مفهوم الأمة القومية. نزار بدران القدس العربي 28 يناير 2021

مفهوم الأمة القومية

28 – يناير – 2021

مفهوم الأمة القومية

 د. نزار بدران 

حجم الخط

تطالب قوى الثورة والتغيير بالدول العربية، منذ نهاية 2010، بإسقاط النظام وتحقيق العدالة الاجتماعية والحصول على الحرية، كل شعب يسعى عن طريق النضال السلمي، مُعتمداً على حشد جماهيري كبير، إلى الوصول إلى هذه الأهداف. هل سقوط النظام الاستبدادي، سيُعيد تلقائياً حلول نظام توافقي مدعوم من كافة أطياف المجتمع، وهل يمكن بناء السِلم الاجتماعي بمجرد سقوط النظام.
هذه الأسئلة وغيرها، تُرسلنا إلى مفهوم الجمع الاجتماعي والرغبة بالعيش المشترك، فتحت الأنظمة الديكتاتورية تجمد المجتمع، نجاح الثورة يُنهي حالة التجمُد هذه، ويُظهر تناقضات لم تكن مرئية في بعض الأحيان.

سقوط النظام الشيوعي

النموذج الأكبر لذلك، هو سقوط النظام الشيوعي بيوغوسلافيا، والتي حل محلها فوراً تقسيم البلاد حسب الأديان، بين الأرثوذكس والكاثوثيك والمسلمين (صربيا، كرواتيا، سلوفانيا والبوسنة) أي العودة إلى زمن ما قبل وصول الحكم الشيوعي، وهذا أدى إلى حروب طويلة بين هذه الشعوب دون طائل، تهدف إلى الحصول على النقاء العرقي والديني لكل بلد، وهو ما لم يمنع من عودة الأمور بمرحلة أخرى إلى التقارب تحت سقف الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، الذي لا يعترف بالتمييز العرقي أو الديني.
النموذج الآخر المُغاير، هو جنوب إفريقيا بقيادة نلسون مانديلا، والتي انتقلت إلى الديمقراطية دون أي تفسخ للمجتمع، فلم تُقسم البلاد بين البيض والسود، ولم يتم مُصادرة أملاك وأراضي البيض، لصالح السود، ولم يُدعى إلى طرد البيض وعودتهم لأوروبا ( كما حدث مثلاً في زيمبابوي أو الجزائر) قريباً منا نرى أن انهيار نظام صدام حسين الاستبدادي في العراق، تبعه تدخلات غربية عديدة وصراعات داخلية على مبدأ الانتماء الديني مؤدياً إلى دمار البلاد. هذه أسئلة تُطرح على الشباب الثائر، والساعي لإسقاط الأنظمة الاستبدادية، إلى أين أنتم سائرون، والى أي مجتمع أنتم تسعون؟
تجارب الأمم المختلفة في العالم، منذ الثلاثة قرون الأخيرة، أي منذ سقوط الإمبراطوريات ونشأة الأمم، وانتهاء الشرعيات المُستمدة لصالح سيادة الشعب، تُظهر أن مفهوم الأمة ووحدتها ومبرر وجودها، يختلف من أمة إلى أخرى، ومن مفهوم فلسفي إلى آخر، وذلك مرتبط بشكل خاص، بتاريخ وظروف كل أمة أو كل شعب.
هناك بشكل عام ثلاثة تصورات لمفهوم الأمة، وعلى شعوب الدول العربية، وقادة ثوراتها، أن يُحددوا أي نموذج يختارون.
النموذج الأول، وهو النموذج المبني على العنصر الثقافي العرقي، أي الانتماء إلى لغة وثقافة واحدة، وعنصر عرقي واحد، وهو تقريباً النموذج الذي بُنيت عليه ألمانيا، والذي أدى إلى اعتبار كل مجموعة سكانية، تتكلم اللهجات الألمانية، كجزء من ألمانيا والعنصر الآري، وأسس لحرب 1870، ثم الحرب العالمية الاولى والثانية، يتناسى المُدافعون عن هذا المفهوم، أن المناطق المُتكلمة باللغة الألمانية في دول الجوار لألمانيا، تحتوي أيضاً على سكان يتكلمون لغات أخرى، وهو مدعاة لطرد هؤلاء أو التنكيل بهم -.هذه هي التجربة الأوروبية وأحد أسباب الكوارث التي عمت القارة، بالنصف الأول من القرن العشرين، بعد انتشار التصور العرقي الثقافي للشعوب.
النموذج الثاني، يذكرنا بقيام دولة اليونان، أو بعض دول أوروبا الشرقيه، ومؤخراً دولة الاحتلال الإسرائيلي. هذا النموذج مرتبط بثلاثة عناصر، وهي وحدة اللغة، وحدة الدين ووحدة الأسطورة الوطنية المؤسسة.
استطاع سكان اليونان، بالثلث الأول من القرن التاسع عشر، زمن ما يسمى بالثورة اليونانية، تحديد هوية وطنية، عن طريق الربط بين الدين الأرثوذكسي واللغة اليونانية، وأيضاً إعادة الارتباط بالأسطورة التاريخية لماضي اليونان المجيد، بعصر الحضارة اليونانية القديمة، بفضل الاكتشافات العلمية بزمنه.
نرى شيئاً قريباً من ذلك، في بولندا ورومانيا ودول شرق أوروبا، والتي أدت مثلاً في بلاد البلقان، إلى حروب متعاقبة، مما أدى إلى مفهوم البلقنة، أي التجزئة على مبدأ الدين واللغة، وهذا ما رأيناه أيضاً في حروب البلقان بعد سقوط الشيوعية.
نشأة دولة باكستان بعد استقلال الهند، وانتهاء الهيمنة الاستعمارية البريطانية، اعتمد نفس المنطق، أي الدين المشترك واللغة المشتركة ومحاولات لإيجاد قصة تاريخية مشتركة.
ضرورة تواجد العناصر الثلاثة لنشأة الدول الحديثة، أجج الحروب في كثير من المناطق بالعالم، فالانتماء لنفس الدين، لا يعني تشكيل أمة واحدة، والتكلم باللغة نفسها لا يمنع التمايز، وحدها النقطة الثالثة، أي الأسطورة المشتركة، من يُعطى النقطتين الأوليتين فاعليتهما لإيجاد الأمة.
من هذا المنظار نفسه، أُسست دولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تمكنت من جمع جزءاً مهماً من يهود العالم داخل فلسطين، لا يجمعهم حقيقة، إلا عنصر الدين المشترك، فالعنصران الآخران، أي اللغة والقصة المشتركة، تم تكوينهما بشكل يتناقض مع التاريخ الحقيقي، فاليهود في دول العالم، ما كانوا يتكلمون اللغة نفسها، فاليهودي الأثيوبي أو البولندي أو العربي، يتكلمون بلغات بلادهم الأصلية، تمكنت إسرائيل من إعادة الحياة للغة العبرية، حتى أصبحت اللغة المشتركة لسكان إسرائيل، وهو ما حقق لهم العنصر الثاني لتكوين الأمة. عنصر الأسطورة المشتركة، وجدوه عن طريق العودة للأسطورة التوراتية الدينية والوعد الإلهي، هذه القصة المشتركة ليس لها بُعد تاريخي حقيقي، كما كان مثلاً مع نشأة الأمة اليونانية، والعودة لأمجاد أرسطو وأفلاطون وألكسندر المقدوني.
إعطاء بُعد تاريخي لمقولة دينية لإنشاء دولة، فيه طبعاً الكثير من التناقض، مع الطبيعة المُعلنة لدولة إسرائيل، وهي العلمانية، إي إبعاد الدين عن السياسة والقانون، ولكنهم لم يستطيعوا اعتماد القصة المشتركة الحقيقية، وهي موجودة تاريخياً، وأقصد بها المذابح والجرائم التي اُرتكبت بحق اليهود في أوروبا وروسيا، عبر قرون خصوصاً مع مذابح النازية، هذه القصة الحقيقية، هي جزء من التاريخ الحقيقي، وليست تاريخ اللاهوتي المُتخيل، ولكنها لا تعطيهم في حالة تبنيها، الحق بإقامة دولة بفلسطين بالتحديد، ولهذا تم استبعادها، كأحد عناصر مفهوم الأمة اليهودية عند الحركة الصهيونية.
النموذج الثالث من تكوين الأمة، هو ذلك الذي يُبنى على عنصر التاريخ المُشترك أي الماضي، والمشروع المُشترك أي المستقبل، والمُعتمد على الاختيار الحُر والإرادة الحرة لكل مواطن. هذا التصور الذي رأيناه مطبقاً مثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية، أو حديثاً دولة جنوب أفريقيا، لا يتبنى مفهوم العرق أو الدين أو اللغة المشتركة، كأساس لتكوين الأمة، ولا حتى الحدود الطبيعية، أو مفهوم المصلحة الاقتصادية البحتة.
هذا التصور هو الأكثر قرباً حالياً، لتشكيل الدول الديمقراطية الحديثة، مهما كان التصور الذي أسسها سابقاً، فلم يعد مكان بالدول الغربية مثلاً، لاعتماد الدين أو العرق، لتحديد الهوية الوطنية.
فقط الماضي المشترك بأمجاده وانتصاراته، ولكن أيضاً وبشكل أكثر تأثيراً، مآسيه وهزائمه والمعاناة المشتركه، من يحدد الانتماء للامة، والرغبة باستمرار ذلك المشروع التاريخي، من يُؤكد البقاء به.
الإرادة الحرة للأفراد والمجموعات، بما فيها حق تقرير المصير للشعوب، هي حجر الأساس لبناء هذه اللأمم، وكما يقول إرنست رنان، الفيلسوف الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر، الأمة هي استفتاء يومي لإظهار الانتماء المشترك للمجموعة (الإرادة الحرة لأفرادها بأن يبقوا جزءاً منها).
أي نظام سياسي ديمقراطي حديث، يبني أمته على أسس العرق أو الدين أو اللغة، يضع بنفس الوقت وسائل هدمه ودماره، من القوى الداخلية والقوى الخارجية؛ نموذج جمهورية الصرب، برئاسة ميلوزيفتش، بعد انهيار يوغوسلافيا الشيوعية، كان نظاماً منتخباً من الشعب، ولكنه بنى تصوره للوطن على العرق الصربي والدين الأرثوذكسي واللغة الصربية، وهو ما أدخله ضد كوسوفو والبوسنة أو كرواتيا الكاثولوكية، وأدى بالنهاية لحروب دامت سنوات، قبل عودة الشعب الصربي، لمفهوم أكثر حضارية، بدل البحث عن دولة النقاء العرقي.
انفصال جنوب السودان المسيحي، كلف أكثر من مليوني قتيل، لرغبة الرئيس المعزول عمر البشير ونظامه، اعتماد الدين الإسلامي بالهوية الوطنية والنظام السياسي، متناسياً أبناء الجنوب واختلافاتهم العرقية والدينية عن الشمال.
الانتماء الطائفي المعلن، كهوية في العراق وسوريا ولبنان وإيران ودول أخرى، هو تهديد مباشر لوحدة هذه الدول ونموها.
انغلاق إسرائيل على مفهوم الدين كهوية للدولة والمواطن، يحرم أكثر من مليون ونصف فلسطيني، داخل الخط الأخضر، من حقوقهم الأساسية بالمساواة، ويغلق الباب نهائياً لأي حل سلمي للقضية الفلسطينية، مبني على حق العودة للاجئين الفلسطينيين، حتى لا يُهدد الفلسطينيون الطابع الديني اليهودي للدولة الإسرائيلية. وللأسف نجد بالغرب، وبأعرق الدول الديمقراطية، من يُدافع عن هكذا تصور (تحت ضغط اللوبي الصهيوني) رغم تناقض هذا الموقف الواضح، مع القيم التي بُنيت عليها هذه الدول.

