معايير الحضارة وحلم فيكتور هيجو

 

 نشر بالعربي الجديد بتاريخ 21  كانون الثاني 2017

معايير الحضارة وحلم فيكتور هيجو

نزار بدران

 

قد يظن البعض أن الحضارات تتطور فقط بفعل الإنسان كفاعل مباشر وحيد، وذلك عن طريق التقدم العلمي أو الاجتماعي وغيره من الأنشطة الإنسانية النبيلة، ولكن الحقيقة أن هذه الأنشطة، هي نتاج للفعل الحضاري وليست سببا له. أسباب الحضارة أو شروطها، قد حُددت من قِبل المؤرخين، وخصوصاً من اهتم منهم بالتاريخ الشامل، أو ما يُسمى التاريخ طويل الأمد، والذي وضعت اُسسه في النصف الأول من القرن العشرين.

هذه الشروط لم توضع اعتباطياً، وإنما بعد دراسات تاريخية موثقة، عن كيفية إنشاء وإنتهاء الحضارات. وقد نذكر أن أول من اهتم بهذا الأمر، كان ابن خلدون، خلال القرن الرابع عشر الميلادي، عندما حدد أسباب نشوء وانهيار الأمم والإمبراطوريات.

مثل هذه الأبحاث والتحليلات التاريخية، ليست وُجهات نظر المؤرخين، وإنما هي حقائق علمية، ُثبت بالدراسة تكرارها، مما أكد حقيقتها. يذكر مؤسس التاريخ الشامل فيرنان بروديل، وهو الدارس للحضارات المتوسطية ومرجعيتها بالعالم، أن نشوء أي حضارة استوجب ثلاثة شروط، وهذا ينطبق على الإمبراطورية الرومانية والإسلامية وغيرها في الشرق الأقصى وباقي العالم.

أولى هذه الشروط، هو وجود أرض شاسعة واسعة متكاملة ومتناسقة، الشرط الثاني، هو وجود أناس بعدد كاف يسكنون هذه الأرض ويعملون بها، تجمعهم قواسم مشتركة، وثالثها مرور فترة زمنية كافية من السلم، حتى تستطيع شعوب هذه الأرض أن تبني حضارة مشتركة. هذه حقيقة أشياء بسيطة ومنطقية، ولا نحتاج لجهد كبير حتى نُقنع بعضنا بصوابها.

الآن لو أردنا تطبيق هذه الشروط على أوضاعنا العربية، لوجدنا أننا قد قمنا بأيدينا بإنهاء كافة هذه الشروط وتدميرها، وكأننا لا نريد أن ننتمي لأي حضارة، ولا نريد أن ينشأ عندنا أي مستقبل لأبنائنا. نحن في الوطن العربي لنا أرض شاسعة، متناسقة ومتكاملة وتحوي ثروات متنوعة، من المعادن والزراعة والماء والشمس والهواء وغيرها، ولكن هذه الأرض قُسمت إلى 22 قطعة، مُحاطة بحدود لا يستطيع حتى الذباب تجاوزها، بدون إذن وفيزا، وكأن هناك من يريد أن يمنعنا من الخروج من الأقفاص التي وُضعنا فيها.

عندنا أيضاً الشرط الثاني، أي الشعب الكبير العدد، والمتناغم اللغة والعادات، وأغلب الأحيان المُعتقدات، 400 مليون مواطن، ولكنهم قُسموا إلى شعوب وقبائل مُتنافرة، لا تستطيع الاتصال بفعل الحدود، بل تتقاتل فيما بينها، داخل أقفاصها الضيقة، لتأكل الفُتات. ولتثبيت هذه الحدود، وهذه الصراعات الداخلية، أوجدنا لأنفسنا حكومات وسلطات لا يهمها إلا نفسها، وتتصرف كأن الوطن الصغير لكل شعب، هو ملكها الخاص، تُغلق عليه كل النوافذ والأبواب.

الشرط الثالث للحضارة، وهو الفترة الطويلة للسلم، لست بحاجة للكتابة عنها، فنحن لم ننعم من أكثر من قرن بيوم واحد من السلام، فإما حروب بين هذه الدول المشكلة للأمة، وإما قمع عنيف لحراك جماهيرها، أو قتال مع الجيران، كما رأينا في الحرب بين العراق وإيران.

تتوفر إذن للأمة كل شروط الحضارة، ولكنها دمرتها بأيديها، وقد نقول أيضاً بسبب الاستعمار وتدخل إسرائيل والقوى الأخرى، ولكن هذا التدخل ما كان ليحصل، لو حققنا شروط الحضارة فيما بيننا، بدل التقاتل والتجزئة.

