما يفيدها ولم تشكل أي قطب جديد يهدد حلف شمال الأطلسي ولا تبحث أصلا عن ذلك.

الدرب الانتحاري

سترينا الأيام والأسابيع المقبلة أن لا أحد يقبل السير في درب بوتين الانتحاري. أول عاصمة زارها لولا الرئيس البرازيلي الجديد كانت لواشنطن بينما رفض قبول دعوة بوتين له زيارة موسكو، وهو ما لا ينتظره عادة الحلفاء الأوفياء من بعضهم البعض.
كثير من المراقبين يتوقعون هزيمة روسيا وخروج بوتين من المشهد وقليل يتوقعون عكس ذلك، لكن لا أحد تقريبا يتطرق إلا ما هو برأيي السيناريو الآخر، وهو الوصول إلى وضع شبيه بوضع العراق بعد الحرب. كما فعل صدام حسين بحربه مع إيران، فقد أدخل بوتين روسيا في أتون حرب خسر فيها مئات آلاف القتلى، ستنتهي بانسحابه من الأراضي التي احتلها.
من يظن أن دول الناتو مهتمة بتغيير الحكم في موسكو هو واهم، وما عليه إلا مراجعة تبعات هزيمة صدام عام 1991 أي بقائه في السلطة لعشر سنوات إضافية، دُمِّر بها كل ما يشبه العيش الإنساني الكريم رغم ثروات العراق النفطية، وتركت البلاد تواجه مصيرها لوحدها.
لم يكن لذلك أن يزول إلا بإرادة العراقيين أنفسهم والذين أصبحوا بالإضافة للفقر ضحية قمع وحشي. ووُجِّهت حراب جيش صدام إلى شعبه ليبقى في السلطة متمكنا من إجهاض جميع المحاولات للتخلص منه.
لم تفعل أمريكا شيئا لإنقاذ هؤلاء الضحايا وهي التي كانت تَدَّعِي عداءها لصدام حسين.

محاولة للتمرد

روسيا قد تواجه بعد نهاية الحرب السيناريو نفسه، أي تحويل سلاح الجيش الروسي للداخل لمنع أي محاولة للتمرد على بوتين ونظامه، حتى ولو حصل تغيير في شكل هرم السلطة، في محاولة للخروج من المأزق داخليا وخارجيا، والحافظ على سلطة لا تحمل من الديمقراطية إلا اسمها.
التركيبة العرقية والدينية العراقية أفشلت لحد الآن كل المحاولات لبناء كيان ديمقراطي حقيقي حتى بعد سقوط صدام، وتركت العراق بأيدي الميليشيات من كل حدب وصوب.
النزعات القومية والدينية نفسها نجدها في روسيا، وحرب الشيشان ليست بعيدة عن الأذهان، وكما حدث مع العراق، فلن تخرج روسيا فقط من الحرب باقتصاد منهك وفقدان خيرة أبنائها بين قتيل وجريح وهرب مئات آلاف الكوادر والنخب، العقول المفكرة التي فضلت الهجرة، بل سيفرض عليها تعويض كل ما سببت من دمار وكل ما أوقعت من ضحايا، مع الاستمرار بالحصار الاقتصادي الغربي حتى تحقيق ذلك. بدأت أوكرانيا بذكاء وحنكة، تحضير هذا الملف بالإضافة لملف الدعاوى القضائية.
سكوت الشعب الروسي وتغاضيه عما يُفعَل باسمه لا يبشر بخير لمستقبل روسيا. فلن يفعل له أحد من دول العالم شيئا إن لم يبادر هو بنفسه لتغيير أوضاعه وإعلان رفضه لتلك الحرب التي لا تعنيه في شيء.