النموذج المُنفتح

يمكننا إعطاء أمثلة كثيرة عن فشل النموذج القومي، المبني على خصوصيات مستقلة عن الإرادة الحرة للأفراد، فالعرق واللغة والدين، هي أشياء مفروضة علينا وليست اختياراً لأي فرد، وحده النموذج المُنفتح ذا البُعد التاريخي والإرادة الحرة، من يتجاوب برأيي، مع مفاهيم وأسس الحضارة الإنسانية الحديثة.
قد يقول قائل، أن هذا النموذج الثالث، المبني على حرية الاختيار، قد يؤدي إلى تفكيك الدولة وخروج أجزاء منها، هذا لم نره يحدث بأي مكان، إن حُفظت حقوق الناس، وأُكد مبدأ المساواة بينهم، فالإنفصاليون لا يبررون عملهم دائماً، إلا باستعادة حقوقهم الأساسية.
شباب الثورات العربية، وهم يبنون دولهم الديمقراطية، عليهم أن يطرحوا هذا السؤال بصراحة، أي أمة تريدون أن تبنوا، وبأي وطن تريدون أن تعيشون. الجواب سهل نظرياً، لكن من يسمع ويقرأ ويرى ما يحدث على امتداد الأرض العربية، ويُتابع سياسات الأنظمة، الجارية وراء السيطرة والبقاء، والتي توقد النار دائماً، للتناقضات الاجتماعية، العرقية واللغوية والدينية، لتؤمن بقاء سيطرتها. الذي يراقب ذلك يعرف أن الطريق ليس سهلاً، وأن الانتماءات العرقية والدينية، ما زالت بأوج عنفوانها.
على شباب الأمة وثوارها، أن يعملوا للإنتقال من معطيات لتحديد الأمة، مأخذوة من أشياء ورثناها بلا أدنى إختيار، إلى تشغيل العقل والعمل لبناء أمة متسامحة، تُعامل أبناءها جميعاً، بنفس المقدار من المساواة والاحترام، مهما اختلفت أديانهم ولغاتهم وأجناسهم. لو نظرنا حولنا بالدول الأخرى، فسنرى أن النجاح هو فقط حليف هذا النوع من الأمم.

 كاتب ومحلل سياسي

الناشطات العربيات… بناتك يا وطن

الناشطات العربيات… بَنَاتَك يا وطن

الناشطات العربيات… بَنَاتَك يا وطن

 د. نزار بدران 

اغتيال المحامية والناشطة الحقوقية، حنان البرعصي وسط بنغازي، بعد نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، انتقادات للفساد، لأحد أبناء خليفة حفتر، يُظهر لنا مدى إصرار قوى الثورة المضادة، على إسكات كل الأصوات وبكل الوسائل.
هؤلاء يريدون أن يُطفئوا نور الربيع العربي بجرائمهم، وكأن التاريخ سيعود للوراء.

الحراك المجتمعي الحديث

ما أريد إظهاره بهذا المقال، أن المرأة العربية، تُشارك وبكثافة في الحراك المجتمعي الحديث، خصوصاً للموجة الثانية من الربيع العربي، فأعداد النساء المشاركات في المظاهرات والاعتصامات، هي كبيرة جداً، يكفي أن ننظر لشاشات التلفزيون، لمظاهرات لبنان والجزائر والسودان والعراق، وأن نتذكر مظاهرات اليمن.
نحن أمام وعي جديد للمجتمع، بأهمية وضرورة مشاركة الجميع، رجالاً ونساء في العمل الثوري.
لم يعد هناك مجال هنا لإبقاء نصف المجتمع، جالساً ينتظر النصف الآخر لتحقيق حقوقه.
الوضع إذا يختلف عما كان عليه سابقا حين كان نضال المرأة لنيل حقوقها نخبويا ولم يتمكن من تحريك المجتمع بشكل فعال لصالحه (مثال المناضلات نوال السعداوي، هدى شعراوي في مصر)
شاركت المرأة وبقوة، بثورات التحرر الوطني من الاستعمار، ونذكر هنا كمثال، جميلة بوحيرد، وغيرها كثيرات، لكن الدول التي أتت بعد دحر المُستعمر، سلبت النساء حقوقهن المُنتَظرة، وهو الحق في المساواة دون التفريق مع الرجل، بالإضافة لسلب المجتمع ككل حقوقه السياسية، ببناء الدولة الديمقراطية والمواطنة.
المشاركة النسائية، والتي دُفع ثمنها غالياً، من قتل واغتصاب وسجن، هو في رأيي من أهم معالم الربيع العربي الثاني، والتي تُنبئ بوضوح بالشكل الذي سيأخذه المستقبل.
قتل الناشطات العراقيات أو الليبيات، سجن لُجَيْن الهذلول، ورفيقاتها بالسعودية لن يزيد هذه المشاركة إلا عنفوانا.
وكما نرى فإن احتلال النساء لمساحة واسعة، في التعبير على ساحات التواصل الاجتماعي وتواجدهن على أرض الواقع، أعطى الحراك العربي، بُعداً جديداً، هو البُعد الإنساني العقلاني، فالمرأة، بالإضافة لمعاناتها كمواطن مثل الرجل، تُعاني أيضاً من القيود الاجتماعية المفروضة عليها، مما يجعلها أكثر حساسية وتفهما، من هنا تنبع أهمية أن تكون في الصدارة، وموقع القيادة.

العوائق الاجتماعية

الحصول على الحرية في دولنا، على خلاف دول أخرى بالعالم، لا يعني فقط إسقاط النظام، بل يعني أيضاً، إسقاط العوائق الاجتماعية أمام المرأة، للمشاركة في بناء الوطن.
تعريف الوطن، حسب بعض الفلاسفة، هو «تلك المساحة من الأرض، والتي يعيش فيها، مجموعة من الناس، بهدف تحقيق حقوقهم وأحلامهم» تحقيق الحقوق هو إذاً نقطة الانطلاق، وليس شكل الأرض ومساحتها واسم عاصمتها.
المرأة العربية المعاصرة، وقد حصلت على مستوى أعلى من التعليم، حتى أنه في بعض الجامعات فإن عدد الطالبات يفوق عدد الطلبة الرجال، وتمكنت أيضا من الحد من الانفجار الديموغرافي، عن طريق تقليل عدد الولادات لكل امرأة (تقريباً وصلنا إلى ثلث النسبة التي كانت في سنوات السبعينيات وبداية الثمانينات في كافة الدول العربية) ما سمح لها بالخروج من البيت والتعلم والعمل، هي الآن مُؤهلة، لقيادة النضال الجماهيري، أكثر كثيراً من الرجل، وسبب ذلك أنها:
أولاً، الضحية الأكثر تضرراً، بسبب القيود الاجتماعية والعادات الذي تقع عليها وحدها، بالإضافة إلى الظلم السياسي العام، فهي إذا الأكثر مصلحة بالتغيير.
ثانياً، لكون الرجل، وللسبب نفسه، أي الأثقال الاجتماعية التي تُشكل سلاسل على قدميه، معاقاً عملياً، ولن يتمكن من صناعة تغيير يؤدي لتحرير النساء أيضا، أي كامل المجتمع.
تجارب الشعوب الأخرى، تُظهر أن هذا النقاش، لتحديد دور المرأة، كان يعني دائماً للرجل، البقاء في البيت ورعاية الأطفال. وبالنسبة للمرأة يعني الخروج من البيت والمشاركة بالنشاط الاجتماعي والعمل، ووضع سؤال حقوق المرأة، داخل الإطار السياسي.
فيما يُسمى ثورة ربيع الشعوب الأوروبية، منتصف القرن التاسع عشر، خرجت المرأة من بيتها وفرضت مشاركتها، رغم رفض الرجال، وأصبحت من بعد، أحد عناصر التقدم الاجتماعي، الذي نرى آثاره اليوم، بكل الدول الأوروبية.
لحظة الثورات على الاستبداد، هي تلك اللحظات التي تتمكن بها المرأة، من إعطاء زخم وحجم لهذه الثورات أولاً، وهي أيضاً من يسمح أن تعي المرأة، مهما كان موقعها ومستواها، حقوقها الاجتماعية.
هذا ما نراه في المشاركة الحاسمة، للمرأة بالثورات الحديثة، ونموذج كنداكات السودان أمامنا.
ما نراه أيضاً من تجارب الماضي، فالشعوب التي تُهمش دور المرأة في النضال، لا يمكن أن تصل إلى إرساء أسس الدولة الحديثة الديمقراطية كما يحصل بجزء كبير من الدول الإسلامية.
ليست المرأة إذاً، إضافة كمية على العمل الثوري، بل هي إضافة نوعية، فالمساواة، وتأمين حقوق الجميع، واحترام الآخر وفتح باب النقاش الاجتماعي، على كل المواضيع مهما كانت، دون أي محرمات وممنوعات، هو نتاج المشاركة النسائية، وليس أحد سمات التفكير الذكوري الأبوي العربي. ولنتأكد من ذلك، يكفي النظر إلى ما يقوله الناس، ذكوراً وإناثاً، على صفحات التواصل الاجتماعي، فالمدافعون في اتجاه الفكر المحافظ، هم أساساً من الرجال، والعكس صحيح.

