نشر بصحيفة الحياة تحت عنوان النموذج التركي الناجح يتراجع نتيجة احلام العظمة ورهاب المؤامرات 01/07/2017
تركيا وضياع الأندلس
نزار بدرن
ومن الحب ما قتل، مثل عربي قديم، ينطبق على الوضع التركي الحالي، فتركيا أردغان، استطاعت أن تدخل قلوب الناس عرباً ومسلمين، منذ وصول الأغلبية الإسلامية للسلطة بالطرق الديمقراطية، ونجاحها الواضح في تحسين الوضع المعيشي للسكان، وانفتاحها على مكونات المجتمع المدني.
حبنا لتركيا إذن، كان من مُنطلق النموذج الجميل، الذي أحببناه لأنفسنا، لو استطعنا لذلك سبيلا، ولكن هذا الحُلم بتوسع النموذج على الدول العربية والإسلامية، وهذا الأمل الذي كان يُداعبنا، بإمكانية أن تصل الدول الأخرى، إلى نفس المستوى، من الحرية والديمقراطية والرخاء، بدء يتلاشى ويغرق، في متاهات الانقلابات السياسية ألمتتابعة التي تبناها رجب طيب أردغان وحزبه، والتي ذهبت بالاتجاه المُعاكس تماما لما نحلم به ونأمله لتركيا وأنفسنا.
حُبنا للنموذج التركي، لا يجب أن يِعمينا عن الواقع الجديد، والتقهقر اليومي والعودة إلى زمن شياطين الماضي. فبدل أن تقترب دولنا من النموذج التركي ألناجح بدأت تركيا باللحاق بالنماذج العربية التسلطية.
يمكننا توزيع هذه التقهقرات، إلى عدة أشكال، أول أشكال التقهقر هو الإخلال بالحريات والحقوق العامة، فالنظام التركي، وحتى قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، بدء بإغلاق المحطات الإعلامية، والمنابر الصحفية المُعارضة له، واستمر ذلك بقوة أكبر بعد الانقلاب، زج عدد كبير من الصحفيين بالسجون، وهروب الآخرين للخارج. بحسب إحصائيات بداية هذا العام، تم إغلاق 180 محطة ومركز إعالمي وصحيفة، 2100 مدرسة، 1254 جمعية.(1)
واكب ذلك التدخل بالقضاء التركي، لتجييره لأهداف سياسية، ونحن نعلم أن الفصل بين السلطات، هو القاعدة الصلبة للأنظمة الديمقراطية، والتدخل بها كما يحدث في مصر، هو دليل الاتجاه نحو الحكم الشمولي.
ثاني هذه الظواهر، هو الاتجاه الواضح لأردغان، نحو الانفراد بالسلطة، والإمساك شخصياً بكل مفاصل الحياة العامة، حتى ولو أخذ ذلك شكل استفتاء شعبي، فالتغييرات بحد ذاتها، تُكرس معظم السُلُطات، إن لم نقل، كُلها بيد شخص واحد، والذي لم يتخلى، حتى بعد انتخابه رئيساً لبلده، عن رئاسة حزبه الأصلي. وقام أيضاً باستغلال ألانقلاب الذي أفشله الشعب التركي، للانقضاض على كل المعارضين، المحتملين داخل الجيش والإدارة، مما أدى إلى تسريح عشرات الآلاف من الموظفين، وكبار كوادر ألدولة مؤدياً بشكل واضحٍ، إلى تدهور الإدارة وكفاءة الجيش التركي، وتراجع الوضع الاقتصادي. ولإعطاء مثل على ذلك، وحسب إحصائيات كانون ثاني لهذا العام، منذ الانقلاب ألفاشل بلغ عدد المُسرحين من العمل 105 آلاف شخص، وعدد المساجين، بمن فيهم رجال الأعمال العديدين 32300. (1) وهذه الارقام تزايدت بشكل كبير منذ ذلك التاريخ , هؤلاء المسرحيين ومنهم اساتذة جامعات ( 4811 استاذ) واساتذة ابتدائي وثانوي(30000) هم بحالة موت اقتصادي واجتماعي ومدني لمنعهم من العمل والحصول على حقوقهم الاساسية بالتقاعد والتوفير او السفر للخارج وبدون أي منطق قانوني مؤديا الى حالات انتحار عديده(2).