حرب فيتنام

لم تنته حرب فيتنام إلا بعد أن أظهر الشعب الأمريكي رفضه العارم لها. حتى حرب روسيا في أفغانستان انتهت أيضا بعد تحرك أمهات القتلى الروس. للأسف لا أظن الشعب الروسي واعيا بما ينتظره ولا يملك طلائع قيادية قادرة على فعل شيء مؤثر.
نحن العرب كنا وما زلنا من ضحايا السياسات الروسية وبتواطؤ من دول الغرب. منذ البدء سلح الاتحاد السوفييتي إسرائيل قبل أمريكا معتقدا أنها ستكون واحة للاشتراكية، بعد ذلك أرسلت روسيا ملايين المهاجريين لإسرائيل، والآن دمرت دولة عربية وشردت أهلها.
نحن أيضا ضحايا الطغيان الروسي، وعلينا أن ندافع عن أنفسنا في سوريا وليبيا والسودان حيث تتواجد القوات الروسية أو مرتزقة فاغنر كانت هناك حرب في أوكرانيا أو لم تكن.

معاناة الشعب الأوكراني

مواقفنا هي أولا نتيجة معاناة شعوبنا قبل معاناة الشعب الأوكراني والذي أظهر لنا ببسالته وعزة نفسه وصبره الطريق الذي علينا أخذه، بدل قضاء الوقت بلعن الاستعمار وأبنائنا يذهبون لدوله حتى ولو كلفهم ذلك حياتهم.
مواقفنا من أحداث العالم يجب أن تبنى على فهمنا العميق لمصالحنا كشعوب وليس على من مع أو ضد أمريكا. علينا أن نقيس الأمور من منظار من نحن وماذا نريد قبل كل شيء.
تحجيم الدور الروسي سيكون له مردود إيجابي على دول وشعوب المنطقة، يكفي أن يتخلص الشعب السوري من همجية الروس وأتباعهم وأن يتمكنوا من العودة لديارهم. لم نتخلص من الاستعمار الغربي لنقبل بذلك الآتي من موسكو، وليكن في تلك الحرب حتى ولو كانت بعيدة عنا عبرة لمن يعتبر.

كاتب فلسطيني

الغرب والكيل بمكيالين

نزار بدران القدس العربي ٢٣ أيار ٢٠٢٣

هناك العديد من المراقبين والمحللين وهم على حق، من يلاحظ أن الدول الغربية تكيل بمكيالين، عندما يتعلق الأمر بالقضايا العربية، وخصوصاً القضية الفلسطينية. النموذج الأوكراني واضح جداً، فقد وضعت أمريكا وكافة الدول الغربية، بمفهومها الحضاري (الغرب الشامل)، كل إمكانياتها وعلى مدار أكثر من عام، للوقوف إلى جانب الشعب الأوكراني في محنته، وإعطائه وسائل النصر على المُحتَل الروسي.

الحق الفلسطيني

هذا ما لم تفعله تلك الدول، مع الحق الفلسطيني، بل على العكس، ذهبت في معظمها إلى منحنى دعم المحتل الإسرائيلي. لذلك حق لنا أن نحتج ونعلن على الملأ، أننا مظلومون.
هذه الفكرة، إن أخِذت مجردة عن الوقائع التاريخية، وكذلك ما يُسمى الجيوسياسية، هي فكرة صحيحة. لكنها مجرد وهم وكلام لا فائدة منه، عندما نأخذ بالحسبان وجود مجموعات بشرية على وجه الأرض ذات أنظمة اجتماعية وتواريخ مُتباينة، إن لم نقل مُتَضاربة.
ما يجمعنا جميعاً، هو معيار الحضارة الإنسانية، أي حقوق الإنسان، والذي يبقى إعلانها الرسمي من الأمم المتحدة، هدفاً بعيد المنال، في أماكن كثيرة من العالم، وبشكل خاص تلك البلدان البعيدة عن مفهوم حقوق الفرد. تصبو لها الشعوب قاطبة، دون أن تصل إليها، هي الأفق الذي نود جميعاً التوجه إليه والاقتراب منه.
المُقارنة الحقيقية التي يجب أن ننظر إليها، عندما نتحدث عن الكيل بمكيالين، هي كيفية تعامل دول الغرب الشامل لحل أزماتها الداخلية، وكيفية تعامل دول الشرق لحل المشاكل نفسها ، وليس أن ننظر فقط للمجموعة الغربية كمالكة وحيدة للمكاييل، إن لم تكن أصلاً طرفا في النزاع.