القبول بنسائية المستقبل

الأجيال الجديدة من النساء، لم تعد لتقبل بهذا الظلم، ومشاركتهن الحالية الفعالة، والثمن المدفوع من دمائهن وحريتهن كما رأينا مع حنان البرعصي وقبلها زهراء سليمان وغيرهن، هو دليل إصرارهن على الوصول إلى التحرر من الاستبداد، ببرامج اجتماعية، تُبنى على قيم حضارة هذا الزمن
لم تعد تقبل هذه الأجيال، أن يُرَحَّل سؤال حقوق المرأة، مرة أخرى لأجل غير مُسمى، أي بعد سقوط الأنظمة، ولا تُلدغ المرأة من جحر واحد مرتين.
نحن إذاً أمام إشكالية مهمة في الوطن العربي، وهي القبول بنسائية المستقبل، فكراً وقيادة. فهو لن يكون مستقبلاً زاهياً، حيث تعم قيم المساواة والحداثة، إلا إذا أخذت المرأة دورها حقاً في حمله وولادته وخصوصاً في قيادته، ونذكر هنا بشعار الناشطات العراقيات، في المظاهرات النسائية، في شهر شباط- فبراير لهذا العام «بَنَاتَك يا وطن».

السودان، موسم الهجرة إلى اسرائيل

القدس العربي 27/10/2020

السودان: موسم الهجرة إلى إسرائيل

السودان: موسم الهجرة إلى إسرائيل

 د. نزار بدران 

في قصته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» يُظهر الكاتب السوداني الكبير، الطيب صالح، شدة التعقيد خلف بساطة المظهر، فالحقيقة ليست دائماً، ما يبدو ظاهراً للعيان.
هذا تقريباً ما نراه حالياً، مع توجه السودان، إلى تطبيع علاقاته مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، فخلف وجود سلطة توافقية ناتجة عن الثورة، نجد تناقضات عميقة، بين مكونات هذه السلطة.

رموز الثورة المضادة

فالنموذج السوداني فريد من نوعه، من حيث تواجد الثورة والثورة المضادة، بنفس الوقت بقمة السلطة.
قوة الثورة المضادة، المُمثلة بالعسكر، وخصوصاً رجلها القوي «حمديتي» هي باستمرار سيطرتها على وسائل القوة، أي الجيش والشرطة بينما قوة الثورة، هي فقط بوعي الشعب واستعداده للتضحية لإنجاح ثورته.
من كان يتصور أن رموز الثورة المضادة، المتواجدين بالسلطة، سيتركونها بعد الفترة الانتقالية، ويذهبون للاستجمام، هو خاطئ، بمن فيهم قيادات الثورة.
هؤلاء كما حدث في مصر، مع عبد الفتاح السيسي، وزير دفاع الرئيس الشرعي الوحيد، محمد مرسي، أو قبله بينوشيه، وزير دفاع الرئيس أليندي في تشيلي، لا ينتظرون سوى اللحظة المناسبة، للانقضاض على السلطة وإنهاء الثورة.
ما رأينا في السودان، من رفض الولايات المتحدة، رفع اسم السودان عن لائحة الإرهاب، مع أن هذا الشعب، قام بثورة ديمقراطية، علمانية بالمعايير الحديثة، والاستمرار في حصار السودان، دون أدنى سبب، ما هو إلا إنعاش للثورة المضادة، لتتمكن من العودة.
أمريكا في أواخر أيام البشير، كانت على استعداد، لرفع اسمه عن قائمة الإرهاب، وكان البشير على ما يبدو، على استعداد للتطبيع مع إسرائيل.

اللوبي الصهيوني الأمريكي

ما يظهر على كونه، ابتزازا للثورة لصالح إسرائيل، هو بالحقيقة، محاولة إنهائها.
السودان اليوم، لم تقبل الثورة الاعتراف بإسرائيل، وإنما انتصرت الثورة المضادة، في أول معركة لها مع قوى الثورة، بدعم من معسكر كل الثورات العربية المضادة، من دول الخليج إلى مصر وغيره، ومع دعم الدولة الأكبر في العالم، ورئيسها الذي يلهث وراء اللوبي الصهيوني الأمريكي، للنجاح بالانتخابات المقبلة، بعد أيام قليلة.
الثورات المضادة العربية، تهرول نحو إسرائيل، طلباً للحماية من الثورات العربية الحالية والمقبلة، وإسرائيل تعرف ذلك وتطلب أغلى الأثمان، والنموذج المصري واضح، من تحالف إسرائيل ومصر، ضد أهل غزة وحقوق الشعب الفلسطيني.
في مواجهة تحالف قوى الثورة المضادة العربية وداعميها، لا يوجد للأسف، أي تحالف لقوى الثورة العربية، لا رسمياً ولا شعبياً، فعند اندلاع الثورة السودانية، كان الكثيرون، من الإسلاميين وغيرهم، يدعون أنها ثورة شيوعية كافرة إلى ما آخره، نادمين على جمال زمن البشير، والذي دمر البلاد باسم الشريعة والدين الإسلامي.
هذه الثورات العربية، إن لم تتضامن فيما بينها، شعبياً ورسمياً، ستؤكل كل واحدة على حدة، والنموذج المصري سيصبح النموذج الرسمي لمستقبلها.
من يظن مثلاً في تونس، أنه بمنأى عن عودة الثورة المضادة، فهو خاطئ، من حاصر السودان، بحجة واهية، يستطيع أن يفعل الشيء نفسه، في تونس أو الجزائر أو أي دولة أخرى.
تضامن قوى الثورات العربية، مع الثورة السودانية، هو أقل ما يمكن تقديمه لها بهذه الأيام العصيبة، بدل انتظار أن تؤكل كما أكل الثور الأبيض.

توحد الثورات

علينا أن نتعلم من الثورات المضادة، وهي تتضامن دائماً، وتوحد جهودها، ومنذ اليوم الأول، لسحق أي حراك شعبي في أي منطقة (ليبيا، البحرين، اليمن، سوريا، العراق…الخ)
توحد الثورات العربية، خلف شعارات واحدة، يجمع القوى، هو أكثر من ضروري، اتهام الثورة السودانية، بالتطبيع مع إسرائيل هو تجن عليها، الشعب السوداني، لن يقبل ذلك، وهو يدرك أكثر من غيره، أن أباطرة الفساد، ومجرمي حرب دارفور وساحات الاعتصام، يبحثون عمن يحميهم من هذا الشعب ومن المحاسبة المقبلة، لأفعالهم الشنيعة.
في نهاية قصة موسم الهجرة إلى الشمال، نعرف الحقيقة، وخفايا الأشياء، وحب الحياة، كما يعرفها أبناء الشعب السوداني العظيم.

التطبيع الخليجي الإسرائيلي ثمن الحماية وكلفة ألاستبداد . القدس العربي 20 أكتوبر 2020

التطبيع الخليجي الإسرائيلي

 ثمن الحماية وكلفة الاستبداد

د. نزار بدران

حتى نفهم الدوافع الحقيقة، وراء تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، في هذه الفترة بالذات، علينا أن نطرح على أنفسنا سؤال بسيط وهو، ما هو الشيء الذي يحرك هذا النظام أو ذاك، بمعنى ما هو المُحرك العملي لفعله.

بالدول الديمقراطية، حيث الانتخابات حرة، يوكل بها الشعب حزباً أو مجموعة، لتحقيق مصلحته ومآربه بشفافية كاملة، تحت مراقبة المجتمع المدني. فإننا بالأنظمة الديكتاتورية، نرى أن هذا الشعب، غائب أو مُغيب تماما، فالنظام موجود بقدرة قادر، أو بفعلة فاعل، وليس له من قريب أو بعيد، أي ارتباط بالإرادة العامة للمواطنين، ولا يحمل أي برنامج مُحدد شفاف، يتوافق مع رغبات الأغلبية من الشعب.

السلطة المستبدة، هي التي تضع السياسات بشكل منفرد، خارج المجتمع، والذي ما عليه إلا أن يقبل بها، بغض النظر عن الأضرار التي قد تصيبه. هذه السلطة قد تكون بيد شخص واحد، بمعنى أن كل مراكزها، تُؤتمر بأمره، ولا مكان للتوازن بين قوى مختلفة، كما كان الحال عليه زمن الرئيس صدام حسين أو حافظ الأسد أو جمال عبد الناصر. أو قد يكون هناك مراكز متعددة في السلطة، يربطها توازن مصالح، كما نرى مثلاً ببعض الدول الملكية كالمغرب أو السعودية سابقاً.