الشكل الثالث للتقهقر، هو التراجع عن حقوق الأقليات، ونذكر هنا بالتحديد الأكراد، بعدما كان الانفتاح نحوهم، سياسة ناجحة لسنوات، وهو طبعاً بحجة محاربة الإرهاب، وهو ما يُزعزع وحدة البلاد، ويؤجج النزعات القومية الكردية والتركية، واضعاً إياهما وجهاً لوجه.
ولكن الشكل الأهم، هو تدهور الوضع الاقتصادي، والناتج عن هروب المُستثمرين والسواح، فبعد أن كانت تركيا تُسمى بنمر الأناضول، بدأت المؤشرات الاقتصادية بالتراجع.
ما بين عام 2002-2012، كان مُعدل النمو الاقتصادي السنوي5%، كحد أدنى، وانخفض عجز الميزانية من 74 %، من الناتج القومي، إلى 33%، بخلال العشر سنوات. وكانت المراكز الدولية، بمراقبة الاقتصاد، تضع تركيا كل عام، برتبة أعلى من سابقتها. اليوم وبعد التوجه السلطوي لأردغان، انخفضت الاستثمارات إلى النصف، بلغت 7 مليار يورو بالثلث الأخير لعام 2016، بدل 13,3 مليار يورو لنفس الفصل من العام 2015.
انخفض عدد السواح ب 37 %، ما بين 2015-2016، ونتيجة لذلك، انخفضت قيمة الليرة التركية مقابل الدولار، مؤدية إلى ازدياد التضخم والذي تجاوز 8 % في عام 2016، وهو ما يعني ارتفاع الأسعار(3). لا نريد أن نزيد على القاريء بالأرقام، ولكن الوضع السياسي، وتزايد التوجه السلطوي للسيد أردغان، يُعتبر من قِبل معظم المحللين الاقتصاديين، السبب الرئيسي لهذا التدهور.
الشكل الأخير، هو التذبذب والتخبط بالسياسة ألخارجية بعد أن كانت سياسة أردغان، نموذجاً بالذكاء والتوازن، مما مكن تركيا، من دخول كل أسواق الدول الإسلامية والعربية، ولم يلتزم حقيقة، إلا بسياسة البقاء داخل الحلف الأطلسي والتبعية للولايات المتحدة، وإعادة العلاقات الطبيعية الاقتصادية والسياسية مع إسرائيل.
السبب الأساسي لكل ذلك، هو تراجع الحلم الأوروبي، هذا الخطأ منذ الأساس، ليس مرتبطاً بالنظام الحالي، بل بكل السياسات المتبعة منذ سنوات الستينيات، والإنضمام للحلف الأطلسي، وهو الذي كان بزمنه يعني، تقبل تركيا أن تكون ساحة المعركة الممكنه بين الغرب والاتحاد السوفيتي. تركيا أيام الحرب الباردة، كانت قاعدة للصواريخ الأمريكية المُوجهة لروسيا، وهو ما يعني دمارها، بحالة حرب نووية بين العملاقين .لعبت تركيا إذن، دور الجندي الغيور الذي يدافع عن أوروبا والغرب، ويقبل الموت من أجلها.
بعد زوال هذا الخطر، وانتهاء الحرب الباردة، ظن الأتراك أن انضمامهم الكامل للاتحاد ألأوروبي سيكون هدية الغرب لهم، على تضحياتهم الجسام بعد اتفاق الشراكة الموقع عام 1963. تطورت الأمور بعد ذلك، ووضعت أوروبا شروطاً لدخول تركيا، وليس فقط موافقة تلقائية، كثمن تدفعه للأتراك عى ما فعلوه من أجلها، وافق الأتراك على مضض على هذه الشروط، وهو الوصول إلى وضع دولة ديمقراطية غربيه تحترم القيم الإنسانية والأقليات وتتبنى الانتخابات الحرة، كوسيلة للانتقال السلمي للسلطة. هي نفس الشروط التي تُطبقها أوروبا على نفسها، واشترطتها لانضمام إسبانيا والبرتغال ودول أوروبا الشرقية فيما بعد.
هذه المرة ما قدمته تركيا لتحقيق هذه الشروط، لم يكن لطمأنة أوروبا، بل كان تحديثاً للدولة التركية، وهو ما انعكس على الوضع الاجتماعي والسياسي والسلم الداخلي، وخصوصاً الوضع الاقتصادي وانتقال تركيا إلى مرتبة عالية بين الدول الصناعية المتقدمة.
هذه الشروط الأوروبية، وإن لم تُطبق كلياً، هي التي سمحت بوصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي للسلطة، ودحر خطر الانقلابات العسكرية، فلم تكن توجد قوة تستطيع أن تُبعد الحُلم الأوروبي لرجال السياسة والعسكر الأتراك، وأُغلق الباب أمام مطامع السلطوية الاستبدادية.