أوكرانيا جزء من الغرب

أوكرانيا إن أردنا أو لم نُرد، هي جزء من الغرب، وكل الشعب الأوكراني يُعلن ذلك، ويعمل جاهداً للانضمام الرسمي للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. هل الشعب الفلسطيني، جزء من الغرب، ويبحث عن الانضمام بدوره للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؟
بالطبع لا، هو جزء من المكون الشرقي، وعلى دول هذه المجموعة، أي الدول العربية أولاً، والمسلمة ثانياً، العمل كما يفعل الغرب مع أوكرانيا؛ أي الوقوف كرجل واحد مع الشعب الفلسطيني، ودعمه بكل وسائل تحرره، وفي كل الميادين.
الواقع هو العكس، فهذه الدول في معظمها، إن لم نقل جميعها، تقف على الحياد، أو مع الطرف المُحتل، أي إسرائيل، وتطبيع بعض دول الخليج وشمال إفريقيا وجنرالات السودان مع إسرائيل، هو واضح بشكل كاف.
قبل أن نطلب من الغرب والعالم أجمع، الوقوف معنا، علينا أن نقف مع أنفسنا، وبفعالية، كما تفعل دول الغرب مع أوكرانيا.
وصول اللاجئين الأوكرانيين إلى الدول الأوروبية، لم يُثر أي زوبعة داخلية لشعوب تلك الدول، بل على العكس، قُدمت لهم كافة التسهيلات.
المطلوب منا هو ليس الاحتجاج على الغرب، لعدم فعل الشيء نفسه مع اللاجئين العرب أو الأفارقة (حتى ولو كان ذلك صحيحا)، بل هو ماذا نفعل نحن في دولنا لحل مشاكل اللاجئين؛ اللاجئ الفلسطيني أو السوري في لبنان، عبء لا يُطاق، والحملة الانتخابية في تركيا بجناحيها، تُدغدغ مشاعر المواطن التركي، بحلم إعادة الملايين الثلاثة من السوريين إلى وطنهم، عند نظام بشار الأسد، أو في بعض الأحيان استعمالهم في سياسة تركيا الخارجية مع الاتحاد الأوروبي، وكأنهم ورقة تجارية رابحة.
يجب النظر إلى كيفية تعامل الدول الغربية مع مشكلة لاجئيها، ومقارنتها مع كيفية تعامل دولنا وحتى شعوبنا مع المشكلة نفسها (نموذج تونس الحديث)، وليس البكاء الدائم على الكيل بمكيالين.
نحن لا نتوقف عن نقد التاريخ الاستعماري الغربي، وما أدى إليه من كوارث وبشكل خاص في فلسطين وأماكن أخرى، وأهمها التجزئة العربية، ولنا الحق في ذلك، وفي الوقت نفسه نطلب منهم استقبال لاجئينا الذين يموتون في البحر لوصول أوروبا، هرباً من الفقر والحرب، بدل أن ننظر إلى أنفسنا ونعمل على تغيير أوضاعنا الكارثية، وإزالة الضيم والظلم، الذي نمارسه بأنفسنا على أنفسنا، قبل أن يُمارسه الآخرون علينا.
الحقيقة التي لا تقبل النقاش، هو أن معيار الغرب في وجه أي مشكلة تخصه، ليس هو معيار الشرق، في مواجهة نفس المشاكل. هنا يمكننا القول أننا حقاً نكيل الأمور بمكيالين.

كاتب فلسطيني

معارك السودان: الحرب هدف بحد ذاته

منذ 11 ساعة

 د. نزار بدران

تتوجه الأنظار منذ بضعة أسابيع إلى السودان، وما يدور فيها من معارك بين جيش البرهان (الشرعي!) وميليشيات حمديتي، حليفته سابقاً في السلطة، ورفيقته لإسقاط الحكم المدني والانقلاب عليه.