في الحالة الأولى، أي حكم الشخص الواحد، تسير الأمور، في حالة الاحتجاجات الشعبية، نحو المواجهة العنيفة، العنف هو الوسيلة الوحيدة التي يُحسن استعمالها المستبد الفرد، بينما في حالة المجموعة المتحالفة المستبدة بالسلطة، فإننا قد نرى تغيرات أو انقلابات، داخل السلطة نفسها (ما يُسمى ثورة القصر)، قد تؤدي إلى تخفيض مستوى العنف والخسائر بحالة انفجار ثورة شعبية، هذا ما نراه مثلاً بلبنان مع توازن زعماء الطوائف، أو ما نراه بالمملكة المغربية، حيث أن القوة النافذة بالسلطة، اضطرت لاعتماد سياسة انفتاحية، قد تؤدي إلى تخفيف حدة التوترات، وتسمح بتغيير بطيء ولكن سلمي. عكس ذلك الوضع بالسعودية، تحول من حكم عائلة مالكة، مع توزيع مراكز السلطة، على العائلة الحاكمة، إلى سلطة الفرد الواحد، منذ تولي الأمير محمد بن سلمان عملياً أمر البلاد، وهذا ما قد لا قد يُحمد عقباه.

هذه الدول الاستبدادية بكل أنواعها، تُحدد سياساتها الداخلية والخارجية، بناءً على ما تعتبره مصلحة بقاء النظام وديمومته، فمثلاً، عندما يقوم الرئيس، عبد الفتاح السيسي، بالارتماء بأحضان أمريكا، والتفاهم على حصار غزة، فهو بكل تأكيد لا يهدف لحماية الشعب الفلسطيني أو سكان سيناء، بل العكس تماماً، هو يدفع الثمن لقاء دعم أمريكا له، ضد تطلعات شعبه بحكم ديمقراطي، الذي سيكون بالتأكيد داعماً لأهل غزة، وليس مشاركاً بحصارها. نفس الشيء تقريباً زمن الرئيس الأسبق حسني مبارك، ورغبته العارمة بتوريث السلطة لأولاده.

ما هو إذاً المحرك وراء سياسات الدول الخليجية ألتي تطبع أو ستطبع مع إسرائيل، هل هو المصلحة الوطنية العليا لدولهم، أو للأمة العربية، أو الرغبة الجامحة بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، لحل النزاع، حتى تتمكن هذه الدول من البناء والتعمير وتحقيق أحلام شعوبها، أم ماذا؟، الحقيقة أن مُحرك هذه الحكومات، هو بكل بساطة، شعورهم بأن زمن جديد قد بدء، منذ سقوط الأنظمة الديكتاتورية، ببقاع كثيرة بالعالم، وأن دورهم هو على الأبواب. هذه الأنظمة تبحث إذاً عن حامٍ لها، واهمة أن إسرائيل وأمريكا، تستطيعان مساعدتها بفعالية، للوقوف أمام تطلعات شعوبها، بالوصول للحكم الرشيد، شرعيته الشعب وليس العائلة أو الأوهام الغيبية. مقابل ذلك تدفع الثمن الذي يُطلب منها وبدون تردد، مالاً واعترافاً وعلاقات وغيره.

السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط، مرتبطة بشكل وثيق بالمصالح الإسرائيلية، لذلك فإن الثمن المطلوب دائماً، لحماية هذا النظام أو ذاك، أو لتقديم المساعدات أو رفع العقوبات الدولية، هو دائماً الموافقة على الإرتماء بإحضان إسرائيل والتحالف معها، وتسهيل سيطرتها على مقدرات الأمة، هذا أيضاً ما هو مطلوب من السودان، لرفع اسمها عن قائمة الدول الداعمة للإرهاب، مع أن الشعب السوداني، قام بثورة أطاحت بالنظام الإرهابي، فبدل مساعدته بإرساء الديمقراطية، يُحاصر من جديد لإجباره على دفع الثمن الإسرائيلي المطلوب، ونجد بين العسكر المشاركين، بالمرحلة الانتقالية، من يروق له هذا التوجه، بدعم دول الثورات المضادة المُطبعة. لكن الشعب السوداني بوعيه وبوعي المكون المدني للسلطة، لن ينجر على ما يبدو وما نأمل لهذه المطالب الأمريكية، رغم حاجته الماسة للدعم الاقتصادي. هذا ما يُميز أنظمة الربيع العربي عن الأنظمة الديكتاتورية، حيث لا مكان للرأي العام في سياساتهم. نحن نعتقد أيضاً أن الثمن المطلوب من الحكومة الإيرانية، لرفع العقوبات الأمريكية عنها، هو مرتبط أيضاً بالسياسة الإيرانية تجاه إسرائيل، وليس كما يُدعى، دعم الشعب الإيراني لإرساء نظام ديمقراطي أو التخلي عن مشروع نووي خيالي. 

حماية الأمة من الخطر التطبيعي الداهم، والذي كما رأينا سابقاً، مع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل منذ أكثر من أربعين عاماً، لا تؤدي إلى أي ازدهار، وإنما فقط حماية النظام الموقع المُطبع. فمثلاً من وجهة نظر الحكم المصري، فإن التطبيع الساداتي باتفاقيات كامب ديفيد، هو ناجح، لأنه استطاع الحفاظ على ديمومة النظام العسكري، وإفشال ثورة 25 يناير، طبعاً النتيجة هي عكسية للشعب المصري، والذي ازداد فقراً، وفقد كل أشكال الحرية. 

هذه الأنظمة تطرح على الأمة إشكالية مهمة، وهي ماذا ستكون عليه الأحوال بالمستقبل، وماذا سنترك لأبناءنا من بعدنا. تُبذر الثروات، وتضيع السيادة وتُقسم الأوطان (جنوب السودان) وذلك فقط كأثمان ندفعها جميعاً، حتى تبقى هذه الأنظمة جاثمة على صدورنا. 

لا حل إذاً إلا بتوحيد جهود كل قوى المجتمع، خصوصاً القوى الشبابية المنتمية للمستقبل، والباحث على اللحاق بركب الأمم، لزعزعة أنظمة الردة والاستبداد، ولدعم أنظمة الثورات والربيع العربي، حتى لا تضطر قهراً للسير بجانب هذه الأنظمة، وراء الخطط الإسرائيلية الأمريكية. دعم السودان مثلاً واجب علينا، خصوصاً وهو يأن، تحت وطأة العقوبات الأمريكية، وويلات الفيضانات العارمة والفقر، وقد أضاع البشير، الرئيس المخلوع، جنوب البلاد الغني بالبترول، كثمن دفعه حتى يُرفع اسمه عن قائمة الإرهاب، وما زال النظام الجديد، متأرجحاً بين المدنيين والعسكر، بين الجديد والقديم.

الاستمرار بالحراك الديمقراطي العربي، كما نرى بلبنان والعراق والجزائر، التضامن الحقيقي لهذه الحركات قد يكون الوسيلة الفعالة، لعودة الروح إلى أمة ال 400 مليون مواطن، بإمكانياتها الهائلة، المُبذرة حالياً كثمن لبقاء الاستبداد.

كاتب ومحلل سياسي

الفصل التعسفي للتلاميذ الفلسطينيين في لبنان. القدس العربي 01 أكتوبر 2020. نزار بدران

قامت السلطات اللبنانية مؤخراً، ومع بداية العام الدراسي الجديد، كما ذكر بمصادر إعلامية وبمواقع التواصل الاجتماعي للمؤسسات المجتمع المدني، بفصل عدة آلاف من التلاميذ الفلسطينيين، المُسجلين في المدارس اللبنانية، وعدم قبول أي طالب فلسطيني جديد.
الأسباب الحقيقية لذلك لم تُعلن بشكل واضح، ولكن النتائج ستكون كارثية على هؤلاء التلاميذ وعلى عائلاتهم في زمن الكورونا، حيث يتوجب عليهم، الالتحاق في مدارس أخرى، وهي في معظم الأحيان، إن وُجدت، تبعد مسافات طويلة عن أماكن سكنهم، وتفرض على هؤلاء التلاميذ الصغار، أن يفترقوا عن مدارسهم، ورفاقهم، وأساتذتهم.

السياسة التمييزية

ما هو ظاهر للوهلة الأولى للعيان، أن هذه السياسة التمييزية، والتي تحمل شعار اللبناني أولاً، مع أن الفلسطينيين متواجدون هناك منذ أكثر من سبعين عاماً، تهدف إلى التجاوب مع زيادة عدد الطلبة اللبنانيين، بعد تدهور الوضع المالي، لعديد من أهالي التلاميذ اللبنانيين المسجلين في المدارس الخاصة، وهو ما دفعهم إلى البحث للالتحاق في المدارس اللبنانية المكتظة. طرد التلميذ الفلسطيني، كان إذاً الحل السهل لهذه الإشكالية.
ما يُظهر بشاعة هكذا قرار، هي تلك التفاصيل العنصرية التي يحتويها، فهو يقسم التلاميذ إلى ثلاثة أنواع، أولاً، اللبناني أباً، ثانياً، التلميذ الذي له أم لبنانية وأب فلسطيني، وأخيراً، التلميذ الفلسطيني أباً وأماً، وإعطاء الأولوية طبعاً، بناء على هذا التسلسل.

نظام طائفي

الآن لو وضعنا هذه السياسة الجديدة، بإطار السياسة الرسمية اللبنانية، منذ عشرات السنين، فإننا لن نستغرب من شيء، فالفلسطيني بلبنان، ضحية نظام طائفي، يُطبق عليه قوانين تمنعه من العمل، في المؤسسات اللبنانية بمجالات عديدة، مثل الطب والهندسة وعشرات المهن الأخرى، وحتى بالتملك والتوريث هو الضحية السهلة، والتي لا يدافع عنها أحد.
في هذه الفترة الصعبة على القضية الفلسطينية، حيث تم تقليص الخدمات المُقدمة من الأنوروا للاجئين الفلسطينيين، خصوصاً في المجال التعليمي، واكتظاظ المدارس التابعة لها، وعدم مقدرتها على تقديم الخدمات لكافة الطلبة، يُطرد التلميذ الفلسطيني من مدرسته، ويُترك على قارعة الطريق، وكأن حقوق الناس الإنسانية، لا تعني في شيء، السلطات اللبنانية، ولا حتى المؤسسات المهتمة في شؤون اللاجئين. فصل اللبناني عن الفلسطيني، حتى على مقاعد الدراسة، يحتوي على هدف سياسي، وهو إبعاد اللبناني عن التفاعل مع القضية الفلسطينية، وإعطاؤه الانطباع أن مآسيه، هي بسبب الوجود الفلسطيني، وليس من فشل الإدارة اللبنانية المزمن، بحل مشاكل لبنان.
الفكر الطائفي السائد، يفصل الفلسطيني عن اللبناني، بمجالات العمل والسكن والتعليم، ولا أستغرب أن هذا الفصل، قد يمتد أيضاً، داخل المكونات اللبنانية نفسها. نأمل من الحراك الديمقراطي اللبناني، الداعي إلى إلغاء الطائفية، أن ينتبه إلى خطورة تلك السياسة التعليمية المتبعة، والتي لا تهدف إلا إلى إحكام السيطرة، على التلاميذ اللبنانيين أنفسهم، وتثبيت البُعد الطائفي، وهو ما يتناقض تماماً مع أهداف هذا الحراك.
لا يمكن أن يكون طرد التلميذ الفلسطيني حلاً، لمشاكل نقص الأماكن في المدارس اللبنانية، فقطع اليد، لن يحل أبداً مرض أحد الأصابع.

