الوجه الأصفر المريض لفرنسا
منذ 21 ساعة

تتجه الأنظار هذه الأيام إلى فرنسا، وخصوصاً باريس، بسبب الاحتجاجات الشعبية، والتي شابها بعض العنف وتحطيم الأملاك العامة والخاصة، من طرف بعض المتشددين.
نُشر عديدٌ من المقالات والتحليلات عن هذا الحدث، والذي هو بشكل عام، شبه عادي، ففرنسا معتادة على المظاهرات والاحتجاجات والاضرابات، منذ عشرات السنين، وأحداث مايو/ أيار 1968، زمن الرئيس الأسبق شارل ديغول، كانت عنصراً مؤسساً للجمهورية الفرنسية الحديثة، وإرساء مبادئ العدالة والمساواة.
لكن الاهتمام بالأحداث الأخيرة، يعود مصدره إلى أوجه اختلاف، مع ما حدث سابقاً، وأوجه تشابه مع ما يحدث بدول أوروبية وغربية أخرى. فمثلا عدم وجود انتماء حزبي للمتظاهرين الصفر، وهم القادمون من خارج الأطر المعروفة، منهم من أقصى اليسار ومن أقصى اليمين، وما بينهما، يجمعهم التشكيك بكفاءة الأحزاب والنقابات، أو ما يسمونه بفرنسا الأجسام الوسيطة، للعب دور تمثيل الجماهير، كما كان يحدث دائماً. يجمعهم أيضاً التشكيك بصدقية ونزاهة الإعلام، بكل اتجاهاته وأشكاله، المكتوبة أو المرئية أو المسموعة، وحدها وسائل التواصل الاجتماعي، من تحمل الأخبار وتنقل الشائعات.
اختلاط الحابل بالنابل
هذه مظاهرات اختلط فيها الحابل بالنابل، فبجانب مطالبهم الأصلية بإلغاء زيادة الضرائب على المحروقات، تمددت فيما بعد إلى أكثر من أربعين مطلباً، منها رفع مستوى الحياة، فهناك من يتظاهر لإلغاء رفع كُلفة التسجيل في الجامعات على الطلبة الأجانب، مقابل من يتظاهر لأنه يتهم ماكرون ببيع فرنسا للأجانب، مع توقيعه المُنتظر على اتفاقية الأمم المتحدة في مراكش، المُخصصة لاحترام حقوق اللاجئين بالعالم.
نحن أمام صورة حديثة للاحتجاجات، المُشككة بفعالية ومصداقية الوسط السياسي والنقابي، رأينا ذلك حديثاً بإيطاليا، مع وصول اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين إلى السلطة، أو إسبانيا مع وصول حركة بودموس، القريبة من اليسار للحكومة، رأينا ذلك بالبريكسيت البريطاني، مع التصويت عام 2016، على الخروج من أوروبا، ضد إجماع الوسط السياسي والإعلامي على البقاء، كذلك وصول دونالد ترامب لرئاسة أمريكا، رغم امتعاض حزبه نفسه من ترشيحه، أي الحزب الجمهوري، ورغم معارضة شبه إجماعية للإعلام والأوساط السياسية.
ماذا يحدث إذاً في العالم الغربي، الحقيقة أن العولمة المشهورة، لم تعد تعني للناس العاديين، إلا زيادة غنى الأغنياء والتضييق على الفقراء والطبقات الوسطى. العولمة لم تعني إلا حرية الحركة لرأس المال، للتنقل والربح، ولا تعني أبداً، فتح العالم أمام الناس العاديين، بل نرى عكس ذلك تماماً، مع التشديد على قوانين الهجرة.
الطبقات المهمشة
هو إذاً، رد فعل الطبقات الوسطى والمهمشة، على جشع الأغنياء المعولمين. الإعلام والأحزاب والنقابات، لم يكن لها دور يذكر بمقاومة ذلك، فهي متهمة في أحسن الأحوال بالفشل، بمواجهة النتائج السلبية للعولمة، وبأسوأ الأحوال، بالتحالف مع الرأسماليين والشركات الكبرى.
يوجد الرئيس إيمانويل ماكرون، بموضع لا يُحسد عليه، فبعد أن كان من الأوائل في الصف الأوروبي، نراه الآن يتراجع عن إصلاحاته المالية، مُهدداً بذلك، تحالفه مع ألمانيا، حيث ستبقى أنجيلا ميركل، وحيدة للقيام بتنقية الاقتصاد والحسابات الأوروبية، أمام مزيد من الدول المُعادية لذلك كإيطاليا، أو التي لم تعد تستطيع ذلك كاليونان، فرنسا كانت بالنسبة لألمانيا أهم حليف في هذا المجال.
تهكم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، واستنتاجه من الاحتجاجات الفرنسية، بنجاعة سياساته الانفرادية، وغير المكترثة بالتغييرات البيئية، يُظهر مدى الهوة، بين النخب الأوروبية المشغولة بوضع برنامج فعال للحد من التغييرات البيئية، والمواطنين الذين لم تعد لهم المقدرة على تسديد فواتير الكهرباء.
هل تُهدد حركة السترات الصفراء، الديمقراطية الفرنسية؟، كثيرون يطرحون هذا السؤال، ولكنهم في الحقيقة يُعبرون عن خوفهم، وخوف أحزابهم أو نقاباتهم، أو إعلامهم، من الهبوط أكثر إلى القاع، أمام الوجه الجديد للعولمة، تلك التي تأخذ بالحسبان اهتمامات ومشاكل الناس البسطاء، وليس فقط مصالح الرأسمال والمُفرطين في الثراء، والذين استفادوا من إلغاء ماكرون لضريبة الثروة عليهم، ببداية عهده. قد يمر هذا التغيير بمراحل عديدة، منها وصول حركات شعبوية للسلطة، ولكنها بالنهاية ستُعيد التوازن، بين الاقتصاد وضرورة تطوره والمجتمع، وضرورة احترام حق المواطن، بالاستفادة من العولمة والتوزيع العادل للدخل والثروة.
هل هناك أوجه شبه بين الأحداث الفرنسية والربيع العربي؟، ظاهرياً الأحداث تختلف تماماً، فنحن من جهة نطالب بالحرية والديمقراطية وإسقاط الأنظمة الاستبدادية، بينما في فرنسا يطالب الناس بمزيد من الاصلاحات الاقتصادية الديمقراطية والتوزيع الأعدل للثروة. الربط قد يتم عن طريق البعد العالمي والإنساني لكلا الحراكين، فهما الإثنان، امتداد لحراك عالمي، ففرنسا وصلها الحراك التغييري، الذي أصاب عددا من الدول الغربية قبلها، ونحن بالوطن العربي، عشنا ونعيش، ما حصل في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية.
ولكن في النهاية الاثنان يدافعان عن قيم عولمة جديدة، فالمواطن العربي، يسعى للمشاركة بانتخاب واختيار صُناع القرار، والمواطن الفرنسي، يسعى للمشاركة باتخاذ القرار وليس فقط انتخاب من يصنعه، هي مراحل مُتتالية، بدأت هنا بفرنسا، منذ نهاية القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية، وما زالت متفاعلة، نأمل أن تكون المسافات والأزمان، أقصر في بلادنا، للوصول لحقوقنا الإنسانية، كما فعل غيرنا في أوروبا، أو أنحاء كثيرة أخرى في العالم.
مراقب ومحلل سياسي مقيم في باريس
التعليقات