الانقلاب الجديد

المراقب لهذا الحدث قد يتعجب من هذا الانقلاب الجديد، ولو بقيت الأمور داخلية بين الطرفين، لكان في الإمكان التكلم عن نزاع على السلطة، لكن الأمر يتعدى ذلك إلى حرب شوارع وغارات جوية وقصف مدفعي في الخرطوم ومدن عديدة أخرى، ضحيتها الوحيدة حتى الآن هو المواطن السوداني البسيط، والذي ثار يوماً ليس بالبعيد، للإطاحة بالبشير وعصابته، التي تمسك السلطة حالياً، وإقامة سلطة حكم مُتحضر.
هل حقاً هذا النزاع بين أطراف سلطة الانقلابيين، هو نزاع على السلطة، هل قتل المدنيين، وترويعهم، وتدمير محاصيلهم، وبيوتهم، وإغلاق مدارسهم، وقصف مستشفياتهم هو من أجل تملك السلطة.

نقاط التقاطع

هل هذه الحرب ستكون لها نهاية، وهي نجاح أحد الأطراف، في التمكن من السلطة لوحده، وبعدها يحل السلام.
لو قارنا وضع السودان مع سوريا واليمن والعراق وليبيا، فإن نقاط التقاطع بينها جميعاً، أنها تقع في دول انتفض فيها شعبها، وطالب بزوال حكم العسكر وإقامة الديمقراطية، أي إنهاء زمن مضى والبدء بدخول عالم الحضارة الحديثة.
ما تُعلنه السلطات المُستبدة كأسباب للحروب، تختلف من مكان إلى آخر:
في سوريا هي حرب ضد الإرهاب الإسلامي والمؤامرة الإسرائيلية الأمريكية على محور المقاومة الباسل.
في ليبيا هو خلاف بسبب وجود الإسلاميين في طرابلس، وتبعيتهم لتركيا.
في العراق حروب ضد داعش والإرهاب السني.
ولو نظرنا إلى مصر فهي حرب لا تنتهي ضد الإرهاب بأشكاله المختلفة.

الضحية هو الشعب

الضحية دائماً هو هذا الشعب، الذي حاول يوماً المطالبة بحقوقه، وليس الطرف المُعلن للحرب، ولو لمرة واحدة.
فلا إرهاب إسرائيل وأمريكا توقف على سوريا، وهي ضحية غارات شبه يومية دون رد. ولا إسلاميو طرابلس في ليبيا، دخلوا باب الطاعة المحروس من حفتر (عميل أمريكا سابقاً).
ولا شيعة العراق أمنوا أنفسهم من أذى متطرفي السنة، أمثال داعش.
الطرف الوحيد الحقيقي الذي تطلب كل هذه الحروب هزيمته، هو الشعب الثائر. يجب إسكات صوت الشعب السوري إلى الأبد، وعليه إذاً أن يدفع ثمن ثورته قتلاً وتهجيراً بالملايين. يجب إنهاء أي بصيص للحرية في ليبيا، حتى تصبح عودة القذافي وزمنه، ما يتمناه الليبيون.
في السودان نحن أمام المشهد نفسه، هدف الحرب هو إبعاد الشعب السوداني، شباباً وشيوخاً، عن ساحات الاعتصام، ومعاقبتهم جماعياً على ما اقترفت أقدامهم من مظاهرات أدت لزعزعة نظام البشير، وأتباعه الحاليين في السلطة، ورفضهم قبول شروط العسكر للبقاء في السلطة تحت غطاء التقاسُم.

دول الربيع العربي

الحرب في السودان وفي باقي دول الربيع العربي، هي هدف بحد ذاته، نعرف أسباب نشأتها، وهي تأتي دائماً من ظروف وتاريخ كل بلد؛ سنة شيعة في العراق، محور ممانعة أو عملاء في سوريا؛ جنوب شمال، أبناء قبائل طُبرق أو قبائل طرابلس في ليبيا.
تُستعمل كل هذه الأشياء لبدء الحرب، والتي لا تنتهي أبداً. فما دامت هناك حرب، سيبقى الناس مختبئين في بيوتهم.
ما دام المواطن مُعاقباً لثورته بالتجويع وتدمير مؤسساته الطبية والتعليمية، يبقى فاقداً للأمل وقابلاً بالظلم.
هذا ما نسمعه من بعض المثقفين حين يترحمون على زمن القذافي وعلي عبد الله صالح أو صدام حسين.
لا يجب علينا أن ننخدع بما يعلنه العسكر المُستولون على السلطة بالقوة، عن أهداف حروبهم.
هي بالنهاية ليست إلا وسيلتهم الوحيدة في البقاء.