كاتب ومحلل سياسي فلسطيني مستقل

التطبيع الخليجي الإسرائيلي… استمرار الثورة المضادة

التطبيع الخليجي الإسرائيلي… استمرار الثورة المضادة

 د. نزار بدران . القدس العربي 18 أيلول 2020

أعطى الانطباع العام، بعد ما يُسمى بالتطبيع، بين دول خليجية وإسرائيل، وما تبعه من عدم صدور رد فعال، من أي دولة عربية، وسكوت بل تعاطف جامعة الدول العربية، أعطى كل ذلك، الانطباع أن الأمة العربية تُخطط للتخلي التام عن فلسطين والفلسطينيين، لكن من يريد أن يتحلى بنوع من المنطق والمصداقية، عليه أن يعترف، بأن ذلك ما هو إلا تتويج لتطور تعريف القضية الفلسطينية من قِبل الفلسطينيين والقادة العرب.
انطلقنا في سنوات جمال عبد الناصر، من مفهوم الصراع الوجودي الإسرائيلي العربي، إلى مفهوم جديد، أُكد في قمة الرباط في المغرب، عام 1974 وهو مفهوم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مما عنى ذلك تدريجياً، إستحواذ القيادة الفلسطينية، باسم الشعب الفلسطيني، على حق التعبير عن قضية العرب الأولى، واختصارها بنزاع بين شعب مُشرد، وقوة غاشمة مدعومة من أمريكا والغرب. وهي كما يبدو، معادلة لم تؤد إلاّ إلى اتفاقيات أوسلو، بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، على مبدأ قيام دولة فلسطينية، وهو ما لم يتحقق أبداً، بل زاد الاستيطان الإسرائيلي، وقضم أراضي الضفة المحتلة عام 67 وإعلان القدس، من طرف الرئيس الأمريكي، ترامب، عاصمة لإسرائيل، بالإضافة لذلك، ومع سياسة المفاوضات التي لا تنتهي لشيء منذ حوالي، ثلاثين عاماً، انتقلنا من مفهوم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلى مفهوم جديد، وهو الصراع الفلسطيني الفلسطيني، بين من يُمسك بالأمور بقطاع غزة، ومن يُمسكها بالضفة الغربية، مُتناسين عملياً، أساس القضة الفلسطينية التاريخي والحقوقي، وهو حق اللاجئين في العودة. هذا من ناحية ما يمكن تحميله للقادة والفصائل الفلسطينية، من مسؤولية وبشكل مختصر جداً.
من ناحية الدول العربية، فبعد تحررها، من مسؤولياتها التاريخية، بتحرير فلسطين كجزء لا يتجزأ من الأمة العربية، انقلبت هذه الأنظمة، إلى موقع الداعم (الممكن) للشعب الفلسطيني، بنضاله بتحرير وطنه، هذه المهمة لم تدم طويلاً، وتطورت بعد ذلك إلى مفهوم الوقوف تقريباً على الحياد، بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، كما رأينا مثلاً، زمن حسني مبارك ولعبه دور الوسيط.
منذ انطلاق الربيع العربي، في نهاية عام 2010 انتقلت دول الثورات المضادة، بقيادة دول الخليج، خصوصاً الإمارات والبحرين، إلى مفهوم جديد، فبدل الاكتفاء بدور الوسيط، أصبحت هذه الدول تلعب دور الحليف للكيان الصهيوني، وهو ما تُرجم بمواقف عدة، كان آخرها الاتفاقيات الحديثة، الخليجية الإسرائيلية، وما الخطر الإيراني إلا حجة واهية.

حركات الربيع العربي

حركات الربيع العربي، تُشكل خطراً وجودياً، على كل الأنظمة الديكتاتورية، الفاقدة لأي شرعية شعبية، فهي لهذا السبب، في حاجة لحليف قوي لحمايتها، وردع خطر الثورات ضدها. هي وضعت نفسها إذاً، بموقع التناقض الرئيسي مع الشعوب العربية، المطالبة بحقوقها الإنسانية الطبيعية، كونها مصدر السلطة، كما حدث في عدد كبير من دول العالم منذ بداية التسعينيات. من هذا المنطلق، فهذه الأنظمة المتحالفة مع إسرائيل، وجدت نفسها تحت رحمة الإسرائيليين والأمريكيين وتنفذ كل طلباتهم، بهدف الحصول فقط، على بقاء أنظمتهم، وبدون النظر إلى الثمن المدفوع، حتى ولو كان حرمة القدس والمسجد الأقصى. تصريحات الرئيس الأمريكي، أنه حامي هذه الأنظمة، وبدونه تسقط في بضعة أيام، لأكبر دليل على ذلك. هذه الدول فاقدة، بشكل كامل، للسيادة على أراضيها، ملتحقة بالسيادة الأمريكية، بما فيها الأمور الداخلية الانتخابية.
نحن إذاً أمام معادلة جديدة فيما يخص القضية الفلسطينية، وهي الشعب والقيادة الفلسطينية من جهة، وإسرائيل وحلفائها العرب من جهة أخرى. هذه المعادلة لا يمكن أن تكون لصالح الفلسطينيين، مهما جدوا واجتهدوا، لذلك فإن المعادلة المقبلة، والتي قد تغير التوازن لصالح القضية الفلسطينية، لا يمكن أن توجد، إلا إذا تمكنت الشعوب العربية، من زعزعة هذه الأنظمة، وبناء صرح ديمقراطي جديد، وتمكن الشعب الفلسطيني من بناء حركة وطنية جديدة بمعايير الربيع العربي. عندها قد نحلم بعودة نوع من التوازن بين القوة الفلسطينية والعربية المشتركة، مقابل القوة الإسرائيلية وداعميها من الغرب.
بالعودة مُجدداً للتاريخ، فإننا نتذكر بسهولة، الاتفاقية الأمريكية السعودية لحماية أمن الخليج أي الأنظمة، لعام 1945 وما سبقها من اتفاقيات بنهاية القرن التاسع عشر، بين ما يُسمى الدويلات الخليجية المتصالحة وبريطانيا العظمى، حيث وضعت عام 1892 مجموعة من إمارات الخليج بزمنه، نفسها تحت حماية التاج البريطاني. لا شيء جديد إذاً، إن وضعت هذه الأنظمة نفسها الآن تحت حماية إسرائيل والتاج الأمريكي.

كاتب ومراقب سياسي عربي مستقل

حالة مستعجلة. القدس العربي

حالة مستعجلة

30 – أغسطس – 2020

د. نزار بدران

لم يُظهر إنفجار الميناء في بيروت، عدم اهتمام الإدارة اللبنانية بسلامة المواطنين فقط، ولكن أيضاً عدم كفاءة حقيقية، للمسؤولين عن إدارة هذا المرفق الاستراتيجي، الذي تمر به معظم البضائع القادمة للبنان والخارجة منه.
ما يهمني بهذا المقال، هو ما يمكن استنتاجه، من علاقة بين نوعية النظام السياسي الحاكم وحدوث هذه المصائب. ليس فقط في لبنان، ولكن على كافة الأرض العربية. هل حقاً النظام العربي، في كافة الأقطار، قادر على إدارة البلاد وتأمين مهام الدولة القومية الأساسية؟
وهي أمن المواطن والوطن، على كافة الأصعدة، ما يعني الحفاظ على حياته وعمله، والسهر على رفاهيته، والحفاظ على وحدة الوطن ومكوناته الاجتماعية.

الدولة القطرية العربية

منذ قيام الدولة القطرية العربية، ذات الأنظمة الاستبدادية، عسكرية كانت أم عائلية أم طائفية، قبل حوالي سبعين عاماً، لم يتمكن المواطن العربي، من الحصول على حقوقه الأولية، ولم تتمكن الأوطان من الحفاظ على سلامة أراضيها، أو استغلال ثرواتها، لصالح هذا المواطن.
تتصف كل هذه الأنظمة كونها مبنية على مفهوم الزبائنية السياسية والاقتصادية، وهو ما يعني استعمال الفساد، لتحقيق مآرب القابضين على السلطة . الأمن بالنسبة لهم، هو أمن النظام الذي أقاموه، وليس أمن المواطن، والخطر الذي يجب دفعه، هو مطالبة المواطن بحقه الأساسي كونه مصدر السلطة، وليس وحدة الوطن أو سلامة أراضيه.
هذا النظام العربي يعتمد مفهوم توزيع السلطة بين أفراده أو طوائفه، وليس وضع الشخص الكفؤ بالمكان المناسب. يُقدم المنصب لشخص ما، لمكافأته أو السماح له بالثراء غير الشرعي.
النظام الزبائني بكل أشكاله (سياسية، اقتصادية، داخلية أو خارجية) يؤدي دائماً إلى نتيجتين، الأولى هي سوء الخدمات المقدمة للمواطن، لعدم كفاءة المسؤولين، والثانية هي عدم وصول الواقع كما هو للقيادات العليا، بسبب الخوف دائماً من قول الحقيقة، وتصوير الواقع بشكل وردي حتى ولو كان قاتماً. ملايين الدولارات توضع لخدمة قطاعات عديدة، اجتماعية واقتصادية، ولكن هذا الأسلوب بالحكم لا يسمح باستعمالها بشكل فعال، ويؤدي فقط لزيادة غنى المسؤولين، وتمكين السلطة الحاكمة، من حماية نفسها من خطر أي انفجارات شعبية.