رغم التقدم الديمقراطي والانفتاح الداخلي، لم تختفي المُعيقات أمام لحاق تركيا بركب الغرب، وبدا واضحاً للحكم التركي أن الأمل قد تلاشى تماما فالغرب لن يعتبر تركيا جزء منه، لأنها حقيقة جزءً من الشرق.
هل العودة إلى الوضع الذي كانت عليه تركيا قبل الانفتاح الديمقراطي، هو الرد المناسب على أوروبا. كان الأجدر بالحكم التركي، أن يدرس الرفض الأوروبي من المنظار التاريخي والسسيولوجي لأوروبا وتركيا، فهذا البلد المسلم، ذا الثمانين مليون ساكن، له تاريخ طويل عدائي مع أوروبا وشعوبها. بنى العثمانيون إمبراطوريتهم، بعد فتح القسطنطينية عام 1453، وانهيار الإمبراطورية البيزنطينية، والاستيلاء على البلقان، ووصول فينا والقرم، واستمرت الحروب لسنوات طويلة، تركت أثرها بالذكرى الجماعية، ليس فقط عند الأوروبيين، وإنما عند الأتراك أيضاً. انتهت هذه الإمبراطورية، بعد هزيمتها بالحرب العالمية الأولى، وتقسيم إرثها فيما يُسمى باتفاقيات سايكس بيكو، وبناء الدولة التركية الحديثة العلمانية على يد أتاتورك.
عاش الأتراك وحكموا بلاد المسلمين، لقرون طويلة، وهم جزء مهم من التاريخ الإسلامي وحتى التاريخ العربي، انتمائهم الحقيقي، تاريخياً واجتماعياً إذن، حفر بالصخر بالشرق. ولم يقبلهم الغرب، إلا لاحتواء الدولة الناشئة، ولم يُعطي لهم دوراً اوروبي إلا لخدمة الأغراض الأوروبية، وهو الفخ الذي وقعت فيه تركيا منذ البدء.
الأمة العربية وباقي الأمم الإسلامية ليس لها مصلحة أن تنسلخ عنها تركيا لتلتحق بركب شعوب أخرى، فهي جزء منا تاريخياً وجغرافياً ودينياً ونفسياً وعاطفياً، وتستطيع أن تكون المحرك للتغيرات الديمقراطية، والعنصر الأساس لبناء تجمع شرقي إسلامي، يُضاهي التجمع الأوروبي. إنضمام تركيا لأوروبا سيكون قوة لأوروبا، وابتعادها عن محيطها الطبيعي الشرقي، هو إضعاف لنا.
ضياع الأندلس بالنسبة لنا إذا هو فقداننا لتركيا، الدولة النموذج، المنار المُشع ،الملهمة للآمال والدافعة إلى التوفيق بين حضارة شرقية إسلامية، وحضارة إنسانية حديثة، تحترم المواطن وحقوقه والأقليات مهما كانت، وتبني علاقاتها مع الآخرين، على مبدأ التعاون وليس العداء، وتتبادل بها السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية، وتفصل الدين عن الدولة.
الانكفاء التركي الحالي، والعودة لزمن البؤس الفكري، والقمع الأهوج للحريات العامة، يُدمر بنفس المواطن العربي والمسلم هذا ألحلم ويرمينا م جديد بمتاهات الصراعات الطائفية والعرقية، التي لن تبني يوما وطناً.
بكينا على ضياع الأندلس وحضارتها الشامخة، لأننا لم نعرف أن نحتفظ بها كالرجال، وها نحن نفقد تركيا وما تمثله من أمل الخروج من حكومات الاستبداد.
أملنا أن يستعيد الشعب التركي صوابه، وأن يرفض أبناء هذه الأمة العظيمة بعطائها، الانجرار وراء أحلام العظمة المريضة وهستيريا المؤامرات المُتخيلة، وألا يدفعه حبه لأردغان، للانجرار وراء الأوهام، كما فعل المصريون والعرب، بالانجرار وراء الرئيس عبد الناصر، بسنوات الستينات، حتى وصلنا لنكبات لم نخرج منها حتى اليوم، وقد قتلنا حبنا له. فهل سنعود من جديد للبكاء على الأندلس.
(1)Echo صحيفة اقتصادية فرنسية مشهورة
(2)Libération صحيفة سياسية فرنسية مشهورة
(3) احصائيات البنك الدولي ( doing business)