كاتب فلسطيني

ديمقراطية إسرائيل العرجاء.. القدس العربي ١٧ آذار ٢٠٢٣…نزار بدران

أول من وضع أسس الدولة الديمقراطية الحديثة وحدد آلياتها هو الفيلسوف الفرنسي توكفيل بعد أن أقام في أمريكا لبضع سنين واصفا عام 1835 من خلال تجربته الشخصية هذه الديمقراطية الناشئة، في وقت لم يكن شكل السلطة قد حُدِّد لصالح النظام الديمقراطي بشكل نهائي في أوروبا.
كان الفلاسفة ومنهم الكبار أمثال«هيغل» ما زالوا يُنظِّرُون آن ذاك إمكانية التوفيق بين النظام الارستقراطي الوراثي والنظام البرلماني في الوقت نفسه.

المجتمع المدني

الديمقراطية التي يدافع عنها توكفيل ويريدها لوطنه فرنسا، تكفل للجميع المساواة وتكافؤ الفرص، ولا تعامل مواطنيها حسب أعراقهم وأديانهم.
تُبْنى على أساس الفصل بين السياسة والحكم من جهة وبين الدين من جهة أخرى، مع إيجاد مجتمع مدني قوي، لتبقى الديمقراطية حية دائما، وليس فقط في لحظات الانتخابات ويزول منها خطر التحكم بالأقليات.
نسمع منذ أسابيع عن حراك إسرائيلي شعبي دفاعا عن ديمقراطية هذه الدولة، وخروج الآلاف في شوارع تل أبيب. وهم على حق في رفض المساس باستقلالية القضاء، هذا طبيعي ومقبول. لكن المستهجن هو تطبيل جزء من المثقفين والمحللين العرب لهذا الحراك، وكأن الخطر الذي تواجهه الديمقراطية الإسرائيلية على أيدي الطرف الأكثر تشددا فيها، سيؤدي إلى نتائج سلبية على حياة الفلسطينيين، وكأننا نعيش الآن في نعيم الاحتلال

.

حق تقرير المصير

الشعب الفلسطيني في الداخل وغزة والضفة، والذي حرم من حق تقرير المصير والاستقلال بعد خروج الانتداب البريطاني، لصالح إقامة دولة أخرى هي إسرائيل، وتُرِك تحت احتلالها وسطوتها، يعاني من استثنائه بالكامل، ومنذ عقود طويلة من الديمقراطية الإسرائيلية يمينها ويسارها. نحن لا نرى أي مساواة بين اليهود والعرب، ولا تكافؤ الفرص، بل على العكس نحن محرومون من كل أشكال ومحاسن الديمقراطية عندما تهدم جرافات الجيش الإسرائيلي البيوت الفلسطينية في القدس وتطرد عائلات بأكملها، وذلك بقرار من القضاء الذي يتظاهر الإسرائيليون من أجل المحافظة عليه. رغم تناقضه مع القانون الدولي، لا يرى اليسار ولا المتظاهرون المحتجون على نتنياهو حرجا في ذلك.
لم يكن أحدا يعتبر النظام الأبيض في جنوب أفريقيا نظاما ديمقراطيا، بل نظام أبارتايد وذلك بسبب عنصريته. لم يتمكن هذا النظام الحفاظ على علاقات مع الغرب ليستمر بالازدهار لصالح البيض فقط، وهو ما أدى فيما بعد إلى سقوطه المدوي، واستبداله بالديمقراطية الوحيدة الممكنة أي التي تساوي بين الجميع.

