نشر بالقدس العربي بتاريخ 10 تموز 2017 مقال بقلم نزار بدران
أحداث الخليج الأخيرة، وتمزُق مجلس التعاون الخليجي، الذي فشل تماماً، ومنذ نشأته بتحقيق أي خطى حقيقية للوحدة، بمفهومها الشعبي، فتح الحدود أمام حركة الأشخاص والبضائع بدون عائق، والتكامل التدريجي للقوانين الداخلية لأعضائه، وانتهاج سياسات خارجية واقتصادية واحدة وتوحيد العملة. بدل ذلك لم يعمل المجلس طوال عهده، إلا على الهاجس الأمني، وتأمين حكم القلة، ذي الطابع القبلي، مُتلفحاً بغطاء الدين والشورى والبيعة.
الربيع العربي تعثر في دول كثيرة، وبأشكال مختلفة، بسب تعنت الأنظمة العربية، وإصرارها على الاستمرار بالحكم، رغم التغيرات الاجتماعية الكبيرة، التي حصلت بهذه الدول منذ أكثر من ثلاثين عاماً، خصوصاً على مفهوم تطور الطبقة الوسطى، وعولمة الاقتصاد والثقافة والعلم، ولكن ايضا المعلومة والفكر، الذي لم تستطع الحدود الجغرافية لدولنا العربية، منعه من الدخول إلى عقول وأفئدة الشباب.
رجال ونساء السياسة الحقيقيون، هم هؤلاء الناس، الذين فهموا ويفهمون، آليات مجتمعاتهم و القوى الاجتماعية الفاعلة بها، والذين يطورون خطابهم ومشروعهم السياسي والاجتماعي، بناء على تلك المعطيات المتغيرة دائماً. هنا تكمن صعوبة السياسة، لأنها بالإضافة للمعرفة والعلم الأكاديمي بحاجة إلى قوة الملاحظة والمتابعة وتصور الأشياء كما هي أو كما قد تكون. رجل السياسة القوي المؤثر هو ذلك الإنسان الذي يستطيع فهم مجتمعه ويطرح بناء على هذا الفهم الحلول المناسبة.
قوى المجتمع المختلفة والتي تعبر عن مصالح متناقضة يعبر عنها بالدول الديمقراطية بالأحزاب السياسية، والتي تضع بالسلطة وبالتناوب سياسيين من اتجاهات مختلفة وذلك للحفاظ على توازن المجتمع، فالذهاب بعيدا باتجاه يعدله فيما بعد الذهاب باتجاه آخر بناء على الحكم الشعبي الانتخابي.
في دول الخليج العربي ولكن أيضا بمعظم الدول العربية الأخرى لا يوجد رجال سياسة بهذا المفهوم وإنما أشخاص يعبرون عن مصالح شخصية عائلية أو قبلية لا دراية لهم بتناقضات المجتمع ولا بوسائل تماسكه، لا يملكون المقدرة لتوقع ما سيحدث ، وجودهم بمركز السلطة ليس بناء على معرفتهم العميقة بمجتمعاتهم أو لحملهم رسالة فكرية أو اجتماعية يريدون توصيلها، هؤلاء موجودون تقريبا بالصدفة إما بالوراثة والتي لا تعطي معرفة خاصة ، وأما الانقلابات العسكرية.
عندما كانت معادلة الحكم مبنية على العصبية المهيمنة التي تصل بالقوة وتتعامل مع باقي العصبيات الضعيفة من منظار الزبائنية (كما شرحها ابن خلدون) كانت هذه الأنظمة تملك القاعدة الصلبة لبقائها لأنها كانت تعامل المجتمع وقبائله من مفهوم الزبائن والواسطات والمصالح الشخصية الضيقة ، فالوظيفة أو التسجيل بالجامعة أو الحصول على عمل بالإدارة أو درجة أعلى أو فتح مشروع تجاري هو في معظم الأحيان نتاج منظار زبائني للحصول على الولاءات وليس من منظور المصلحة العامة، حتى الحصول على العلاج يكون في بعض الدول بمكرمة من هرم السلطة بدل أن يكون حقا للمريض وواجبا على المسؤول.
عندما انقلب الوضع مع الربيع العربي ورفض جيل الشباب المعولم الجديد هذا المفهوم وهو الطائق إلى الانفتاح على العالم وعلى مجتمعاته والراغب في تفجير طاقاته لصالح وطنه ، لم تستطع هذه الطبقة الحاكمة بكل أشكالها أن تتعامل معه وهو ما أدى إلى ذلك التخبط بالسياسات الحالية والتي قاسمها المشترك هو درء الخطر القادم على هذه العائلات الحاكمة أو المستولين على السلطة لأهداف مافوية. هؤلاء حتى ولو أرادوا ليست لهم المقدرة المعرفية والحنكة السياسية لمماشات التطورات الاجتماعية العميقة الحادثة بأوطاننا والتي طبعا لم يتابعها أحد من أفراد السلطة أو الأبواق الإعلامية و أشباه المفكرين الذين يهللون للسلطان دائما.
أجوبة الأنظمة حاليا ليست أبدا عقلانية ولا تعكس فهما سياسيا لمن يملك السلطة ، لذلك فلا أظن أننا سنجد بالايام والسنين القادمة توازنا جديدا للقوى الفاعلة بالأمة لوضعها على طريق الحداثة والسلامة.
الحروب المدمرة بالعراق وسوريا وليبيا واليمن والقمع بالبحرين وغيرها هو نتاج هذا الجهل الذي يطبع انظمتنا، فهي لن تستطيع طرح أي حل مبني على الوعي والمصلحة العامة وستبقى أسيرة الحس الأمني المرهف والرعب من ما ينتظرها بقادم الأيام عندما بدأت تستشعر فقدانها للنظام الثابت الزبائني الذي عاشت عليه لعشرات السنين.
كاتب عربي