اتحاد المغرب العربي

من ناحية أخرى، لا تحمي هذه الدول القطرية وحدة وسلامة أراضي الوطن، حتى لو كان صغيراً، فالسودان زمن عمر البشير أصبح سودانين، وضاع الجنوب الغني بالنفط. الحدود المغربية الجزائرية، مُغلقة من أربعين عاماً، لأسباب تهم الحكم فقط ولا تهم المواطن، وهو ما يمنع أي تطور مشترك على أي مستوى، اتحاد المغرب العربي، لا يحمل من الوحدة إلا الأسم، وهو يضم خمس دول، مجلس التعاون الخليجي، فهم التعاون على أنه إغلاق الحدود وحصار أحد أعضائه والحرب على اليمن، ولم يستطع الدفاع عن الجزء من أراضيه المُحتل من إيران (بعض الجزر بالخليج).
النظام السوري، دمر سوريا بشكل كامل، وفتحها للاحتلال الأجنبي، النظام المصري يحاصر قطاع غزة لحساب اسرائيل…وهكذا بكل المناطق العربية.
إنهاء النظام الزبائني لهذه الدول، وبناء ديمقراطيات حقيقية، حيث الشعب هو مصدر السلطة، هو الوحيد القادر على عكس الأوضاع، وكلما تأخر وصول هذا الحل، كلما زادت الكوارث.
نخشى لو تأخر الحراك الديمقراطي العربي، في زحزحة هذه الأنظمة، أن نصل لوضع نترك به لأبنائنا، بلادا تشبه الصحراء الجرداء، حيث التلوث البيئي وضياع الثروات لبناء الدول الأجنبية، وتقسيم الأوطان على نمط طائفي، لن تسمح لهم بالانطلاق نحو مستقبل مشرق، كما حصل في دول عديدة في العالم.
نحن في العالم العربي، نعيش الآن حالة استعجال، كالمريض الذي ينتظر العلاج، وقد وصل به الوضع إلى حالة قريبة من الموت السريري.
انفجار بيروت، ليس إلا أحد مظاهر مسلسل الضياع، الذي بدأته هذه الأنظمة منذ ولادتها، بحضن المستعمر منذ بضعة عقود. ويجب أن يكون بالنسبة للمواطن العربي، إنذارا بضرورة الاستعجال، بالعمل للتغيير، وأيضاً للنظام العربي، إنذارا أن التغيير آت لا محالة، وما إعاقته والمناورة لتأخيره، إلا عبث لكسب الوقت، لن يزيد الأزمة إلا عمقاً.

كاتب ومراقب سياسي عربي مستقل

سوريا حبيبتي شعر نزار بدران القدس العربي 19 أذار 2020

كَفْكِفْ‭ ‬دموعَك‭ ‬يا‭ ‬أُبَيّ‭ ‬واقْبَل‭ ‬مَمَاتي‭ ‬
واذْهَبْ‭ ‬إلَى‭ ‬قِمَمِ‭ ‬الجبالِ‭ ‬البيض‭ ‬
وافترش‭ ‬السَّحَاب‭ ‬
اقرأ‭ ‬كتابَ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬ما‭ ‬بَعْدَ‭ ‬المغيب
وادْعُ‭ ‬المُجِيب‭ ‬
لا‭ ‬تَخْشَ‭ ‬بَعْدَ‭ ‬الْيَوْمِ‭ ‬أشباحَ‭ ‬الظلَام‭ ‬
لا‭ ‬تَخْشَ‭ ‬بَعْدَ‭ ‬الآنَ‭ ‬أَشْبَاهَ‭ ‬الأَنام‭ ‬
إنِّي‭ ‬مع‭ ‬القاشوش**‭ ‬أَنعَمُ‭ ‬بالهناء‭ ‬
ونسطِّرُ‭ ‬الكَلماتِ‭ ‬وَالنَّغَمَاتِ‭ ‬
ونعلّم‭ ‬الأَلحَانَ‭ ‬للشهداء‭ ‬
ونُذَكِّرُ‭ ‬الأَمْوَاتَ‭ ‬بالأحيَاء‭ ‬
‭ ‬
كَانَ‭ ‬لِي‭ ‬بَيْتٌ‭ ‬وكراسٌ‭ ‬وَمَدْرَسَةٌ‭ ‬
وألعابٌ‭ ‬وأصْحَابٌ‭ ‬وأحلامٌ‭ ‬مكدسة‭ ‬
وأُمٌ‭ ‬تَصْنَع‭ ‬الْحَلْوَى‭ ‬مِن‭ ‬الْعَسَلِ‭ ‬
وجدٌ‭ ‬يَدْعو‭ ‬الرَّحْمَنَ‭ ‬بِالفَجْر‭ ‬
وَيُشْعِلُ‭ ‬شِيشَةَ‭ ‬الْمِلَل‭ ‬
وحُبّ‭ ‬لا‭ ‬أبوحُ‭ ‬بِه‭ ‬
وميعادٌ‭ ‬بِقُرب‭ ‬الحائِط‭ ‬المَهْدُوم‭ ‬
أهمِسُ‭ ‬خَائِفًا‭ ‬مغروم‭ ‬
يَا‭ ‬لَيْلَى‭ ‬مَتَى‭ ‬الْقُبَلِ‭ ‬
‭ ‬
وذات‭ ‬صَباح‭ ‬ٍ
بَعْدَ‭ ‬سِنِينَ‭ ‬قَد‭ ‬طَالَتْ‭ ‬بِلا‭ ‬ثَمَرٍ‭ ‬
وبُسْتَانٌ‭ ‬بِلا‭ ‬شَجَر‭ ‬
وَمِن‭ ‬أَرْضٍ‭ ‬مُشَقَّقَةٍ‭ ‬
ونبعٌ‭ ‬مات‭ ‬حارِسُةٌ‭ ‬مِنْ‭ ‬العَطَشِ‭ ‬
أَتَت‭ ‬رِيحٌ‭ ‬محملةٌ‭ ‬بزخاتٍ‭ ‬مِنْ‭ ‬المَطَرِ‭ ‬
سَمِعْتُ‭ ‬شَقَائِقَ‭ ‬النُّعْمَانِ‭ ‬لفراشةٍ‭ ‬تهمسْ‭ ‬
جاء‭ ‬الرَّبِيعُ‭ ‬زهيا‭ ‬وَتَفْتَح‭ ‬النَّرْجِس‭ ‬
‭ ‬
يا‭ ‬مَنْ‭ ‬قَدِمْتَ‭ ‬مِنْ‭ ‬البِلَادِ‭ ‬البَارِدَةِ‭ ‬
ما‭ ‬سِرُّ‭ ‬خَوْفِك‭ ‬مِن‭ ‬زُهُور‭ ‬اليَاسَمِين‭ ‬
يا‭ ‬مَنْ‭ ‬أَتَيْتَ‭ ‬مِن‭ ‬العُصُور‭ ‬البائِدَةِ‭ ‬
مَا‭ ‬سِرُّ‭ ‬خَوْفِك‭ ‬مِنْ‭ ‬عُيُونِ‭ ‬الحالمين‭ ‬
لَمْ‭ ‬تُبْقِ‭ ‬في‭ ‬جسَدي‭ ‬مكَاناً‭ ‬للسهام‭ ‬
ولا‭ ‬بَيْتِي‭ ‬مكَاناً‭ ‬للمنام‭ ‬
لمْ‭ ‬تُبْقِ‭ ‬في‭ ‬قَلبِي‭ ‬مكَاناً‭ ‬للسَّلَام‭ ‬
أنا‭ ‬حمْزَةُ‭ ‬الذي‭ ‬كُسِرَتْ‭ ‬أصابُعه‭ ‬
سأَكْتُب‭ ‬قصتي‭ ‬بدمَاء‭ ‬جُرْحِي‭ ‬
بالمدارسِ‭ ‬والمَسَاجِد‭ ‬والكَنَائس‭ ‬
وفَوْق‭ ‬سنَابِل‭ ‬القَمْح‭ ‬
وأرسمُ‭ ‬فوْق‭ ‬خاصِرة‭ ‬الزمان‭ ‬
نواعيرَ‭ ‬بِلا‭ ‬أَحْزَان‭ ‬
وأُمي‭ ‬تَحْمِلُ‭ ‬الأوجَاعَ‭ ‬عنِّي‭ ‬
تناجيني‭ ‬وإِن‭ ‬تَعِبَتْ‭ ‬
وتحميني‭ ‬ولو‭ ‬هرمت‭ ‬
وتَقرَأُ‭ ‬في‭ ‬سَوادِ‭ ‬الليلِ‭ ‬
آيَاتٍ‭ ‬مِنْ‭ ‬القرآنِ‭ ‬
لِتَسْمَع‭ ‬سِرِّي‭ ‬المكتوم‭ ‬بالصَّدْر‭ ‬
عُيُونُ‭ ‬حبيبتي‭ ‬أَحْلَى‭ ‬مِن‭ ‬السُّكَّرْ‭ ‬
وضِحكتُها‭ ‬كَمَاءِ‭ ‬العِطْرِ‭ ‬وَالْعَنْبَر‭ ‬
لَن‭ ‬أنْسَى‭ ‬ولن‭ ‬أصفحْ‭ ‬
ولن‭ ‬أَبْكِي‭ ‬ولن‭ ‬أفرحْ
وانْتظرُ‭ ‬الرَّبِيعَ‭ ‬ليُفْتِّحَ‭ ‬الزنْبَق‭ ‬
ويُفَتِتَ‭ ‬الصُّوَان‭ ‬ويحطمَ‭ ‬البَيْدَق‭ ‬
‭ ‬
اشْرَبْ‭ ‬دَمِي‭ ‬
أنا‭ ‬يَسُوعُ‭ ‬عَبَرْتُ‭ ‬طَرِيقَ‭ ‬آلامِيِ‭ ‬
ولم‭ ‬أَعثرْ‭ ‬على‭ ‬قَبْرِي
وكل‭ ‬جَسَدِي‭ ‬
أنا‭ ‬نَبِيّ‭ ‬الهائمين‭ ‬الباحثين‭ ‬عن‭ ‬الضياء
لم‭ ‬أعثرْ‭ ‬على‭ ‬نجمٍ‭ ‬ولا‭ ‬بدْرٍ‭ ‬
وُحُوشُ‭ ‬الليل‭ ‬تَنْهَشُ‭ ‬لحْمِي‭ ‬البالي‭ ‬
وتعلن‭ ‬نَصْرَهَا‭ ‬من‭ ‬فَوْقِ‭ ‬أغلالي‭ ‬
في‭ ‬وطَنِي‭ ‬أُضيِع‭ ‬الْوَقْتَ‭ ‬بالْمَوْت‭ ‬
وأبْني‭ ‬تَحْتَ‭ ‬ظِلِّ‭ ‬السَّيْفِ‭ ‬مَهْدًا‭ ‬
وأَصنع‭ ‬منْ‭ ‬تُرابِ‭ ‬السِّجْن‭ ‬لحدًا‭ ‬
ومن‭ ‬عَظمي‭ ‬صَلِيبًا‭ ‬لي‭ ‬
‭ ‬
وأَسْمَعُ‭ ‬بَيْن‭ ‬عَصْفِ‭ ‬الرِّيحِ‭ ‬وتلاطمِ‭ ‬الأمْوَاجِ‭ ‬
لَحْنًا‭ ‬كحلْوى‭ ‬الشَّام‭ ‬يَهْمِسُ‭ ‬
إيلان‭ ‬لا‭ ‬تَخْشَ،‭ ‬أنا‭ ‬أُمُّكَ‭ ‬الثَّكْلَى‭ ‬
سنذهب‭ ‬عنْدَ‭ ‬مَنْ‭ ‬جَمَعَ‭ ‬القُلوبَ‭ ‬وقَسَّمَ‭ ‬الأحْزَان‭ ‬
لا‭ ‬ذُلَّ‭ ‬بَعْدَ‭ ‬المَوْتِ‭ ‬يا‭ ‬ولَدِي‭ ‬
فانْعَمْ‭ ‬بخلد‭ ‬الجَنَّةِ‭ ‬الخَضْرَاء‭ ‬للأبدِ‭ ‬
البَحْر‭ ‬يُعْلِنُ‭ ‬حَبَّة‭ ‬الزَّائِف‭ ‬ويَسْرِقُ‭ ‬كُلَّ‭ ‬أَحْلاَمِي‭ ‬
ويتركُني‭ ‬على‭ ‬رَمْلٍ‭ ‬بلا‭ ‬صَدَف‭ ‬ٍ
أنا‭ ‬المَنْسِيُّ‭ ‬مِتُّ‭ ‬على‭ ‬شواطئكم‭ ‬
بلا‭ ‬سَبَبٍ‭ ‬ولا‭ ‬هَدَف‭ ‬ٍ
‭ ‬
يا‭ ‬شَيْخَنَا‭ ‬الْقَسَّامَ‭ ‬كُنْتَ‭ ‬لَنَا‭ ‬إمَامْ‭ ‬
لولا‭ ‬اختِلَاسُ‭ ‬الْقُدْسِ‭ ‬مَا‭ ‬ذُبِحَتْ‭ ‬بِلادُ‭ ‬الشَّامِ‭ ‬واغتيلَ‭ ‬الحَمَام‭ ‬
لولا‭ ‬اختِلَاسُ‭ ‬القُدْسِ‭ ‬ما‭ ‬نَدَرَ‭ ‬الصِّدِّيقُ‭ ‬ومَا‭ ‬انْكَشَف‭ ‬الرفِيق‭ ‬
وتهاوت‭ ‬الأَحلَامُ‭ ‬في‭ ‬زَمَنِ‭ ‬الْكَلَام‭ ‬
وتَكَاثَر‭ ‬الأعداءُ‭ ‬والخطباء‭ ‬
ما‭ ‬كُنْتَ‭ ‬تُحْسَبُ‭ ‬يا‭ ‬أَبا‭ ‬الشُّهدَاء‭ ‬
لو‭ ‬عُدتَ‭ ‬للوطَن‭ ‬الْجَرِيح‭ ‬
أَنَّ‭ ‬القَرِيبَ‭ ‬هُو‭ ‬الرَّقِيب‭ ‬
أَنَّ‭ ‬الغَرِيبَ‭ ‬هُو‭ ‬الحَسِيب‭ ‬
ما‭ ‬كُنتَ‭ ‬تَعْلَمُ‭ ‬أَنَّ‭ ‬العَمَائِمَ‭ ‬والعساكرَ‭ ‬والخناجر‭ ‬
أَطفأَتْ‭ ‬نارَ‭ ‬اللَّهِيب‭ ‬
وأن‭ ‬أَبْنَاءَ‭ ‬الْعُمُومَةِ‭ ‬
قَد‭ ‬نَسُوا‭ ‬طَعْمَ‭ ‬الكَرَامَة‭ ‬
فاستباحوا‭ ‬مَريَمَ‭ ‬العَذْراءَ‭ ‬
ورمَوْا‭ ‬فِي‭ ‬البئرِ‭ ‬كُلَّ‭ ‬الأنبياء‭ ‬
سيظَلُ‭ ‬صوتُك‭ ‬شمْعةً‭ ‬في‭ ‬آخرِ‭ ‬الليْلِ‭ ‬الطويلِ‭ ‬
أَنَّ‭ ‬الحَياةَ‭ ‬هيَ‭ ‬الإرادة‭ ‬
والإرادةُ‭ ‬في‭ ‬العقول‭ ‬وفي‭ ‬الرَّشادَة‭ ‬
والمَحَبَّةُ‭ ‬مِنْ‭ ‬حَمَاةَ‭ ‬إلى‭ ‬الجَلِيل‭ ‬
يا‭ ‬شَيْخَنَا‭ ‬القَسَّام‭ ‬يا‭ ‬ابْنَ‭ ‬القُدْس‭ ‬
يا‭ ‬ابنَ‭ ‬الشَّام‭ ‬أَنت‭ ‬لنا‭ ‬ضِيَاءٌ‭ ‬
أَنْت‭ ‬لنا‭ ‬إمامٌ