المحاسبة القضائية

الانتقاص من الديمقراطية الإسرائيلية بسبب قوانين نتنياهو الجديدة للحفاظ على نفسه من المحاسبة القضائية، لا تهمنا نحن العرب في شيء إلا من ناحية « انظروا فقد بدأوا يتعرَّبون.»
أن يخرج الآلاف في شوارع تل أبيب لا يعني أن إسرائيل تملك ديمقراطية ناضجة، تلك التي لا تقبل أبدا كقاعدة دائمة أساسية غير المساواة بين الجميع، وإحقاق الحقوق.
لَخَّص توكفيل مُنظِّر الديمقراطية الغربية وجميع الأنظمة الحديثة في العالم فكره في كتابه عن الديمقراطية قائلا:
« من الواضح أن هناك حدًا لقوة الأغلبية. لنفترض مثلا أنه من بين جنسين يعيشان معًا – السلت والسكسونيون ، على سبيل المثال – قرر الأكثر عددًا جعل الأفراد من العرق الآخر عبيدًا لهم. هل سلطة الأكبر عددا ، في مثل هذه الحالة ، هي صحيحة؟
إذا لم يكن كذلك ، فهناك شيء يجب أن تخضع سلطته له، يجب الاعتراف بقانون يذعن له الصوت الشعبي (الأغلبية والأقلية).

ما هو إذن هذا القانون ، إن لم يكن قانون الإنصاف الكامل – قانون الحرية المتساوية؟ هذه القيود ، التي يرغب الجميع في وضعها بإرادة الأغلبية ، هي بالضبط القيود التي منعها هذا القانون. نحن ننكر حق الأغلبية في القتل أو الاستعباد أو السرقة ، لمجرد أن القتل والاستعباد والسرقة هي انتهاكات لهذا القانون – انتهاكات صارخة للغاية لا يمكن التغاضي عنها. ولكن إذا كانت الانتهاكات الكبيرة لهذا القانون غير عادلة ، فإن الانتهاكات الأصغر تكون كذلك.
إذا لم تستطع إرادة الكثيرين إلغاء المبدأ الأول للأخلاق في هذه الحالات ، فلن يمكنها فعل ذلك في أي حالة أخرى. لذلك ، مهما كانت الأقلية غير ذات أهمية ، ومهما كان صغر التعدي على حقوقها التي يُقترح تحقيقها ، فلا يجوز السماح بمثل هذا الانتهاك.»(نهاية الاقتباس)

العدالة الدولية

الديمقراطية الإسرائيلية لن تحمل بجدارة إسمها الا إذا اذعنت لهذا المنطق ومحت من كيانها كل أشكال الظلم والتمييز. واعترفت بحق كل إنسان وكل لاجئ فلسطيني العودة إلى وطنه، واسترداد ما يملك، والتعويض الكامل عما حدث، وتقديم كل من أجرم للعدالة الدولية والحق في تقرير المصير، غير ذلك تبقى ديمقراطية عرجاء، لا تتطابق مع قواعد توكفيل، ولن تحمي المحتلين ولا الشعب الفلسطيني.

عودة السياسة عنوان العالم الجديد

القدس العربي ١٢ اذار٢٠٢٣

نزار بدران

منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا في نهاية شباط/فبراير من العام المنصرم، تركزت الأنظار على تداعياته على الأمن في أوروبا والغرب، خصوصا مع التلميح المتكرر لإمكانية استعمال السلاح النووي الروسي، والتي تتزايد مع تزايد الهزائم على أرض المعركة.
سبق هذه الحرب العسكرية ومنذ عام 2020، حربا بيولوجية طبيعية عالمية مع انتشار وباء كورونا وتهديده الإنسانية الوجودي، وكأننا عدنا لأزمنة القرون الوسطى وما رافقتها من أوبئة فتاكة مثل الطاعون. لولا تطور الطب وظهور لقاح فعال لكنا ما زلنا مختبئين في بيوتنا، وكأن الخروج للشارع أصبح في حد ذاته مقامرة حياتية. هذا ما رأيناه مؤخرا في الصين بعد التراجع عن سياسة العزل الاجتماعي العام دون تأمين لقاح فعال.