لو أخذنا مثال أوروبا، فسنرى أن الاتحاد الأوروبي، حقق الشروط اللازمة لبناء حضارة عريقة، فهناك الأرض الشاسعة، حتى ولو كانت أقل ملاءمة وتكامُلاً من الأرض العربية، وهناك 500 مليون مواطن، حتى لو كانوا أقل تناغماً وتشابهاً من الشعوب العربية، فهؤلاء يتكلمون لغات عديدة، وينتمون لحضارات مختلفة، ولكنهم أمنوا لأنفسهم الشرط الثالث: أكثر من سبعين عاماً من السلام الداخلي الدائم، بعد أن قسمتهم ودمرتهم الحروب العالمية الأولى والثانية وما سبقها، 1000 عام قبل تلك الفترة، لم تعرف أوروبا يوماً واحداً من دون حرب.

الولايات المتحدة الأمريكية، أمنت نفس الشروط الثلاثة، من شعب كبير 320 مليون، على أرض شاسعة وشعوبا مختلفة عرقياً ولغوياً، ولكنها تعيش بسلام داخلي منذ عشرات السنين. قد نرى الشيء نفسه إزاء الهند أو الصين الحديثة أو إزاء البرازيل.

لن نستطيع حقاً بناء أي حضارة، كل على حده، وداخل أقفاصنا الصغير، حتى لو امتلكنا البترول والذهب والفضة. لن نستطيع بناء شيء ذا معنى، إلا إذا جمعنا أرضنا بأرض واحدة، وشعوبنا بأمة واحدة، وإنهينا حروبنا الداخلية العقيمة، وأسسنا للسلم الداخلي، الدائم والطويل، المبني على العدل والمساواة بين الناس، مهما كانت طوائفهم ولغاتهم وأعراقهم.

الأوطان المُتحضرة الحضارية، تُبنى بسواعد أبنائها، خصوصاً الذين يُوفرون لها شروط نجاحها، كما فعل غيرنا رغم حروبهم السابقة، فنحن لنا الأرض الواسعة، التي باركها الله، ولنا أمة واحدة كبيرة، حتى لو اختلفت أديانها وأعراقها ولغاتها، وننتمي لحضارة واحدة، كانت في السابق قد حققت هذه الشروط الثلاثة، فمتى ستنتهي حروبنا الداخلية وصراعاتنا، التي لا تخدم إلا أعداءنا؟.

ولنذكر بالحلم الأوروبي لفيكتور هيجو، مؤلف “البؤساء” في خطابه أمام مجلس السلم العالمي بباريس، عام 1848، أي قبل أكثر من قرن قبل بناء الاتحاد، والذي تلته وسبقته حروب ضروس بين هذه الدول. قال الشاعر والكاتب العالمي، وأمام سُخرية البعض من الحضور: “إنكم تقولون اليوم وأقول معكم، كلنا هنا نقول لفرنسا وإنجلترا ولبروسيا وللنمسا ولإسبانيا وإيطاليا وروسيا، نقول لهم: سيأتي يوم تسقط فيه الأسلحة من أيديكم، يوم ستبدو فيه الحرب سُخف، وستكون مستحيلة بين فرنسا وبريطانيا، وبين سان بترسبورغ وبرلين، وبين فيينا وتورينو.

سيأتي يوم، لا تكون هناك ساحات قتال، وإنما أسواق مفتوحة، للتجارة وعقول تتفتح للأفكار، سيأتي يوم تُستبدل فيه القنابل والرصاص، بالانتخابات وبالإقتراع، بالتحكيم المُحترم لهيئة مُستشارين عُظمى، تكون بالنسبة لأوروبا، مثلما هو البرلمان بالنسبة لإنجلترا والمجلس التشريعي لفرنسا.

من هنا فإن هدف السياسة العظيمة، السياسة الحقة، هو الاعتراف بكل الجنسيات، وإعادة إحياء الوحدة التاريخية بين الأمم، وجمعها كلها في حضارة واحدة، هي حضارة السلام، جماعة حضارية واحدة، تُضرب مثلاً للأمم التي لا تزال بربرية متوحشة، ليكون للعدل الكلمة العليا والأخيرة، التي كانت في الماضي للقوة”.

تحقق حُلم فيكتور هيجو، بعد قرن من خطابه، وبعد ملايين القتلى الذين سقطوا في الحروب العالمية بالقرن العشرين. هل نستطيع بأمتنا العربية، أن نوفر علينا هؤلاء القتلى، وهذه السنين الضائعة؟.

أضف تعليق