**‭ ‬إبراهيم‭ ‬القاشوش‭ ‬منشد‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬الذي‭ ‬قتله‭ ‬النظام

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بين الثابت والمتحرك. القدس العربي 05 آذار 2020

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

  بين الثابت والمتحرك

د. نزار بدران

تتميز السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، بكونها انعكاساً لتطور الولايات المتحدة على مدى عقود، خصوصاً إنهاء زمن مضى، وهو القرن التاسع عشر، بقواه التقليدية، فرنسا وبريطانيا والدولة العثمانية، ودخول القرن العشرين، بعد اتفاقيات فرساي عام 1919، والبدء بالعد التنازلي السريع، لتراجع قوى الماضي إلى قوى القرن الجديد، المُتمثل بأمريكا من جهة والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى. 

كانت الولايات المتحدة، عندما شاركت بالاتفاقيات الجديدة التي ترسم العالم، وخصوصاً حدود دول الشرق الأوسط، وأوضاعها السياسية كانت تمثل القوى الناشئة الشابة، والتي هي الأولى التي رفعت بوجه الآخرين شعار حق الشعوب بتقرير المصير، والذي رُفع لأول مرة من طرف الرئيس ويلسون، ولكن ذلك لم يمنعه من تطبيق سياسة واقعية، تتناقض تماماً مع هذا المبدء بأميركا اللاتينية، والتدخلات الأمريكية العديدة هناك منذ القرن التاسع عشر، وكذلك رفض الوقوف مع حق الشعب المصري مثلاً بالاستقلال عن بريطانيا. نحن إذاً منذ البدء، مع دولة جديدة ناشئة وذات إمكانيات تزداد قوة، وترفع قيم المجتمعات الإنسانية الحديثة، دون التخلي بنفس الوقت، عن سياسات واقعية، هي بدورها استمرار للزمن الماضي. 

في بداية القرن العشرين، ركزت الولايات المتحدة على البعد الحضاري والثقافي، بتعاملها مع المنطقة العربية، عن طريق تطوير البعثات الثقافية والتعليمية، مقابل التدخلات الأوروبية، ذات الطابع السياسي والاقتصادي. هذه السياسة الشبه انعزالية، لم تدم طويلاً، بعد الحرب العالمية الثانية، والانهيار الكامل لقوى الماضي الأوروبي، لصالح ظهور قوتين جديدتين.

انتقلت بذلك الولايات المتحدة، من كونها قوة ناشئة، إلى موقع قوة عظمى، بجانب القوة العظمى الأخرى وهي الاتحاد السوفيتي، وتقاسمتا العالم من خلال ما يُعرف بالحرب الباردة، والتي لم تكن باردة على كل شعوب العالم، حيث يُقدر ضحاياها بالعالم الثالث ب 34 مليون قتيل، هي إذاً حروب بالوكالة بين الدولتين العظمتين.

نلاحظ في تلك الفترة أن قوة الاتحاد السوفيتي العسكرية، والتي كانت تُضاهي القوة الأمريكية، لم تكن مرتكزة على قوة اقتصادية، كما كان الحال عليه بالولايات المتحدة، فببداية الخمسينات، أي بعد الحرب مباشرة، كان الإنتاج الأمريكي يُعادل نصف إنتاج العالم، استهلاكهم للطاقة، يُعادل أكثر من الثلث، مع تطور علمي وتكنولوجي سريع، لم تعرفة أية دولة أخرى، بينما لم يتجاوز سكان أمريكا 6 بالمئة من سكان المعمورة. رغم مظاهر العظمة السوفيتية، فإن هناك خلل واضح في الأرضية الاقتصادية، التي أدت فيما بعد إلى انهيار الاتحاد السوفيتي.