التهديد النووي الروسي

التهديد النووي الروسي والبيولوجي الطبيعي وضع الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية في وضع مغاير لما كانت عليه، باستطاعتنا أن نقول إن الكرة الأرضية قبل 2020 ليست هي نفسها ما بعد ذلك.
القارئ لما يقوله المحللون والسياسيون والمختصون، قد لا يستفيد شيئا من كل ما يقرأ، فهو يتغير ويتبدل كل يوم. تحالفات تنتهي وأخرى تبدأ، تجمعات ورؤى جديدة، هذا عالم يولد من جديد وليس فقط تغير في العلاقات الدولية على مبدأ الأقطاب والتحالفات.
العالم الذي سبق عام 2020 هو عالم مبني على مركزية الاقتصاد وهيمنته على السياسة، ما ترجم بمفهوم العولمة الاقتصادية. أصحاب الشركات الكبرى هم من يحدد للساسة ما عليهم فعله، حرية السوق على مستوى العالم هي المرجعية المطلقة، ليس على السياسة إلا اللحاق بها وتسهيل عمل مستثمري رأس المال وليس وضع الخطط لمراقبة أنشطتهم وأرباحهم.
صانعو السيارات اليابانية أو الأمريكية يعملون ذلك في كل بقاع الأرض، كذلك الأمر بالنسبة للأدوية وكافة أشكال الصناعة. قليلة تلك الأنشطة الاقتصادية التي كانت مرتبطة بسياسة دولة معينة (مثل مراقبة بعض الأنشطة العسكرية، التكنولوجيا الحساسة أو المركبات الفضائية). ما نستهلكه يوميا من مأكل وملبس وحركة سفر وغيره هو معولم بالكامل. هذا ما سمح بتطوير دول عديدة وانتقالها من الفقر إلى وضع أكثر غناء، كما رأينا مع الصين، كوريا الجنوبية، فيتنام، تركيا أو أندونيسيا ودول عديدة في جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
العولمة على علاتها كانت شيئا ايجابيا، لأنها قصرت المسافات بين الشعوب والدول، وسمحت لمن امتلك الجرأة بالمضي في طريق الانعتاق الاقتصادي.
الذين لم يستفيدوا من العولمة هم تلك البلدان التي لم تعمل أنظمتها السياسية شيئا غير نهب ثروات شعوبها، مثال عدد كبير من الدول العربية، عكس دول إسلامية عدة.

النظام الصحي الغربي

الآن برأيي انتهت هذه الفترة الزمنية بإيجابياتها وسلبياتها، وبدأت السياسة في الدول الغربية بالعودة إلى دورها التقليدي، ومحاولة توجيه الاقتصاد بدل الانجرار خلفه، ذلك عن طريق استرداد معظم الصناعات والأنشطة الاقتصادية التي كانت شركاتها حولتها إلى دول العالم تحت حجة الربح وتقليل الكلفة. وباء كورونا أظهر مثلا هشاشة النظام الصحي الغربي بسبب اعتماده في حاجاته الأساسية رغم بساطتها على الصناعات الطبية الهندية والصينية (مثل الكمامات). كذلك الأمر في مجال الملابس أو صناعة السيارات، وعديد من قطاعات الإنتاج المصنع.
عدة عوامل دفعت بهذا الاتجاه، ارتفاع أسعار الطاقة مما جعل النقل البحري أو الجوي كبير الكلفة لاغيا بذلك انخفاض كلفة الإنتاج المأمولة، الاهتمام المتزايد داخل الرأي العام الغربي بضرورة تقليل الاعتماد على الطاقة الأحفورية وما تمخض من قبوله لزيادة الأسعار، وأخيرا عودة هاجس الحرب داخل الدول الغربية نفسها وضرورة الاعتماد على الإنتاج المحلي حتى في مجال الصناعات البسيطة.
السوق الحر الليبرالي لم يعد نموذجا فعالا ومقنعا، لأنه لم يترافق مع وضع قوانين عالمية ملزمة للجميع، ما أدى إلى الفوضى وليس إلى التكامل. استمر التهديد باستعمال العنف، بسبب ذلك لم تتمكن الأمم المتحدة القيام بدورها الطبيعي بالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. بات واضحا للجميع أن العولمة الاقتصادية وحدها ليست الوسيلة الفعالة للوصول إلى السلام الدائم.
خطوط الغاز التي ربطت روسيا مع أوروبا على أهميتها لكلا الطرفين لم تكف لمنع عودة الحرب إلى أوروبا من جديد، والتي كانت تظن انها قد تخلصت منها إلى الأبد.

الواقع العربي

ما يهمنا في هذا العرض هو ارتداد هذا العالم الجديد على واقعنا العربي، هل سنتأقلم معه ونأخذ العبر للتغيير، أم نستمر كما هو حالنا منذ عشرات السنين بالسبات وانتظار الفرج الإلهي. توقعات المستقبل على المستوى العالمي تسير الآن عكس التيار الذي حكم العالم لعقود، أي أولوية الاقتصاد على السياسة. عودة السياسة تعني عودة الحماية وعودة الأسوار، ولكن هذه المرة بهدف مراقبة وإغلاق الأسواق الداخلية خصوصا تلك الغنية، والتي بإمكاناتها الاستهلاكية الكبيرة أمنت الطفرات الاقتصادية النوعية لجزء كبير من العالم.
اقتصاد النظام الجديد يتبع السياسة وليس العكس. اقتصاد العولمة يترك مكانه للاقتصاد الإقليمي. نحن نبدأ العيش في عالم الدول والتجمعات الكبيرة، ذات الأعداد السكانية والإمكانات الاستهلاكية والإنتاجية الضخمة، التبادل داخل دول هذه التجمعات سيتعدى بأهميته التبادل بينها.
الدول العربية الحالية لا تعرف تقريبا تبادلا داخليا إنتاجيا أو استهلاكيا، فكل تجارتنا تقريبا هي مع الدول الأخرى في العالم، خصوصا الدول الغربية، مثل بيع النفط والغاز الطبيعي واستيراد التكنولوجيا والمواد الضرورية للحياة.
هذه الوضعية قد تكون كافية لحد الآن، خصوصا بمفهوم السماح للأنظمة ببيع ثروات البلاد وتأمين بقائها، لكن المستقبل سيفرض عليها التعاون فيما بينها لتتمكن من الاستمرار، الأسواق الغربية ستبدأ بالتبدل، وكما رأينا مع إغلاق السوق الأوروبي أمام الغاز الروسي ثم النفط والأسمدة، فقد نكون بدورنا ذات يوم نواجه أشياء مشابهة. وحده التكامل العربي حتى خارج الأطر الديمقراطية من سيؤمن لهذه الدول وخصوصا لهذه الأنظمة نوعا من الديمومة.


هل هناك من سيفهم هذه التغيرات، يستبق الأحداث ويقوم ببناء الجسور بين الدول العربية. الإنتاج والاستهلاك يمكن له أن يكون عربيا عربيا. نحن مجموعة كبيرة سكانا ومساحة، وبلادنا تعج بكل أسباب التقدم والغناء. حاليا البنية السياسية العربية لا تسمح بذلك، لكن التغير العالمي حولنا قد يدفعها في هذا الاتجاه. عدم التأقلم مع هذه التغيرات سيؤدي إلى مزيد من الشرذمة ومزيد من الفقر وبالتالي مزيد من الحروب الداخلية والبقاء تحت سيطرة الأقوياء ولمصلحتهم فقط.
أن تفهم الأنظمة العربية ذلك لأخذ القرار السياسي المناسب ولمصلحتها اولا قبل مصلحة شعوبها، هو مشكوك فيه. هل ستتمكن النخب الفكرية القيام بدورها التنويري، هذا ما أشك به أيضا عندما نرى تغييب كل الكفاءات الفكرية إما سجنا وقتلا أو تهجيرا.

معطيات الزمن الجديد

هل ستكون هناك مجموعة عربية اقتصادية كما يحدث حاليا مع هؤلاء الذين استوعبوا معطيات الزمن الجديد، وتمكنوا من أخذ القرار السياسي المناسب مثل دول أمريكا اللاتينية أو التجمع الجديد لدول شرق آسيا حول اليابان، طبعا لا أذكر الصين أو الهند فكل منهما تشكل مجموعة بوحدها.
الاتحاد الأوروبي أثبت أهمية وفعالية هذه التجمعات في إنقاذ اقتصاديات دولها، كما رأينا في مواجهتها لوباء الكورونا ثم الحرب في أوكرانيا.
نحن نودع معادلة عالم العولمة الاقتصادية السهل وندخل معادلة عالم السياسة الإقليمية وقراراته السياسية الصعبة، لم نكن جزءا من الأولى، فهل سنكون غير ذلك في المعادلة المقبلة.

كاتب فلسطيني