بعد انهيار حائط برلين، والذي تبع هزيمة الروس بأفغانستان، وفشلهم بالانتصار،  بما سماه دونالد ريغان، حرب النجوم، أي التسابق نحو التسلح، وكذلك الانفجار النووي الرهيب بتشورنوبيل الأوكرانية عام 1986، تفردت الولايات المتحدة، بلعب دور الدولة العظمى، وأصبحت تُسمى دولة القطب الواحد، وهو ما أدى ببعض أساتذة السياسة، من التصور بأننا وصلنا حقاً إلى نهاية التاريخ. 

طبعاً ظهور الصين ابتداءً من سنوات الثمانينات، مع سياسة دينغ كساو بينغ، الاقتصادية وتطورها السريع، أدى لعودة جزئية، لمفهوم العالم ذا القطبين أو المُتعدد الأقطاب.

في إطار هذا العرض العام، ما هي نقاط الثبات بالسياسة الأمريكية ونقاط التحول، الحقيقة أنه لا يمكن أن توجد وبشكل دائم وأبدي، نقاط ثابتة لأي سياسة مهما كانت، ولكن هناك سياسات توضع لمدى طويل استراتيجي، وأخرى سياسية قصيرة الأمد أو تكتيكية.

بحسب الباحثين الأمريكيين أنفسهم، وأذكر منهم  فيليب غولاب، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بباريس حديثا، وجورج بول مساعد وزير الخارجيه الأسبق بالستينات، فهناك ثلاث نقاط، تُعتبر الثلاثي المقدس بالسياسة الأمريكية بالشرق الأوسط، حتى سقوط الاتحاد السوفيتي سنة 1991 تهدف جميعها إلى تمكين الرأسمال والاقتصاد الأمريكي، من السيطرة التامة على مُقدرات العالم، مُستعملة القوة الخشنة، أي العسكرية والاقتصادية، بالإضافة إلى القوة الناعمة، أي العلوم والتكنولوجيا والثقافة والسينما، في خدمة هذا الهدف الوحيد.

الثلاثي السياسي المقدس الأمريكي هو أولاً، الوقوف ضد التمدد الشيوعي واحتواءه، ويتم ذلك عن طريق دعم الأنظمة الديكتاتورية المحافظة، والتصدي لكل القوى المُعارضة لها، ديمقراطية كانت أو غير ديمقراطية، تحت حُجة انتمائها للمعسكر الشيوعي.

المحور الثاني، هو تأمين تدفق النفط خارج المنطقة، عن طريق منع أي تحالفات أو تغيرات سياسية ممكنة تتناقض مع هذا الهدف، مثال ذلك، اتفاق أمن الخليج لعام 1945، أو اسقاط محمد مُصدق بإيران عام 1953، وعودة الشاه.

المحور الثالث الذي حصل في مرحلة متأخرة نسبياً، هو الدعم والالتزام الأمريكي بسلامة واستمرارية دولة إسرائيل، بعد تراجع الدور الأوروبي.

هذه المحاور الثلاث، تُمثل السياسة الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى لحظة انهيار الاتحاد السوفيتي، وهي كما يجب أن نفهمها، مترابطة وليست نقاط متفككة، فدعم إسرائيل هو أيضاً للحفاظ على ديمومة الأنظمة الديكتاتورية المحافظة، والتصدي للتوغل الشيوعي، دعم الأنظمة المحافظة هو أيضاُ للمحافظة على وسائل النفط وإبعاد الخطر الشيوعي. وحدها المحاولات القومية، كما حدث مع الرئيس عبد الناصر أو مُصدق في إيران، من وضع على المحك هذه السياسات وحاول إفشالها، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، واستطاعت السياسة الأمريكية أن تحقق كل مرة أهدافها، فهزيمة عام 1967، وضع حداً لحلم عبد الناصر القومي، والإطاحة بمصدق أنهى أمل الإيرانيين بالتمكن من ثروتهم النفطية.

وحدها الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، بقيادة الإمام الخميني، من استطاعت إزعاج هذه السياسات ولمدة طويلة نسبية، وما نراه لحد اليوم من حصار لإيران، إلا محاولة أمريكية لإعادة الأمور إلى نصابها، وهو على ما يظهر، على طريق النجاح. الحروب الطويلة الأمد، هو أكبر مانع للشعوب والدول من التقدم الاقتصادي، وحسب الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، بمقابلة حديثة، فإن ما سمح للصين بالوصول لما وصلت إليه، هي إنهاؤها لكل الحروب، التي كانت قد شاركت بها بنهاية السبعينات، وهذه نظرية اجتماعية لعلماء التاريخ، فلا حضارة ممكنة إلا بوجود السلام الدائم. لذلك فإن إدخال إيران ودول المنطقة العربية، وحتى روسيا، باُتون حروب طويلة مكلفة، هي أحد وسائل السياسة الأمريكية، لإبقاء هذه الأطراف، بموقع الضعيف والغير قادر على البدء بعملية بناء مستقلة، قد تُهدد المصلحة الاقتصادية الرأسمالية الأمريكية. ولكن للأسف هذه الأنظمة الاستبدادية، تستعمل هي أيضاً هذه الحروب، لإبعاد أي أمل ديمقراطي تغييري داخلي، فهي بشكل واعٍ أو غير واعٍ، باتباع سياسة الحروب، تُنهي أي أمل حقيقي بالوقوف أمام الهيمنة الأمريكية.

بعد انتهاء فترة الاتحاد السوفيتي، دخلت السياسة الأمريكية بوضع جديد، وهو الانفراد وسياسة القطب الواحد، وأصبحت تدخلاتها العسكرية أكثر حِدة، وبدون أي رادع، وهو ما أدى إلى حروب الخليج الثانية والثالثة، والتي كانت سابقاً، بحرب الخليج الأولى، حرب أمريكية ضد إيران، ولكن بأيادي عربية. كذلك فرض اتفاقيات أوسلو لصالح الطرف الإسرائيلي، بعد الانفراد بالفلسطينيين، والانتقال بمفهوم تحرير فلسطين، إلى مفهوم إقامة فلسطين، على جزء محدود منها.

نرى لذلك، أن الأهداف المُقدسة السابقة الذكر، التي حكمت السياسة الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد بدأت بالتغيير:

أولاً: لم يعد هناك حاجة للحد من المد الشيوعي بعد انهيار حائط برلين والاتحاد السوفيتي، وخروج دول عديدة منه، ودخولهم الاتحاد الأوروبي، حليف أمريكا. 

ثانياً: لم تعد الحاجة للنفط القادم من الشرق الأوسط بنفس الحدة، فالإنتاج الأمريكي من النفط الصخري، والتطور التكنولوجي، والحصول على مصادر مُتجددة للطاقة، أدى إلى أن تستقل أمريكا بشكل كامل اقتصادياً، ولم يعُد هناك ما يُهددها وجودياً، إن توقف إنتاج النفط العربي أو الإيراني. بالمقابل ازداد الطلب العالمي على النفط، وخصوصاً الطلب الصيني، والتي أصبحت القوة الاقتصادية الثانية بالعالم. الخطر السوفيتي انتهى، ولكن أمريكا تواجه خطراً من نوع آخر، وهو الخطر الاقتصادي الصيني العارم، لذلك فإن الاهتمام بمصادر النفط بالشرق الأوسط، أمريكياً سيستمر، حتى تستطيع أن تتحكم أمريكا، بمصادر تمويل الصين النفطية، عن طريق كَم الانتاج المسموح به وسعره. 

ثالثاً: هذا المحور للسياسة الأمريكية، وهو الدعم لإسرائيل، ما زال على حاله، بل ازداد، بسبب انعدام الاستقلالية العربية سياسياً واقتصاديا. الدور الإسرائيلي أمريكياً، انتقل من حاجة إسرائيل لحماية أمريكا من الخطر العربي (كما كان زمن عبد الناصر مثلاً)، إلى الحاجة إلى إسرائيل قوية، لدعم الأنظمة المحافظة، أمام ثورات شعوبها، هذا ما نراه وما يُفسر، التقارب العربي الإسرائيلي بين دول الثورات المضادة، المُعادية للربيع العربي، وإسرائيل. فهي تريد أن تحمي نفسها، وتجلب التعاطف الامريكي، عن طريق الارتماء بالحضن الإسرائيلي، لم تعد إسرائيل موجودة لمنع أي تحالفات بالمنطقة، قد تؤدي إلى تهديد وسائل نقل النفط، والذي قلت أهميته، وإنما فقط الحفاظ على وضع سياسي عربي مُفكك، لمنع أي انتصار للربيع العربي، أو تكامل وتضامن الشعوب العربية، بأُطر أنظمة ديمقراطية، ستكون بشكل شبه أكيد، خارج إطار السياسة الأمريكية. المد الإسلامي المُتطرف وظواهره العنيفة، هي أيضاً جزء لهذه السياسات الهادفة لخنق الربيع العربي.

ما هي السياسات الأمريكية المُستقبلية، بناءً على مُعطيات الماضي والحاضر، من الصعب التنبؤ بذلك، ولكن يبقى هناك أمل بالتغيير، نتيجة أشياء عدة صغيرة حالياً، ولكنها قد تكون كبيرة غداً، أولاً وأهم شيء، انتشار الوعي وانتفاضة الشباب العربي، ضد كل مخلفات القرن العشرين، من تبعية وتجزئة، وأنظمة شمولية وأنظمة عسكرية، وخنق للحريات حتى نلحق بدول العالم.  ثانيها، تطور الوسائل البديلة للطاقة، وتراجع دور النفط بالمستقبل، مما سيحد من الأهمية الاستراتيجية من وجود الأنظمة المحافظة بالسياسة الأمريكية، وإمكانية التخلي عنها تدريجياً، وهو ما قد يؤدي بشكل آخر إلى تقليل الاهتمام بالدور الإسرائيلي كفاعل مهم بالسياسة الأمريكية. وما تصريحات مرشح الرئاسة ساندرز، بأمريكا وغيره، وتغير لغة الصحافة هناك، إلا بدايات بسيطة لتحول ممكن.